الجود بالعلم
إنَّ الحمدَ لله نحمدُه، ونستعينُه، ونستغفرُه، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا، ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله، وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله.أما بعد:
فالجود والكرم أنواع وصور، وبعض الناس يظن أن الجود والكرم مقتصرا على بذل المال.
قال العلامة ابن عثيمين رحمه الله في «مكارم الأخلاق» (ص: 25): «والكرم ليس كما يظنه بعض الناس أنه بذل المال فقط، بل الكرم يكون في بذل النفس، وفي بذل الجاه، وفي بذل المال، وفي بذل العلم» اهـ.
ومن أعلى مراتب الجود والكرم؛ الجود بالعلم، والجود بالعلم أفضل من الجود بالمال.
عن أنس بن مالك رضي الله عنه، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((ألا أخبركم عن الأجود الأجود؟: الله الأجود الأجود، وأنا أجود ولد آدم، وأجودهم من بعدي رجل علم علما فنشر علمه يبعث يوم القيامة أمة واحدة، ورجل جاد بنفسه في سبيل الله حتى يقتل)).
أخرجه أبو يعلى الموصلي في «المسند» (رقم: 2790) وابن عبد البر في «جامع بيان العلم وفضله» (رقم: 785).
قال الحافظ ابن رجب الحنبلي رحمه الله في «لطائف المعارف» (ص: 164): «وخرج ابن عدي بإسناد فيه ضعف من حديث أنس مرفوعا ... ثم ساق الحديث» اهـ.
وقال الحافظ الهيثمي رحمه الله في «مجمع الزوائد ومنبع الفوائد» (9/ 13): «رواه أبو يعلى، وفيه سويد بن عبد العزيز، وهو متروك» اهـ.
وقال الحافظ ابن حجر رحمه الله في «فتح الباري» (1/ 30): «وفي سنده مقال» اهـ.
والحديث أودعه العلامة الألباني «سلسلة الأحاديث الضعيفة والموضوعة» (12/ 802) (رقم: 5882).
وقال حكيم: الجود التام: بذل العلم.
ذكره تفسير الراغب الأصفهاني في «تفسيره» (1/ 82)
قال العلامة ابن القيم رحمه الله في «مدارج السالكين بين منازل إياك نعبد وإياك نستعين» (2/ 279): «الجود بالعلم وبذله. وهو من أعلى مراتب الجود. والجود به أفضل من الجود بالمال. لأن العلم أشرف من المال.
والناس في الجود به على مراتب متفاوتة. وقد اقتضت حكمة الله وتقديره النافذ: أن لا ينفع به بخيلا أبدا.
ومن الجود به: أن تبذله لمن يسألك عنه، بل تطرحه عليه طرحا» اهـ.
عن ابن عباس رضي الله عنهما قال: (كان رسول الله صلى الله عليه وسلم، أجود الناس، وكان أجود ما يكون في رمضان، حين يلقاه جبريل وكان يلقاه في كل ليلة من رمضان، فيدارسه القرآن فلرسول الله صلى الله عليه وسلم أجود بالخير من الريح المرسلة).
متفق عليه.
قال الحافظ ابن حجر رحمه الله في «فتح الباري» (1/ 31): «فيدارسه القرآن قيل الحكمة فيه أن مدارسة القرآن تجدد له العهد بمزيد غنى النفس والغنى سبب الجود والجود في الشرع إعطاء ما ينبغي لمن ينبغي وهو أعم من الصدقة وأيضا فرمضان موسم الخيرات لأن نعم الله على عباده فيه زائدة على غيره فكان النبي صلى الله عليه وسلم يؤثر متابعة سنة الله في عباده فبمجموع ما ذكر من الوقت والمنزول به والنازل والمذاكرة حصل المزيد في الجود والعلم عند الله تعالى» اهـ.
وقال الملا علي القاري رحمه الله في «جمع الوسائل في شرح الشمائل» (2/ 167): «(أجود الناس) أي: أسخاهم وأكرمهم (بالخير) أي: مآلا وحالا فالخير شامل لجميع أنواعه حالا ومآلا من بذل العلم والخلق والمال والجاه إفضالا وإكمالا» اهـ.
وقال العلامة ابن عثيمين رحمه الله في «مجالس شهر رمضان» (ص: 7: «فلرسول الله صلى الله عليه وسلم حين يلقاه جبريل أجود بالخير من الريح المرسلة. وكان جوده صلى الله عليه وسلم يجمع أنواع الجود كلها من بذل العلم والنفس والمال لله عز وجل في إظهار دينه وهداية عباده وإيصال النفع إليهم بكل طريق من تعليم جاهلهم وقضاء حوائجهم وإطعام جائعهم. وكان جوده يتضاعف في رمضان لشرف وقته ومضاعفة أجره» اهـ.
ومن صور جود الرسول عليه الصلاة والسلام بالعلم والسخاء به الزيادة في الجواب لما يتوقع احتياجه:
عن أبي هريرة رضي الله عنه، قال: سأل رجل رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال: إنا نركب البحر، ونحمل معنا القليل من الماء، فإن توضأنا به عطشنا، أفنتوضأ من ماء البحر؟
قال: فقال النبي صلى الله عليه وسلم: «هو الطهور ماؤه، الحل ميتته».
أخرجه أحمد في «المسند» وأبو داود في «السن» والترمذي في «السن» والنسائي في «السن الكبرى» و «السن الصغرى» وابن ماجه في «السن» والدارمي في «المسند» ومالك في «الموطأ» والحاكم في «المستدرك» وابن خزيمة في «صحيحه» وابن حبان في «صحيحه» وابن أبي شيبة في «المصنف» والدارقطني في «السن» وابن الجارود في «المنتقى» والطحاوي في «مشكل الآثار» والبيهقي في «السن الكبرى» وفي «السن الصغرى» وفي «معرفة السنن والآثار» وابن المنذر في «الأوسط» والدولابي في «الكنى» وصححه الألباني.
قال العلامة ابن عثيمين رحمه الله في «فتح ذي الجلال والإكرام بشرح بلوغ المرام» (4/ 25): «رسول الله صلى الله عليه وسلم كان من حسن تعليمه إذا ذكر الشيء ذكر ما يمكن أن يحتاج إليه السائل وعن لم يسأل عنه، وهذا من الجود بالعلم، كما لو سألك فقير قال: أعطني قميصاً، فأعطيته قميصاً وعمامة، فعن هذا من الكرم بالمال والزيادة على سؤال السائل، ونظير هذا أن النبي صلى الله عليه وسلم سئل عن البحر فقال: "هو الطهور ماؤه الحل ميتته"، مع انه لم يسأل عن الميتة، لكن من ركب البحر سيحتاج إلى الأكل، فبين النبي صلى الله عليه وسلم ما يمكن أن يحتاج إليه؛ لان ميتته طاهرة» اهـ.
وعن ابن عمر رضي الله عنهما، عن النبي صلى الله عليه وسلم أن رجلا سأله: ما يلبس المحرم؟ فقال: «لا يلبس القميص، ولا العمامة، ولا السراويل، ولا البرنس، ولا ثوبا مسه الورس أو الزعفران، فإن لم يجد النعلين فليلبس الخفين، وليقطعهما حتى يكونا تحت الكعبين».
متفق عليه.
قال العلامة ابن القيم رحمه الله في «إعلام الموقعين» (6/45): «يجوز للمفتي أن يجيب السائل بأكثر مما سأل عنه، وهذا من كمال نصحه وعلمه وإرشاده، ومن عاب ذلك فلقلَّة علمه وضيق عطنه وضعف نصحه، وقد ترجم البخاري على ذلك في "صحيحه" فقال: (باب من أجاب السائل بأكثر مما سأل عنه)، ثم ذكر حديث ابن عمر -رضي اللَّه عنهما-: ما يلبس المحرم فقال: رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم-: "لا يلبس القُمُصَ، ولا العمائم، ولا السراويلات، ولا الخِفَاف إلا أن لا يجد نعلين فليلبس الخفين وليقطعهما أسفل من الكعبين".
فسئل رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وسلم عمَّا يلبس المُحْرِم؟ فأجاب عما لا يلبس، فتضمن ذلك الجواب عما يلبس، فإن ما لا يلبس محصور، وما يلبسه غير محصور، فذكر لهم النوعين وبيَّن لهم حكم لبس الخف عند عدم النعل، وقد سألوه صلى اللَّه عليه وسلم عن الوضوء بماء البحر، فقال لهم: "هو الطهور ماؤه الحل ميتته"» اهـ.
ومن صور الجود بالعلم إذا ذكر الشيء المحرم أرشد ودلَّ على المباح.
عن أبي سعيد ألخدري وأبي هريرة رضي الله عنهما أن رسول الله «استعمل رجلاً على خيبر، فجاءه بتمر جنيب، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: أكل تمر خيبر هكذا؟ فقال: لا والله يا رسول الله، إنا لنأخذ الصاع من هذا بالصاعين والثلاثة، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم لا تفعل، بع الجمع بالدراهم، ثم ابتع بالدراهم جنيباً». وقال في الميزان مثل ذلك.
متفق عليه.
قال العلامة ابن القيم رحمه الله في «إعلام الموقعين» (6/46-47): «من فقه المفتي ونصحه إذا سأله المستفتي عن شيء فمنعه منه، وكانت حاجته تدعوه إليه أن يدله على ما هو عوض له منه، فيسد عليه باب المحظور، ويفتح له باب المباح، وهذا لا يتأتَّى إلا من عالم ناصح مشفق قد تاجر اللَّه وعامله بعلمه فمثاله في العلماء مثال الطيب العالم النَّاصح في الأطباء يحمي العليل عما يضرُّه ويصف له ما ينفعه، فهذا شأن أطباء الأديان والأبدان، وفي "الصحيح" عن النبي -صلى اللَّه عليه وسلم- أنه قال: "ما بعث اللَّه من نبي إلا كان حقًا عليه أن يدل أمَّته على خير ما يعلمه لهم، وينهاهم عن شر ما يعلمه لهم".
وهذا شأن خَلف الرسل وورثتهم من بعدهم، ورأيت شيخنا قدَّس اللَّه روحه يتحرَّى ذلك في فتاويه مهما أمكنه، ومن تأمل فتاويه وجد ذلك ظاهرًا فيها، وقد منع النبي -صلى اللَّه عليه وسلم-، بلالًا أن يشتري صاعًا من التمر الجيد بصاعين من الرديء، ثم دلَّه على الطريق المباح فقال: "بعْ الجمع بالدراهم، ثم اشتر بالدراهم جنيبًا"، فمنعه من الطريق المحرَّم، وأرشده إلى الطريق المباح، ولما سأله عبد المطلب بن ربيعة بن الحارث والفضل بن عباس أن يستعملهما في جباية الزكاة ليصيبا ما يتزوجان به منعهما من ذلك، وأمر مَحْمِية بن جزء، وكان على الخمس أن يعطيهما منه ما ينكحان به، فمنعهما من الطريق المحرم، وفتح لهما باب الطريق المباح، وهذا اقتداء منه بربه تبارك وتعالى، فإنه يسأله عبده الحاجة فيمنعه إياها ويعطيه ما هو أصلح له، وأنفع منها، وهذا غاية الكرم والحكمة» اهـ.
ومن صور الكرم بالعلم والجود به بالتبسط في إجابة السؤال مع ذكر الدليل والإعتراض عليه والجواب على الإعتراض وذكر الأقوال في المسألة وكلام أهل العلم عليها.
قال العلامة ابن القيم رحمه الله في «مدارج السالكين بين منازل إياك نعبد وإياك نستعين» (2/ 279): «ومن الجود بالعلم: أن السائل إذا سألك عن مسألة: استقصيت له جوابها جوابا شافيا، لا يكون جوابك له بقدر ما تدفع به الضرورة، كما كان بعضهم يكتب في جواب الفتيا: نعم، أو: لا. مقتصرا عليها.
ولقد شاهدت من شيخ الإسلام ابن تيمية - قدس الله روحه - في ذلك أمرا عجيبا:
كان إذا سئل عن مسألة حكمية، ذكر في جوابها مذاهب الأئمة الأربعة، إذا قدر، ومأخذ الخلاف، وترجيح القول الراجح. وذكر متعلقات المسألة التي ربما تكون أنفع للسائل من مسألته. فيكون فرحه بتلك المتعلقات، واللوازم: أعظم من فرحه بمسألته» اهـ.
ومن صور الجود بالعلم إعارة الكتاب لمن ينتفع به.
قال العلامة ابن مفلح رحمه الله في « الآداب الشرعية والمنح المرعية» (2/ 16: «قال الخلال كراهية حبس الكتاب قال المروذي قلت لأبي عبد الله: رجل سقطت منه ورقة فيها أحاديث فوائد فأخذتها، ترى أن أنسخها وأسمعها؟ قال: لا إلا بإذن صاحبها.
وقال يونس بن يزيد قال لي الزهري: إياك وغلول الكتب قال حبسها عن أهلها. انتهى ما ذكره الخلال.
وقال الطحاوي كان الشافعي قد طلب من محمد بن الحسن كتاب السير فلم يجبه إلى الإعارة فكتب إليه:
قل للذي لم تر عين ... من رآه مثله
حتى كأن من رآه ... قد رأى من قبله
العلم ينهى أهله ... أن يمنعوه أهله
لعله يبذله ... لأهله لعله
فوجه إليه به في الحال هدية لا عارية، وقال ابن الجوزي: ينبغي لمن ملك كتابا أن لا يبخل بإعارته لمن هو أهله، وكذلك ينبغي إفادة الطالبين بالدلالة على الأشياخ وتفهيم المشكل، فإن الطلبة قليل وقد عمهم الفقر فإذا بخل عليهم بالكتاب والإفادة كان سببا لمنع العلم.حتى كأن من رآه ... قد رأى من قبله
العلم ينهى أهله ... أن يمنعوه أهله
لعله يبذله ... لأهله لعله
قال سفيان: تعجلوا بركة العلم، ليفد بعضكم بعضا، فإنكم لعلكم لا تبلغون ما تؤملون وقال وكيع: أول بركة الحديث إعارة الكتب، وقال ابن المبارك من بخل بالعلم ابتلي بثلاث: إما أن يموت فيذهب علمه أو ينساه أو يتبع السلطان» اهـ.
وفي مقابل السخاء والجود بالعلم البخل به، وهو من أسوء أنواع البخل إن لم يكون أسوئها.
قال الله تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ يَكْتُمُونَ مَا أَنزَلْنَا مِنْ الْبَيِّنَاتِ وَالْهُدَى مِنْ بَعْدِ مَا بَيَّنَّاهُ لِلنَّاسِ فِي الْكِتَابِ أُوْلَئِكَ يَلْعَنُهُمْ اللَّهُ وَيَلْعَنُهُمْ اللاَّعِنُونَ} [البقرة:159].
وعن عبد الله بن عمرو بن العاص رضي الله عنهما، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم، قال: «من كتم علما ألجمه الله يوم القيامة بلجام من نار» .
أخرجه الحاكم في «المستدرك» وابن حبان في «صحيحه» والطبراني في «الكبير» وفي «الأوسط» والبيهقي والطبراني في «المدخل» وابن عبد البر في «جامع بيان العلم وفضله» (رقم: 7،.
أما قول الشاعر:
يجود بالنفس إن ضن البخيل بها *** والجود بالنفس أقصى غاية الجود.
وقال الشاعر الآخر: بحر يجود بماله وبجاهه *** والجود كل الجود بذل الجاه
والله أعلم هذا قصور فالجود بالعلم أعلى من الجود بالنفس فضلا عن الجود بالمال أو الجاه، فالعلم هو المحرك الرئيسي لبذل النفس رخيصة في سبيل الله وبذل المال والجاه.هذا والله أعلم، وبالله التوفيق، وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين.
كتبه
عزالدين بن سالم بن الصادق أبوزخار
طرابلس الغرب: يوم الخميس 2 ذي القعدة سنة 1443 هـ
الموافق 2 يوليو 2022 ف
عزالدين بن سالم بن الصادق أبوزخار
طرابلس الغرب: يوم الخميس 2 ذي القعدة سنة 1443 هـ
الموافق 2 يوليو 2022 ف