حماية المواهب
محمد بوسلامة
لا تعجبنْ من هالك كيف هوى *** بل فاعجبنْ من سالم كيف نجا
لقد لمعت منهم لوامع النُّبوغ، وهم دون البلوغ، وسطعت لهم سواطعُ المواهبْ، وتوقَّدت لها فيهمُ الملاهبْ، إلاَّ أنَّ لهب المواهب كَلَهَبِ النَّار، إذا لم تمدَّ بوَقودها خمدت وصارت رمادًا تذروه الرِّياح، رياحٌ خَبُثَ منها الهواء، واغبرَّت الأجواء، فإلى أين أيُّها الصِّبيان أنتم ذاهبون، أَلِملاعب تلعب بعقولكم، أم إلى ملاهٍ تغتال نفوسكم، أم إلى طرقات تشعَّبت بكم مسالكُها، وتزيَّنت لكم مهالكها، فلا تردون منها إلاَّ على مقابح، ولا تسمعون فيها إلاَّ صوت نابح، أم إلى مدارس تُبَلِّدُ عقل الذَّكي، وتُبَدِّدُ ذهن الغَبي، أم إلى بيوت هيَّأت لكم صحونًا تأكلون فيها، وصحونًا تُؤكلون فيها، بل يُؤكل فيها أهل الدَّار جميعا، لقد آضت[1] البيوت اليوم مآويَ يأوي إليها الأولاد ليستريحوا من عناء اليوم كما تأوي القطعان إلى أفياء الجُدُرِ فَيَنَامُون ويأكلون ويشربون، هذا لأجسادهم، أمَّا عقولهم فقد انبرى لها قوم آخرون، إذ هم اليوم أقْدَر على الولد من والديه، وأملك لأمره، فهم الَّذين يُهَوِّدونه أو يمجِّسونه أو ينصِّرونه أو يمسخونه، فهم بالأولاد أظفرْ، وحظهم في نشأتهم أوفرْ، ثمَّ إنَّني قد سرَّحت الفكرَ في قوله ـ عليه الصَّلاة والسَّلام ـ: «كُلُّ مَوْلُودٍ يُولَدُ عَلَى الفِطْرَةِ؛ فَأَبَوَاهُ يُهَوِّدَانِهِ أَوْ يُنَصِّرَانِهِ أَوْ يُمَجِّسَانِهِ»، فألفيته مشتملاً على إشارات بديعة تُومِئ إلى البعيد بالقريب، وتجود على المتأمِّلين بأوفى نصيب، وذلك أنَّ الحديث لم يأتِ لحصر وجوه الزَّيغ فيما ذكر، فإنَّه قد يحيد به عن الإسلام غيرُ أبويه، وقد يكون ذلك الزَّيغ إلى غير الأديان المذكورة، وقد لا يكون الميل عن فطرته الدِّينيَّة وإنَّما يكون عن عطيَّة نفسيَّة وهبة عقليَّة، كما قد يكون المحيد عن سبيل السُّنَّة إلى غيرها من سبل الباطلْ، وليس جِيدُ الحديث عمَّا ذكرنا بعاطلْ، وإنَّما خصَّ الوالدين بالذِّكر لكون تربيته على أيديهما في الغالب، وفيه إشارة إلى أنَّ فساد الأولاد من فساد المربِّين، فَرَمَزَ بالوالدين إلى كلِّ مرب، وخصَّ الأديان الثَّلاثةَ بالذّكر لشهرتها عند العرب، ورمز بها إلى كلِّ مِلَل الكفر، كما أشار بالزَّيغ عن الإسلام للكفر إلى كلِّ زيغ من حَسَنٍ إلى قبيح، إلاَّ أنَّ المذكور في الحديث هو أقبح أنواع الزَّيْغ، وأومأ على طريقة القياس الجليِّ إلى أنَّ المواهب النَّفسيَّة الَّتي هي منح إلهيَّة قد يقتلعها منشأ السُّوء، وبيانه أن يُقال: إذا كان الولد قد تميل به نشأة السُّوء عن فطرة التَّوحيد الَّتي هي ألصق به من ذراعه ورأسه فكيف بغيرها من سائر المواهب المفطور عليها، فكان في هذا تنبيه بالأعلى على الأدنى، فكأنَّ الَّذي أوتي جوامعَ الكلم ـ عليه الصَّلاة والسَّلام ـ يقول لنا: كلُّ خير يولد عليه الإنسان أو وَصف حميد يكون عليه قد تذهب به نشأةُ السُّوء، فأحسنوا نشأته، ولنا مثلُ هذا في الأحاديث النَّبويَّة شيء كثير، ولا أدري ما قول السَّادة الفقهاء فيما ذكرته، غير أنِّي قد حاولت طرائقهم في اعتبار الإيماء والتَّلويح واقتناص المعاني، ولم يك هذا منِّي بالقول الْمُرَجَّم ولو فرغ لهذا رجل من أهل الشَّريعة لاستخرج له أصولاَ، وجعل له فصولا، وما أحوج هذه المعاني إلى جِهْبِذ يسلك فيها مسالك التَّأسيسْ، على طريقة الإمام ابن باديسْ، غير أنَّ زمن أمثاله قد ولَّى، وألقى ما فيه وتخلَّى، فهل من الإمكان أن يكون مثلُ ما كان، ولقد سألني بعض النُّبلاء من أهل الجزائر المحميَّة بالله عن سبب قلَّة العلماء في إقليمنا، فقلت له: ليس ما تراه لقلَّة العقول، وإنَّما هو لقلَّة حماة العقول، وإنَّ هذا السُّؤال الْمُوجِعَ لتشتدُّ بُرَحَاؤُه على رجلٍ عَلِمَ تاريخ البلاد، ومآثر الأجداد، فَتَرَانِي أبتدر الجواب في عجل، لإزالة هذا الخجل على طريقة «كان أبي»، بذكر من يحضرني من علماء الزَّمن القديم، فأتعلَّل بذكر الدَّاودي[2]، والرَّماصي[3]، وابن مرزوق[4]، والْمَشَدَّالي[5]، وعبد الرَّحمن الثَّعالبي[6]، وأبي راس[7]، وغيرهم من أساطين العلم رافعًا عَقِيرَتِي بقولي في الأرجوزة الزِّيانيَّة:
ولستُ أُخْليها من الأعلامِ *** فتركهم مجلبة الملامِ
أذكر منهم بعضَ من قد اشتهرْ *** فعدُّهم كعدِّ أوراق الشجرْ
إنَّ هؤلاء الأعلام أنجبتهم بلاد الجزائر فغذُّوا بغذائها وشربوا من مائها وتنفَّسوا من هوائها، فكم بين أبنائنا اليوم من ابن مرزوق ومَشَدَّالي ورماصي وأمثالِهم، قد تهيَّأت ـ والله ـ نفوسهم لِمَا تهيَّأت له نفوسُ أولئك الأقمار لو أنَّهم أتيح لهم ما أتيح لأسلافهم من حسن التَّربية والتَّعليم، قالت العرب: مَنْ كَتَمَ داءَه قَتَلَهُ، إنَّ مدرستنا قد انهارت، وإنَّ مجاريَ التَّعليم قد غارت، فلو لم يتلافَ هذا الأمرَ بقيَّةُ العلماء في هذه الدِّيار وأهلُ السَّعَة من الصَّالحين وولاةُ الأمور فسوف تتهافت بين أيديهم الأجيال كما تتهافت الفراش على شعلة الفتيل، فكم من جريح وكم من قتيل، إنَّه تهافت الأجيال الَّذي تزول به الدُّول وتضعف منه الأمم وتنقرض به الحضارات، إنِّني أدعو إلى حماية المواهب من الْمُخْمِدَات الَّتي تمالأت على إطفائها فتبلغ بناشئة الأجيال إلى التَّخاذل والشُّعور بالنَّقيصة والقصور فلا تنهض لهمُ الهمم، ولا ترتقي عزائمُهُمُ القِمم، إنَّنا في زمن قد كثرت فيه عوامل الخفض والسُّكون، وقَلَّتْ فيه عوامل الرَّفع، ونسأل الله الفتح المبين.
ـ تمت ـ
[1] بمعنى صارت.
[2] من علماء الجزائر الذَّين انتهت إليهم الرِّئاسة، وهو أوَّل من شرح البخاري، وقد أكثر الحافظ ابن حجر وغيره من الشُّرَّاح النَّقل عنه.
[3] هو العلاَّمة الكبير المحقِّق مصطفى الرّماصي المعسكري، عليه اعتمادُ شرَّاح خليل وأهل الحواشي من المشارقة والمغاربة.
[4] آل ابن مرزوق بيتٌ عريق في العلم، وكان جدُّهم في زمانه يسمَّى عالم الدُّنيا.
[5] مفخر حاضرة بجاية، أعجوبة الزَّمان، شهد له الحافظ السخاوي ـ تلميذ ابن حجر ـ أنَّه لم ير مثله.
[6] الشيخ المفسِّر، صاحب التَّصانيف المشهورة، عاش وتوفي بمدينة الجزائر ..
[7] الفقيه الأديب، له مؤلَّفات في فنون شتَّى من علماء معسكر.
المصدر موقع راية الاصلاح