بسم الله الرحمن الرحيم
المجاهد التقني
الحمد لله الذي جعل في كل زمان فترة من الرسل، بقايا من أهل العلم يدعون من ضل إلى الهدى، ويصبرون منهم على الأذى، يحيون بكتاب الله الموتى، ويبصرون بنور الله أهل العمى، فكم من قتيل لإبليس قد أحيوه، وكم من ضالٍ تائه قد هدوه، فما أحسن أثرهم على الناس، وأقبح أثر الناس عليهم.المجاهد التقني
ينفون عن كتاب الله تحريف الغالين، وانتحال المبطلين، وتأويل الجاهلين، الذين عقدوا ألوية البدع، وأطلقوا عقال الفتنة فهم مختلفون في الكتاب، مخالفون للكتاب، مجمعون على مفارقة الكتاب، يقولون على الله، وفي الله، وفي كتاب الله بغير علم يتكلمون بالمتشابه من الكلام، ويخدعون جهال الناس بما يشبهون عليهم، فنعوذ بالله من فتن الضالين [1].
أما بعد:
فلرفع راية الإسلام عالية في سماء العز والرفعة والتمكين، تحتاج بعد توفيق الله لرجال صادقين أتقياء أنقياء علماء حلماء، وهؤلاء الرجال على ضربين: قسم يجاهد بالسيف والسنان وقسم يجاهد بالقلم واللسان.
وجهاد العلم على قسمين:
أولا: الجهاد في تحصيل العلم.
من استغل هذا الشبكة في تحصيل العلم، وتخير أفضل المواقع وانقى أطيب الإذاعات التي تعمل على نشر العلم وبث الدروس العلمية والبحوث الأثرية، فهو مجاهد تقني.
قال الله تعالى: {وَمَا كَانَ الْمُؤْمِنُونَ لِيَنْفِرُوا كَافَّةً فَلَوْلا نَفَرَ مِنْ كُلِّ فِرْقَةٍ مِنْهُمْ طَائِفَةٌ لِيَتَفَقَّهُوا فِي الدِّينِ وَلِيُنْذِرُوا قَوْمَهُمْ إِذَا رَجَعُوا إِلَيْهِمْ لَعَلَّهُمْ يَحْذَرُونَ} [التوبة: 122].
قال العلامة ابن باز رحمه الله في ((مجموع فتاواه)) (24/74-75): ((طلب العلم من الجهاد، وهو واجب للتفقه في الدين وطلب العلم، وإذا وجد جهادًا في سبيل الله -الجهاد الشرعي- شارك فيه إذا وجد ذلك، وهو من أفضل الأعمال. ولكن عليه أن يتعلم ويتفقه في الدين، وهو أفضل ومقدم على الجهاد؛ لأنه واجب عليه أن يتفقه في دينه، والجهاد مستحب فرض كفاية؛ إذا قام به البعض سقط عن الباقين، لكن تعلم الإنسان العلم أمر مفترض عليه ليتفقه في دينه، وإذا يسر الله له جهادًا إسلاميًا فلا بأس، يشرع له المشاركة إذا قدر، ولكن بإذن والديه.
أما الجهاد الواجب؛ الذي يهجم العدو على البلد، فيجب على الجميع الجهاد إذا هجم العدو على بلاد المسلمين، وجب عليهم كلهم أن يجاهدوا، وأن يدفعوا شر العدو كلهم، حتى النساء يجب عليهن أن يدفعن شر العدو بما استطاعوا.
أما جهاد الطلب، فكونه يذهب إلى العدو في بلاده ويجاهد في بلاده، فهذا فرض كفاية على الرجال)) اهـ.
قال العلامة ابن عثيمين رحمه الله في ((مجموع فتاواه ورسائله)) (25/ 345): ((وطلبُ العلم كالجهاد في سبيل الله، لأنَّ الله تعالى جعله عَدِيلاً له في قوله: {وَمَا كَانَ الْمُؤْمِنُونَ لِيَنْفِرُوا كَافَّةً فَلَوْلَا نَفَرَ مِنْ كُلِّ فِرْقَةٍ مِنْهُمْ طَائِفَةٌ لِيَتَفَقَّهُوا فِي الدِّينِ وَلِيُنْذِرُوا قَوْمَهُمْ إِذَا رَجَعُوا إِلَيْهِمْ لَعَلَّهُمْ يَحْذَرُونَ}. فجعل الله التفقه في الدين معادِلاً للجهاد في سبيل الله، وغزو المسلمين ليس بالسلاح فقط، وإنما هو بالسلاح والفكر والخُلُق، والغزو بالفكر لا يُقاوَم إلا بالعلم، والأخلاق أيضًا لا تُقاوَم إلا بالعلم والاستقامة)) اهـ.
ثانيا: الجهاد في نشر العلم.
الجهاد بالقلم واللسان هو المحرك الأساسي للجهاد بالسيف والسنان، فلا يُعرف فضل الجهاد في سبيل الله ومنزلة الشهداء ومرتبة الرباط في الثغور وما تعلق بها من الأجور العظيمة والثواب الجزيل، وما ينبني من أحكام المغانم والفيء والسبي، وكذلك بيان خطر التولي يوم الزحف والغلول وموالاة الكفار وغير ذلك مما يحتاجه المجاهد في سبيل الله عز وجل، لا يتأتى معرفة هذه الفضائل والأحكام إلا بما قام به رجال جاهدوا باللسان والبنان عبر العصور والأزمان.
وممن هم على ثغر في هذه المواقع وفي برامج التواصل الإلكتروني رجال خلف الشاشات - مجاهدون تقنيون - يرشدون الحيارى ويهدون من ضل ويعلمون من جهل ويذكرون من غفل وينبهون من زل ويقمعون أهل الأهواء ويردون شبههم أهل الضلال والعمى ويذبون من العلماء ويجاهدون حق الجهاد.
وبث العلم ونشره في برامج التواصل والمواقع عبر الشبكة العنكبوتية من الجهاد، ومن قام به فهو مجاهد تقني.
قال العلامة ابن عثيمين رحمه الله في ((شرح دعاء قنوت الوتر)) (ص: 6): ((في نشرك للعلم نشرًا لدين الله ـ عزَّ وجلَّ ـ فتكون من المجاهدين في سبيل الله؛ لأنك تفتح القلوب بالعلم، كما يفتح المجاهد البلاد بالسلاح والإيمان)) اهـ.
وقال رحمه الله في ((شرح رياض الصالحين)) (5/ 414-415): ((ولا فرق بين المجاهد الذي يسوي قلل قوسه وبين طالب العلم الذي يستخرج المسائل العلمية من بطون الكتب كل منهم يعمل للجهاد في سبيل الله وبيان شريعة الله لعباد الله ولهذا أعقب المؤلف رحمه الله باب الجهاد بباب العلم ليبين أنه مثله بل إن بعض العلماء فضله على الجهاد في سبيل الله والصحيح أن في ذلك تفصيلا فمن الناس من يكون الجهاد في حقه أفضل ومن الناس من يكون طلب العلم في حقه أفضل فإذا كان الرجل قويا شجاعا مقداما لكنه في العلم بضاعته مزجاة قليل الحظ قليل الفهم يصعب عليه تلقي العلم فهنا نقول: الجهاد في حقه أفضل وإذا كان بالعكس رجل ليس عنده تلك القوة البدنية أو الشجاعة القلبية لكن عنده حفظا وفهما واجتهادا فهذا طلب العلم في حقه أفضل فإن تساوى الأمران فإن من أهل العلم من رجح طلب العلم لأنه أصل ولأنه ينتفع به الناس كلهم القاصي والداني وينتفع به من كان حيا ومن يولد بعد وينتفع به صاحبه في حياته وبعد مماته كما قال النبي صلى الله عليه وسلم: ((إذا مات الإنسان انقطع عمله إلا من ثلاث: صدقة جارية وعلم ينتفع به أو ولد صالح يدعو له)) وجميع الناس محتاجون للعلم الأنبياء وغير الأنبياء كلهم محتاجون للعلم ولهذا أمر الله نبيه أن يقول: {وقل رب زدني علما} {ولا تعجل بالقرآن من قبل إن يقضى إليك وحيه وقل رب زدني علما} فالرسل محتاجون إلى العلم والزيادة فيه وإلى سؤال الله عز وجل أن يزيدهم منه فمن دون الأنبياء من باب أولى فجدير بالعبد أن يسأل الله دائما أن يزيده من العلم ولكن إذا سأل الله أن يزيده من العلم فلابد أن يسعى في الأسباب التي يحصل بها العلم)) اهـ.
وقال رحمه الله في ((تفسير البقرة)) (3/ 422): ((والعلماء كذلك ورثة الأنبياء؛ فالعلم أفضل من المال - ولا مقارنة؛ وهو كالجهاد في سبيل الله؛ لأن الدِّين الإسلامي لم ينتشر إلا بالعلم، والسلاح؛ فالسلاح يذلل العدو؛ والعلم ينير له الطريق؛ ولهذا إذا ذلّ العدو للإسلام، وخضع لأحكامه، وبذل الجزية وجب الكف عنه، ولا يقاتَل؛ لكن العلم جهاد يجب أن يكون لكل أحد)) اهـ.
وقال العلامة سليمان الرحيلي حفظه الله في ((التعليقات النافعة)) (1/12: ((ومن الجهاد بالقول: نشر العلم وبيانه للناس، وهذا من أعظم الجهاد في سبيل الله، ونعني بالعلم: العلم الأصيل المأخوذ من كتاب الله، ومن سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم، والذي كان عليه سلف الأمة، ليس العلم الذي يوصف بأنه علم لجهة أن المتكلِّم به يقال له: شيخ، أو يقال له: عالم، وإنما يتكلم من هوى وعواطف ونحو ذلك، فهذا ليس العلم الذي يكون نشره جهادا، وإنما الجهاد في نشر العلم الأصيل الذي ينفع هذه الأمة إذا نُشر بينها)) اهـ.
وأختم بهذه النصيحة لمن دخل هذا الفضاء ورفع لواء الجهاد التقني.
قال العلامة ابن عثيمين رحمه الله في ((العلم)) (ص: 89-90): ((والنصيحة العامة لطالب العلم أن يكون عليه آثار علمه من تقوى الله - عز وجل والقيام بطاعته، وحسن الخلق، والإحسان إلى الخلق بالتعليم والتوجيه والحرص على نشر العلم بجميع الوسائل سواء كان ذلك عن طريق الصحف أو المجلات أو الكتب أو الرسائل أو النشرات وغير ذلك من الوسائل.
وأنصح طالب العلم أيضًا ألا يتسرع في الحكم على الشيء؛ لأن بعض طلبة العلم المبتدئين تجده يتسرع في الإفتاء وفي الأحكام وربما يخطِّىء العلماء الكبار وهو دونهم بكثير، حتى إن بعض الناس يقول: ناظرت شخصًا من طلبة العلم المبتدئين فقلت له: إن هذا قول الإمام أحمد بن حنبل. فقال: وما الإمام أحمد بن حنبل؛ الإمام أحمد بن حنبل رجل ونحن رجال، سبحان الله!! صحيح أن الإمام أحمد رجل وأنت رجل، فأنتما مستويان في الذكورة، أما في العلم فبينكما فرق عظيم، وليس كل رجل رجلا بالنسبة للعلم.
وأقول: إن على طالب العلم أن يكون متأدبًا بالتواضع وعدم الإعجاب بالنفس وأن يعرف قدر نفسه)) اهـ.
فمن وفقه الله لطلب العلم ونشره في هذه الشبكة وبرامج التواصل كان من المجاهدين. هذا والله أعلم، وبالله التوفيق، وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين.
كتبه
عزالدين بن سالم بن الصادق أبوزخار
طرابلس الغرب: ليلة الأثنين 3 ذي القعدة سنة 1442 هـ
الموافق لـ: 14 يونيو سنة 2021 ف
عزالدين بن سالم بن الصادق أبوزخار
طرابلس الغرب: ليلة الأثنين 3 ذي القعدة سنة 1442 هـ
الموافق لـ: 14 يونيو سنة 2021 ف
[1] من مقدمة الإمام أحمد لكتابه الرد على الجهمية والزنادقة.
تعليق