بسم الله الرحمن الرحيم
قال ابن عساكر: أخبرنا أبو غالب بن البنا، أنبأنا أبو محمد الجوهري ، أنبأنا أبو عمر بن حيوية وأبو بكر بن إسماعيل، قالا ثنا يحيى بن محمد بن صاعد، ثنا الحسين بن الحسن ، أنبأنا عبد الله بن المبارك، أنبأنا سفيان بن عيينة، عن موسى بن أبي عيسى ، قال : أتى عمر بن الخطاب مشربة بني حارثة فوجد محمد بن مسلمة فقال عمر كيف تراني يا محمد ؟فقال : أراك والله كما أحب وكما يحب من يحب لك الخير؛ أراك قويا على جمع المال عفيفا عنه عدلا في قسمه ولو ملت عدلناك كما يعدل السهم في الثقاف.
فقال عمر : هاه .
فقال : [ لو ] ملت عدلناك كما يعدل السهم في الثقاف.
فقال عمر : الحمد لله الذي جعلني في قوم إذا ملت عدلوني"([1]).
قال محقق سير أعلام النبلاء: " رجاله ثقات، لكنه منقطع موسى بن أبي عيسى هو الحناط ثقة من رجال مسلم، لم يدرك عمر"اهـ([2]).
فهذه القصة لا تثبت كما ترى.
وكذا ما روي أنه قيل لعمر: "لو ملت لقومناك بالسيف"، فإنه أثر منكر، معناه مخالف للأحاديث التي فيها الصبر على جور الأئمة، ونبذ مخالفتهم، والخروج عليهم، ومن ذلك :
ما جاء عَنْ جُنَادَةَ بْنِ أَبِي أُمَيَّةَ قَالَ: دَخَلْنَا عَلَى عُبَادَةَ بْنِ الصَّامِتِ وَهُوَ مَرِيضٌ قُلْنَا: أَصْلَحَكَ اللَّهُ حَدِّثْ بِحَدِيثٍ يَنْفَعُكَ اللَّهُ بِهِ سَمِعْتَهُ مِنْ النَّبِيِّ r قَالَ: دَعَانَا النَّبِيُّ r فَبَايَعْنَاهُ فَقَالَ فِيمَا أَخَذَ عَلَيْنَا أَنْ بَايَعَنَا عَلَى السَّمْعِ وَالطَّاعَةِ فِي مَنْشَطِنَا وَمَكْرَهِنَا وَعُسْرِنَا وَيُسْرِنَا وَأَثَرَةً عَلَيْنَا وَأَنْ لَا نُنَازِعَ الْأَمْرَ أَهْلَهُ إِلَّا أَنْ تَرَوْا كُفْرًا بَوَاحًا عِنْدَكُمْ مِنْ اللَّهِ فِيهِ بُرْهَانٌ([3])"([4]) .
وأرشد r إلى طاعة الأمير وإن رأينا منه ما نكره، لا ننزع يداً من طاعة!
عَنْ عَوْفِ بْنِ مَالِكٍ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ r قَالَ : "خِيَارُ أَئِمَّتِكُمْ الَّذِينَ تُحِبُّونَهُمْ وَيُحِبُّونَكُمْ وَيُصَلُّونَ عَلَيْكُمْ وَتُصَلُّونَ عَلَيْهِمْ وَشِرَارُ أَئِمَّتِكُمْ الَّذِينَ تُبْغِضُونَهُمْ وَيُبْغِضُونَكُمْ وَتَلْعَنُونَهُمْ وَيَلْعَنُونَكُمْ.
قِيلَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ أَفَلَا نُنَابِذُهُمْ بِالسَّيْفِ؟
فَقَالَ : لَا مَا أَقَامُوا فِيكُمْ الصَّلَاةَ وَإِذَا رَأَيْتُمْ مِنْ وُلَاتِكُمْ شَيْئًا تَكْرَهُونَهُ فَاكْرَهُوا عَمَلَهُ وَلَا تَنْزِعُوا يَدًا مِنْ طَاعَةٍ".
وفي رواية: "خِيَارُ أَئِمَّتِكُمْ الَّذِينَ تُحِبُّونَهُمْ وَيُحِبُّونَكُمْ وَتُصَلُّونَ عَلَيْهِمْ وَيُصَلُّونَ عَلَيْكُمْ وَشِرَارُ أَئِمَّتِكُمْ الَّذِينَ تُبْغِضُونَهُمْ وَيُبْغِضُونَكُمْ وَتَلْعَنُونَهُمْ وَيَلْعَنُونَكُمْ.
قَالُوا : قُلْنَا: يَا رَسُولَ اللَّهِ أَفَلَا نُنَابِذُهُمْ عِنْدَ ذَلِكَ؟
قَالَ : لَا مَا أَقَامُوا فِيكُمْ الصَّلَاةَ.
لَا مَا أَقَامُوا فِيكُمْ الصَّلَاةَ .
أَلَا مَنْ وَلِيَ عَلَيْهِ وَالٍ فَرَآهُ يَأْتِي شَيْئًا مِنْ مَعْصِيَةِ اللَّهِ فَلْيَكْرَهْ مَا يَأْتِي مِنْ مَعْصِيَةِ اللَّهِ وَلَا يَنْزِعَنَّ يَدًا مِنْ طَاعَةٍ"([5]) .
عن ابْن عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا عَنْ النَّبِيِّ r قَالَ: "مَنْ رَأَى مِنْ أَمِيرِهِ شَيْئًا يَكْرَهُهُ فَلْيَصْبِرْ عَلَيْهِ فَإِنَّهُ مَنْ فَارَقَ الْجَمَاعَةَ شِبْرًا فَمَاتَ إِلَّا مَاتَ مِيتَةً جَاهِلِيَّةً"([6]).
قال ابن تيمية رحمه الله: "الصبر على جور الأئمة أصل من أصول أهل السنة والجماعة"اهـ([7]).
فإن صح هذا الأثر فإن معنى قوله: " فقال : [ لو ] ملت عدلناك كما يعدل السهم في الثقاف"؛ أي ناصحنا، وقدمنا النصيحة، التي هي من حق ولي الأمر على الرعية، ومعناها الصدق في لزوم بيعته، وتقديم العون له، وبذل ما يحقق منفعته ومنفعة المسلمين، بدون أن يكون هناك أي غرض أو مصلحة دنيوية. وتكون على الطريقة الشرعية الشرعي.
ويدل عليه ما أخرجه ابن أبي شيبة في المصنف([8]): "حَدَّثَنَا يَحْيَى بْنُ عِيسَى ، عَنِ الأَعْمَشِ ، عَنْ إِبْرَاهِيمَ ، عَن هَمَّامٍ ، عَنْ حُذَيْفَةَ ، قَالَ : دَخَلْتُ عَلَى عُمَرَ وَهُوَ قَاعِدٌ عَلَى جِذْعٍ فِي دَارِهِ وَهُوَ يُحَدِّثُ نَفْسَهُ فَدَنَوْت مِنْهُ ، فَقُلْتُ : مَا الَّذِي أَهَمَّكَ يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ ، فَقَالَ: هَكَذَا بِيَدِهِ وَأَشَارَ بِهَا ، قَالَ : قُلْتُ : ما الَّذِي يُهِمُّك وَاللهِ لَوْ رَأَيْنَا مِنْك أَمْرًا نُنْكِرُهُ لَقَوَّمْنَاك، قَالَ : آللهِ الَّذِي لاَ إلَهَ إِلاَّ هُوَ ، لَوْ رَأَيْتُمْ مِنِّي أَمْرًا تُنْكِرُونَهُ لَقَوَّمْتُمُوهُ، فَقُلْتُ : آللهِ الَّذِي لاَ إلَهَ إِلاَّ هُوَ، لَوْ رَأَيْنَا مِنْك أَمْرًا نُنْكِرُهُ لَقَوَّمْنَاك ، قَالَ : فَفَرِحَ بِذَلِكَ فَرَحًا شَدِيدًا ، وَقَالَ : الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي جَعَلَ فِيكُمْ أَصْحَابَ مُحَمَّدٍ مَنِ الَّذِي إذَا رَأَى مِنِّي أَمْرًا يُنْكِرُهُ قَوَّمَنِي".
عَنْ سُهَيْلِ بْنِ أَبِي صَالِحٍ عَنْ أَبِيهِ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ r قَالَ: إِنَّ اللَّهَ يَرْضَى لَكُمْ ثَلَاثًا وَيَسْخَطُ لَكُمْ ثَلَاثًا:
يَرْضَى لَكُمْ أَنْ تَعْبُدُوهُ وَلَا تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئًا.
وَأَنْ تَعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعًا.
وَأَنْ تَنَاصَحُوا مَنْ وَلَّاهُ اللَّهُ أَمْرَكُمْ.
وَيَسْخَطُ لَكُمْ قِيلَ وَقَالَ وَإِضَاعَةَ الْمَالِ وَكَثْرَةَ السُّؤَالِ"([9]) .
ففي هذا الحديث النبوي الشريف، البدء بأساس الجماعة وأصله:
أن تعبدوه ولا تشركوا به شيئاً.
والاعتصام بحبل الله، الذي هو الجماعة، وعدم التفرق.
ومناصحة ولي الأمر.
وهذه الثلاث قد نص عليها في حديث عن زيد بن ثابت t قال : سمعت رسول الله r يقول: "نضر الله امرءاً سمع منا حديثا فحفظه حتى يبلغه غيره ، فإنه رب حامل فقه ليس بفقيه ورب حامل فقه إلى من هو أفقه منه، ثلاث خصال لا يَغِلُّ عليهن قلب مسلم أبدا: إخلاص العمل لله ، ومناصحة ولاة الأمر، ولزوم الجماعة، فإن دعوتهم تحيط بهم من ورائهم… " الحديث([10]).
الهامش:
([1]) تاريخ دمشق (55/272، الشاملة)، وانظر : الوافي في الوفيات (1/60)، تاريخ الإسلام (1/512).
([2]) سير أعلام النبلاء (2/372).
([3]) فاشتمل الحديث على هذه الشروط حتى يكفّر الحاكم: 1) "حتى ترون"، فأحال إلى أمر حسي، يدرك برؤية البصر. 2) ثم هو r قد ذكر الرؤية بواو الجماعة مما يقتضي أن هذا ليس مما يدركه الفرد، بل لابد جماعة من المسلمين يروه 3) "كفرا"، فلا يكفر بالمعصية وإن كانت كبيرة. 4) "بواحاً"، بمعنى أن يكون ظاهراً. 5) "عندكم فيه من الله برهان". فلا يكفي أي برهان بل لابد أن يكون من الله، يعني بنص ظاهر صحيح صريح.
([4]) أخرجه البخاري في كتاب الفتن، باب قول النبي r: "سترون"، حديث رقم (7056)، ومسلم في كتاب الإمارة، باب وجوب طاعة الأمراء في غير معصية، حديث رقم (1709).
([5]) أخرجه مسلم في كتاب الإمارة، باب خيار الأئمة وشرارهم، حديث رقم (1855).
([6]) أخرجه البخاري في كتاب الفتن، باب قول النبي r: "سترون..."، حديث رقم (7054)، ومسلم في كتاب الإمارة، باب وجوب ملازمة جماعة المسلمين عند ظهور الفتن، حديث رقم (184.
([7]) المجموع (28/179). بواسطة السنة فيما يتعلق بولي الأمة ص49.
([8])(13/27.
([9]) أخرجه مالك في الموطأ في كتاب الجامع، باب ما جاء في إضاعة المال، وذي الوجهين، حديث رقم (1863)، وأحمد في المسند مثله. وأخرجه مسلم في كتاب الأقضية باب النهي عن كثرة المسائل من غير حاجة، حديث رقم (1715)، دون قوله: "وَأَنْ تَنَاصَحُوا مَنْ وَلَّاهُ اللَّهُ أَمْرَكُمْ".
([10]) وجاء هذا الحديث بأسانيد بعضها صحيحة، وبعضها حسنة وبعضها معلولة، عن جماعة من الصحابة، فهو متواتر. ينظر:رسالة ، "دراسة حديث : نضر الله امرءاً" للشيخ عبد المحسن العباد.
موقع الورقات
تعليق