بسم الله الرحمن الرحيم
السلف الصالح والاستخارة عند التأليف والتصنيف
السلف الصالح والاستخارة عند التأليف والتصنيف
الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على أشرف المرسلين، وعلى آله وأصحابه أجمعين.
أما بعد:
فقد جاء عن السلف الكرام الاستخارة عند التأليف والكتابة، والاستخارة يعني: استدع وطلب الخير.
وأصل الاستخارة ورد في السنة.
عن جابر بن عبد الله رضي الله عنهما قال: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يعلمنا الاستخارة في الأمور كلها كالسورة من القرآن، يقول: ((إذا هم أحدكم بالأمر فليركع ركعتين من غير الفريضة ثم ليقل: اللهم إني أستخيرك بعلمك، وأستقدرك بقدرتك، وأسألك من فضلك العظيم، فإنك تقدر ولا أقدر، وتعلم ولا أعلم وأنت علام الغيوب، اللهم إن كنت تعلم أن هذا الأمر خير لي في ديني ومعاشي وعاقبة أمري أو قال: عاجل أمري وآجله، فاقدره لي ويسره لي ثم بارك لي فيه، وإن كنت تعلم أن هذا الأمر شر لي في ديني ومعاشي وعاقبة أمري أو قال: عاجل أمري وآجله فاصرفه عني واصرفني عنه، واقدر لي الخير حيث كان ثم أرضني به، قال: ويسمي حاجته)).
أخرجه البخاري.
وقد قيل: (ما ندم من استخار الله).
وقد جاء عن بعض الأئمة السابقين الاستخارة عند التأليف:
قال الشافعي رحمه الله كما في ((مناقب الشافعي)) للبيهقي: إن مالكا آدمي قد يخطئ ويغلط. فالذي دعاه إلى أن وضع عليه هذا الكتاب: ذلك. وكان يقول: كرهت أن أفعل ذلك، ولكني استخرت الله في ذلك سنة كذا. حكاه الساجي.
وقد اشتهر عن البخاري رحمه الله قوله: (ما وضعت في كتاب الصحيح حديثا إلا اغتسلت قبل ذلك وصليت ركعتين).
أخرجه الخطيب في ((تاريخ مدينة السلام)) ومن طريقه ابن أبي يعلى في ((طبقات الحنابلة)) والمزي في ((تهذيب الكمال)) أخرجه ابن حجر وجادة في ((تغليق التعليق)) وفي ((هداية الساري)).
وقال رحمه الله: (صنفت كتابي الجامع في المسجد الحرام وما أدخلت فيه حديثا حتى استخرت الله تعالى وصليت ركعتين وتيقنت صحته).
أخرجه ابن حجر وجادة في ((تغليق التعليق)) وفي ((هداية الساري)).
وكذلك جاء عن أبي عبد الرحمن أحمد بن شعيب النَّسائيّ قوله: (لما عزمتُ على جمع كتاب ((السنن))، استخرتُ الله تعالى في الرواية عن شيوخٍ كان في القلب منهم بعضُ الشيء، فوقَعَت الخِيرَةُ على تركهم، فتركتُ جملةً من الحديث كنت أعلو فيها عنهم).
أخرجه ابن طاهر المقدسي في ((شروط الأئمة الستة)).
وقال الحافظ البيهقي رحمه الله في ((السنن الصغير)) : ((الحمد لله رب العالمين، شكرا لنعمته، ولا إله إلا الله وحده لا شريك له، إقرارا بربوبيته ووحدانيته، والصلاة على رسوله محمد وآله أما بعد: فإن الله تبارك وتعالى سهل علي تصنيف كتاب مختصر، في بيان ما يجب على العاقل البالغ اعتقاده والاعتراف به في الأصول، منوى بذكر أطراف أدلته من كتاب الله تعالى، وسنة الرسول صلى الله عليه وسلم، ومن إجماع السلف ودلائل المنقول، ثم إني استخرت الله تعالى في إردافه بتصنيف كتاب يشتمل على بيان ما ينبغي أن يكون مذهبه بعدما صح اعتقاده في العبادات، والمعاملات، والمناكحات، والحدود، والسير، والحكومات، ليكون بتوفيق الله عز وجل لكتابه، وسنة نبيه صلى الله عليه وسلم متبعا)) اهـ.
وقال الحافظ المزي رحمه الله في ((الأحاديث الصحاح الغرائب)) : ((فإن الأحاديث النبوية على قائلها أفضل الصلاة والسلام من أعظم ما يتعين الاعتناء بنقله وتصحيح طرائقه وفهم معانيه ودرك حقائقه، ولا سيما من اختصت روايته من العلو والقرب بالنصيب الوافر، وحق لأهل هذا الفن أن يغترفوا من بحره الزاخر، فقد استخرت الله سبحانه وتعالى في ذكر بعض ما وقع لي من غرائب الأحاديث، وأعزها وجودا، وأحسنها في هذا النمط صحة، ومثل ذلك ما زال مطلوبا مقصودا)) اهـ.
وهؤلاء الأئمة والحفاظ لهم سلف في استخارتهم.
ورد أن عمر بن الخطاب رضي الله عنه كتب في الجد والكلالة كتابا، فمكث يستخير الله، يقول: (اللهم إن علمت فيه خيرا فأمضه)، حتى إذا طعن، دعا بالكتاب فمحى فلم يدر أحد ما كان فيه، فقال: (إني كتبت في الجد والكلالة كتابا، وكنت أستخير الله فيه، فرأيت أن أترككم على ما كنتم عليه).
أخرجه عبد الرزاق الصنعاني في ((المصنف)) ومن طريقه ابن جرير الطبري في ((جامع البيان)) وابن أبي شيبة في ((المصنف)).
وعن عروة، أن عمر بن الخطاب أراد أن يكتب السنن، فاستشار أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم في ذلك، فأشاروا عليه أن يكتبها، فطفق يستخير الله فيها شهرا، ثم أصبح يوما وقد عزم الله له، فقال: (إني كنت أريد أن أكتب السنن، وإني ذكرت قوما كانوا قبلكم كتبوا كتبا، فأكبوا عليها وتركوا كتاب الله، وإني والله لا ألبس كتاب الله بشيء أبدا).
أخرجه معمر بن راشد في ((الجامع)) ومن طريقه البيهقي في ((المدخل إلى السنن الكبرى)) وابن عبد البر في ((جامع بيان العلم وفضله)) وضعفه الألباني.
وتتابع على الاستخارة عند التصنيف جماعة من العلماء والأئمة الأعلام منهم:
العلامة النووي رحمه الله في ((شرحه على مسلم)) قال: ((واما صحيح مسلم رحمه الله فقد استخرت الله تعالى الكريم الرؤف الرحيم في جمع كتاب شرحه متوسط بين المختصرات والمبسوطات لا من المختصرات المخلات ولا من المطولات المملات ولولا ضعف الهمم وقلة الراغبين وخوف عدم انتشار الكتاب لقلة الطالبين للمطولات لبسطه فبلغت به ما يزيد على مائة من المجلدات من غير تكرار ولا زيادات عاطلات بل ذلك لكثرة فوائده وعظم عوائده الخفيات والبارزات وهو جدير بذلك)) اهـ.
وقال العلامة ابن قدامة رحمه الله في ((الكافي)) : ((هذا كتاب استخرت الله تعالى في تأليفه على مذهب إمام الأئمة ورباني الأمة أبي عبد الله أحمد بن محمد بن حنبل الشيباني رضي الله عنه في الفقه توسطت فيه بين الإطالة والاختصار وأومأت إلى أدلة مسائله مع الاقتصار وعزوت أحاديثه إلى كتب أئمة الأمصار ليكون الكتاب كافيا في فنه عما سواه مقنعا لقارئه بما حواه وافيا بالغرض من غير تطويل جامعاً بين بيان الحكم والدليل)) اهـ.
وقال العلامة ابن رجب رحمه الله في ((التخويف من النار والتعريف بحال دار البوار)) : ((وقد استخرت الله تعالى في جمع كتاب أذكر فيه صفة النار، وما أعد الله فيها لأعدائه من الخزي والنكال والبوار، ليكون بمشيئة الله قامعًا للنفوس عن غَيِّها وفسادها، وباعثًا لها عَلَى المسارعة إِلَى فلاحها وإرشادها، فإن النفوس ولاسيما في هذه الأزمان قد غلب عليها الكسل والتواني، واسترسلت في شهواتها وأهوائها وتمنت عَلَى الله الأماني)) اهـ.
وقال العلامة البعلي رحمه الله في ((القواعد والفوائد الأصولية ومايتبعها من الأحكام الفرعية)) : ((استخرت الله تعالى في تأليف كتاب أذكر فيه قواعد وفوائد أصولية وأردف كل قاعدة بمسائل تتعلق بها من الأحكام الفروعية)) اهـ.
وقال الحافظ ابن حجر رحمه الله في ((لسان الميزان)) : ((ثم ألف الحفاظ في أسماء المجروحين كتبا كثيرة كل منهم على مبلغ علمه ومقدار ما وصل اليه اجتهاده ومن اجمع ما وقفت عليه في ذلك كتاب الميزان الذي الفه الحافظ أبو عبد الله الذهبي وقد كنت أردت نسخه على وجهه فطال علي فرأيت ان احذف منه أسماء من اخرج له الأئمة الستة في كتبهم أو بعضهم فلما ظهر لي ذلك استخرت الله تعالى وكتبت منه ما ليس في تهذيب الكمال)) اهـ.
وقال العلامة البوصيري رحمه الله في ((زوائد ابن ماجه)) : ((قد استخرت الله عز وجل في إفراد زوائد الإمام الحافظ أبي عبد الله محمد بن يزيد ابن ماجه القزويني على الخمسة الأصول: صحيحي البخاري ومسلم وأبي داود والترمذي والنسائي الصغرى رواية ابن السني)) اهـ.
وقال العلامة الهراس رحمه الله في ((شرح العقيدة الواسطية)) : ((فلما كانت ((العقيدة الواسطية)) لشيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله من أجمع ما كتب في عقيدة أهل السنة والجماعة، مع اختصار في اللفظة، ودقة في العبارة، وكانت تحتاج في كثير من مواضعها إلى شرح يجلي غوامضها، ويزيح الستار عن مكنون جواهرها، ويكون مع ذلك شرحا بعيدا عن الإسهاب والتطويل والإملال بكثرة النقول، حتى يلائم مدارك الناشئين، ويعطيهم زبدة الموضوع في سهولة ويسر؛ فقد استخرت الله تبارك وتعالى، وأقدمت على هذا العمل؛ رغم كثرة الشواغل، وزحمة الصوارف؛ سائلا الله عز وجل أن ينفع به كل من قرأه، وأن يجعله خالصا لوجهه؛ إنه قريب مجيب)) اهـ.
وقال العلامة عبد الله آل بسام رحمه الله في ((توضيح الأحكام من بلوغ المرام)) : ((لذا فإني بعد أن قرأت الكتاب القيم ((الموافقات)) للإمام الشاطبي، ذلك الكتاب الذي هو ومؤلفه غنيان عن الإشادة والتعريف، لما قرأت غالب فصوله، استخرت الله تعالى أن ألخص منه نبذة في المقاصد الشرعية، وأجعلها مقدمة لشرحي على ((بلوغ المرام)) لتكون رابعة للمقدمات الثلاث التي هي أصول العلوم الشرعية؛ فهو أصل كبير، وعلم جليل، جاءت الإشارة إليه، والدلالة عليه من الكتاب والسنة بنصوص أكثر من أن تحصى)) اهـ.
فلاستخارة عند التصنيف والتأليف لها أصل عن سلفنا الكرام والأئمة الأعلام.
هذا وبالله التوفيق، وصلى الله وسلم على نبينا محمد وعلى جميع الأنبياء والمرسلين، وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين.
كتبه
عزالدين بن سالم بن الصادق أبوزخار
طرابلس الغرب: ليلة الثلاثاء 30 ربيع الآخر سنة 1442 هـ
الموافق لـ: 15 ديسمبر سنة 2020 ف
عزالدين بن سالم بن الصادق أبوزخار
طرابلس الغرب: ليلة الثلاثاء 30 ربيع الآخر سنة 1442 هـ
الموافق لـ: 15 ديسمبر سنة 2020 ف