بسم الله الرحمن الرحيم
التحريم القدري
التحريم القدري
الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على أشرف المرسلين، وعلى آله وأصحابه أجمعين.
أما بعد:
فكما جاء التحريم الشرعي المبني على الكتاب والسنة لحكمة، كذلك أتى التحريم القدري لحكمة.
وكلا التحريمين وردا في نصوص الشريعة فلا يحسن الخلط بينهما.
ومن النصوص الدالة على التحريم القدري.
قال الله تعالى: {وحرمنا عليه المراضع من قبل}.
قال الإمام ابن كثير رحمه الله كما في ((تفسيره)) (6/ 223) : ((أي: تحريما قدريا، وذلك لكرامة الله له صانه من أن يرتضع غير ثدي أمه؛ ولأن الله -سبحانه -جعل ذلك سببا إلى رجوعه إلى أمه، لترضعه وهي آمنة، بعدما كانت خائفة)) اهـ.
وقال الله عز وجل: {ونادى أصحاب النار أصحاب الجنة أن أفيضوا علينا من الماء أو مما رزقكم الله قالوا إن الله حرمهما على الكافرين} [الأعراف: 50].
قال الإمام الشنقيطي رحمه الله كما في ((العذب النمير من مجالس الشنقيطي في التفسير)) (3/ 305-306) : (({أَوْ مِمَّا رَزَقَكُمُ الله} من مآكل الجنة ومشاربها، يطلبونهم ويستجدونهم. قال بعض العلماء: يسألون مع اليأس. وقال بعضهم: لهم طمع لشدة ما هم فيه. فأجابهم المؤمنون في الجنة، فقالوا: {إِنَّ الله حَرَّمَهُمَا} أي: الشيئين اللذين سألتم، وهما: الماء وما رزقنا الله من نعيمه غير الماء.
{حَرَّمَهُمَا عَلَى الْكَافِرِينَ} [الأعراف: آية 50] والتحريم هنا تحريم كوني قدري، أي: منعهما من الكافرين؛ لأن التحريم يُطلق في القرآن وفي لغة العرب على التحريم الشرعي، وعلى التحريم بمعنى المنع. وليس المراد هنا أنهما شرعاً محرمات، ولكنه تحريم قدري، وأن الله منع منهما الكافرين منعاً باتّاً بقدره وقضائه، ونظيره من التحريم بالمعنى القدري لا بالمعنى الشرعي قوله: {قَالَ فَإِنَّهَا مُحَرَّمَةٌ عَلَيْهِمْ أَرْبَعِينَ سَنَةً} [المائدة: آية 26] وقوله جل وعلا: {وَحَرَّمْنَا عَلَيْهِ الْمَرَاضِعَ} [القصص: آية 12]؛ لأن الرضيع لا يؤاخذ بالتحريم الشرعي حتى يكون عليه حرام أو حلال. والمعنى: منعناه منهما. {وَحَرَامٌ عَلَى قَرْيَةٍ أَهْلَكْنَاهَا أَنَّهُمْ لاَ يَرْجِعُونَ} [الأنبياء: آية 50] هو من التحريم بمعنى المنع كوناً وقدراً. والتحريم بمعنى المنع معروف في كلام العرب، مشهور في لغتهم التي نزل بها القرآن، ومنه قول الشاعر:
حَرَامٌ عَلَى عَيْنَيَّ أَنْ تَطْعَمَ الْكَرَى *** وَأَنْ تَرْقَآ حَتَّى أُلاَقِيكِ يَا هِنْدُ
فمعنى «حرام على عيني أن تطعم الكرى»: ممنوعتان من ذوق النعاس والنوم. ونظيره قول امرىء القيس لِفَرَسِهِ: جَالتْ لِتَصْرَعنِي فَقُلْتُ لهَا اقْصُرِي *** إِنِّي امْرُؤٌ صَرْعِي عَلَيْكِ حَرَامُ
أي: لا تقدرين عليه. فمعنى: {إِنَّ الله حَرَّمَهُمَا عَلَى الْكَافِرِينَ} حكم بمنعهم منهما حكماً باتّاً، كما قال (جل وعلا) عن عيسى ابن مريم: {إِنَّهُ مَن يُشْرِكْ بِالله فَقَدْ حَرَّمَ الله عَلَيهِ الْجَنَّة وَمَأْوَاهُ النَّارُ} [المائدة: آية 72] وكذلك الكفار كما أن الجنة حرام عليهم فما فيها من الماء والرزق والنعيم حرام عليهم لا يذوقونه أبداً)) اهـ.وقال العلامة ابن عثيمين رحمه الله في ((تفسير القرآن الكريم سورة المائدة)) (2/ 303) : ((وتحريم الطيبات الشرعي بسبب الظلم مثله التحريم القدري بسبب الظلم، فإن الإنسان قد يحرم الطيبات تحريما قدريا لمعصيته، مثل أن يكون رجل إذا أكل اللحم، تأثر ومرض، هذا يجب عليه أن يجتنب أكل اللحم وهذا تحريم قدري؟
إنسان مثلا: مريض بمرض السكر، إذا أكل الحلو ازداد عليه السكر وآلمه، فيجب عليه أن يجتنب السكر، هذا تحريم قدري، فلا تظن أن التحريم بسبب المعاصي هو التحريم الشرعي فقط، بل حتى القدري، ومن التحريم القدري أن يمنع الله نبات الأرض بسبب المعاصي كما قال الله تعالى: {ظَهَرَ الْفَسَادُ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ بِمَا كَسَبَتْ أَيْدِي النَّاسِ لِيُذِيقَهُمْ بَعْضَ الَّذِي عَمِلُوا لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ} [الروم: 41])) اهـ.
وقال العلامة ابن عثيمين رحمه الله في ((مجموع فتاواه ورسائله)) (3/ 99) : ((التحريم يكون قدريًّا ويكون شرعيًّا وطلبكم أمثلة لذلك فإليكم ما طلبتم:
فمن التحريم القدري قوله تعالى في موسى: {وَحَرَّمْنَا عَلَيْهِ الْمَرَاضِعَ مِنْ قَبْلُ} . وقوله تعالى: {وَحَرَامٌ عَلَى قَرْيَةٍ أَهْلَكْنَاهَا أَنَّهُمْ لَا يَرْجِعُونَ} . ومن التحريم الشرعي قوله تعالى: {حُرِّمَتْ عَلَيْكُمْ أُمَّهَاتُكُمْ} . وقوله تعالى: {قُلْ لَا أَجِدُ فِي مَا أُوحِيَ إِلَيَّ مُحَرَّمًا عَلَى طَاعِمٍ يَطْعَمُهُ إِلَّا أَنْ يَكُونَ مَيْتَةً} الآية)) اهـ.
ومما سبق يتبين أن التحريم الشرعي انتهى وقته، لكن التحريم القدري لم ينته وقته؛ والتحريم إذا تعلق بفعل الله عز وجل فإنه يكون تحريماً قدرياً وما يتعلق بشرعه فإنه يكون تحريماً شرعياً، والتحريم والشرعي والقدري إلى الله عز وجل؛ ومن الأسباب لكلا التحريمين الظلم والمعاصي؛ والتحريم القدري بمعنى المنع.
هذا والله أعلم، وبالله التوفيق، وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين.
✍️ كتبه
عزالدين بن سالم بن الصادق أبوزخار
العواتة ليبيا: ليلة السبت 23 صفر سنة 1442 هـ
الموافق لـ: 10 أكتوبر سنة 2020 ف
عزالدين بن سالم بن الصادق أبوزخار
العواتة ليبيا: ليلة السبت 23 صفر سنة 1442 هـ
الموافق لـ: 10 أكتوبر سنة 2020 ف