قال أبو إسحاق إبراهيم بن موسى الشاطبي رحمه الله ( ت 790 هـ ) :
وقال رحمه الله : ... إن توقير صاحب البدعة مظنة لمفسدتين تعودان على الإسلام بالهدم :
إحداهما : التفات الجهال والعامة إلى ذلك التوقير، فيعتقدون في المبتدع أنه أفضل الناس، وأن ما هو عليه خير مما عليه غيره، فيؤدي ذلك إلى اتباعه على بدعته دون اتباع أهل السنة على سنتهم .
والثانية : أنه إذا وُقِّرَ من أجل بدعته صار ذلك كالحادي المحرض له على إنشاء الابتداع في كل شيءٍ . فتحيا البدع وتموت السنن، وهو هدم الإسلام بعينه ... وأيضا فمن السنة الثابتة ترك البدع فمن عمل ببدعة واحدة فقد ترك تلك السنة .
وقال رحمه الله : ... فصاحب البدعة لما غلب عليه الهوى مع الجهل بطريق السنة توهم أن ما ظهر له بعقله هو الطريق القويم دون غيره فمضى عليه فحاد بسببه عن الطريق المستقيم، فهو ضال من حيث ظن أنه راكب للجادة، كالمار بالليل على الجادة وليس له دليل يهديه، يوشك أن يضل عنها فيقع في متابعه، وإن كان بزعمه يتحرى قصدها، فالمبتدع من هذه الأمة إنما ضل في أدلتها حيث أخذها مأخذ الهوى والشهوة لا مأخذ الانقياد تحت أحكام الله .
وهذا هو الفرق بين المبتدع وغيره، لان المبتدع جعل الهوى أول مطالبه، وأخذ الأدلة بالتبع، ... فإذا انضم إلى ذلك الجهل بأُصول الشريعة وعدم الاضطلاع بمقاصدها، كان الأمر أشد وأقرب إلى التحريف والخروج عن مقاصد الشرع ... والدليل على ذلك أنك لا تجد مبتدعاً ممن ينسب إلى الملة إلا وهو يستشهد على بدعته بدليل شرعي فينزله على ما وافق عقله وشهوته، ... بخلاف غير المبتدع فإنه إنما جعل الهداية إلى الحق أول مطالبه، وأخَّر هواه فجعله بالتبع فوجد جمهور الأدلة ومعظم الكتاب واضحا في الطلب الذي بحث عنه، فوجد الجادة وما شذ له عن ذلك، فإما أن يرده إليه، وإما أن يكله إلى عالمه ولا يتكلف البحث عن تأويله .
وفيصل القضية بينهما قوله تعالى " فَأمَّا الَّذِين فِي قُلُوبِهِمْ زَيْغٌ فيَتَّبِعُونَ ما تَشَابه مِنْهُ ... " فلا يصح أن يسمى من هذه حاله مبتدعاً ولا ضالاً، وإن حصل في الخلاف أو خفي عليه .
أما أنه غير مبتدع فلأنه اتبع الأدلة، مؤخراً هواه، ومقدماً لأمر اللّه.
وأما كونه غير ضال فلأنه على الجادة سلك، وإليها لجأ، فإن خرج عنها يوماً فأخطأ فلا حرج عليه، بل يكون مأْجوراً حسبما بيَّنه الحديث الصحيح " إذا اجتهد الحاكم فأخطأ فله أجرٌ وإن أصاب فله أجران " وإن خرج متعمداً فليس على أن يجعل خروجه طريقاً مسلوكاً له أو لغيره، وشرعاً يدان به...
وقال رحمه الله : ... ولما ثبت ذمها ـ أي البدعة ـ ثبت ذم صاحبها لأنها ليست بمذمومة من حيث تصورها فقط ، بل من حيث اتصف بها المتصف، فهو إذا المذموم على الحقيقة، والذم خاص التأثيم، فالمبتدع مذموم آثم وذلك على الإطلاق والعموم ... ـ وهذا لأن ـ الشرع قد دل على أن الهوى هو المتبع الأول في البدع وهو المقصود السابق في حقهم ودليل الشرع كالتابع في حقهم، ولذلك تجدهم يتأولون كل دليل خالف هواهم ويتبعون كل شبهة وافقت أغراضهم ألا ترى إلى قوله تعالى " فَأمَّا الَّذِين فِي قُلُوبِهِمْ زَيْغٌ فيَتَّبِعُونَ ما تَشَابه مِنْهُ ... " فأثبت لهم الزيغ أولا وهو الميل عن الصواب ثم اتباع المتشابه وهو خلاف المحكم الواضح المعنى الذي هو أم الكتاب ومعظمه، ومتشابهه على هذا قليل، فتركوا اتباع المعظم إلى اتباع الأقل المتشابه الذي لا يعطي مفهوما واضحا ابتغاء تأويله، وطلبا لمعناه الذي لا يعلمه إلا الله، أو يعلمه الله والراسخون في العلم، وليس إلا برده إلى المحكم ولم يفعل المبتدعة ذلك ... ـ ولهذا فإن ـ كل راسخ لا يبتدع أبدا وإنما يقع الابتداع ممن لم يتمكن من العلم الذي ابتدع فيه، .. فإنما يؤتى الناس من قبل جهالهم الذين يحسبون أنهم علماء، وإذا كان كذلك فاجتهاد من اجتهد منهي عنه إذ لم يستكمل شروط الاجتهاد، فهو على أصل العمومية، ولما كان العامي حراما عليه النظر في الأدلة والاستنباط ، كان المخضرم الذي بقي عليه كثير من الجهل مثله في تحريم الاستنباط والنظر المعمول به فإذا أقدم على محرم عليه كان آثما بإطلاق .
وبهذه .. تبين الفرق بينه وبين المجتهد المخطئ في اجتهاده .
وحاصل ما ذكر هنا أن كل مبتدع آثم ولو فرض عاملا بالبدعة المكروهة ـ إن ثبت فيها كراهة التنزيه ـ لأنه إما مستنبط لها فاستنباطه على الترتيب المذكور غير جائز وإما نائب عن صاحبها مناضل عنه فيها بما قدر عليه، وذلك يجري مجرى المستنبط الأول لها، آثم على كل تقدير .
أقسام المنسوبين إلى البدعة :
قال رحمه الله : لا يخلو المنسوب إلى البدعة أن يكون مجتهداً فيها أو مقلداً، والمقلد إما مقلد مع الإقرار بالدليل الذي زعمه المجتهد دليلاً والأخذ فيه بالنظر، وإما مقلد له فيه من غير نظر كالعامي الصرف فهذه ثلاثة أقسام :
فالقسم الأول : ـ أن يكون مجتهداً ـ على ضربين :
1ـ أن يصح كونه مجتهداً([4])، فالابتداع منه لا يقع إلا فلتة وبالعرض لا بالذات، وإنما تسمى غلطة أو زلة لأن صاحبها لم يقصد اتباع المتشابه ابتغاءَ الفتنة وابتغاءَ تأْويل الكتاب، أي لم يتبع هواه ولا جعله عمدة، والدليل عليه أنه إذا ظهر له الحق أذعن له وأقرَّ به .
2ـ وأما إن لم يصح بمسبار([5]) العلم أنه من المجتهدين فهو الحري باستنباط ما خالف الشرع كما تقدم، إذ قد اجتمع له مع الجهل بقواعد الشرع، الهوى الباعث عليه في الأصل، وهو التبعية، إذ قد تحصل له مرتبة الإمامة والاقتداء، وللنفس فيها من اللذة ما لا مزيد عليه، ولذلك يعسر خروج حب الرئاسة من القلب إذا انفرد، ... فكيف إذا انضاف إليه الهوى، وانضاف إلى هذين الأمرين دليل ـ في ظنه ـ شرعي على صحة ما ذهب إليه، فيتمكن الهوى من قلبه تمكناً لا يمكن في العادة الانفكاك عنه، وجرى منه مجرى الكلب([6]) من صاحبه، فهذا النوع ظاهر أنه آثم في ابتداعه إثم من سنَّ سنة سيئة .
القسم الثاني : ـ المقلد مع الإقرار بدليل المجتهد ـ :
.. وهو الذي لم يستنبط بنفسه وإنما اتبع غيره من المستنبطين، لكن بحيث أقر بالشبهة واستصوبها، وقام بالدعوة بها مقام متبوعه، لانقداحها في قلبه، فهو مثله، وإن لم يصر إلى تلك الحال ولكنه تمكن حب المذهب من قلبه حتى عادى عليه ووالى .
القسم الثالث : ـ مقلد في البدعة من غير نظر كالعامي الصرف ـ :
.. وهو الذي قلد غيره على البراءة الأصلية ، فلا يخلو أن يكون ثم من هو أولى بالتقليد منه ، بناء على التسامع الجاري بين الخلق بالنسبة إلى الجم الغفير إليه في أمور دينهم من عالم وغيره ، وتعظيمهم له بخلاف الغير .
أو لا يكون ثم من هو أولى منه ، لكنه ليس في إقبال الخلق عليه وتعظيمهم له ما يبلغ تلك الرتبة ، فإن كان هناك منتصبون فتركهم هذا المقلد وقلد غيرهم فهو آثم إذ لم يرجع إلى من أمر بالرجوع إليه ، بل تركه ورضي لنفسه بأخسر الصفقتين فهو غير معذور . إذ قلد في دينه من ليس بعارف بالدين في حكم الظاهر ، فعمل بالبدعة وهو يظن أنه على الصراط المستقيم .
وقَلَّ ما تجد من هذه صفته إلا وهو يوالي فيما ارتكب ويعادي بمجرد التقليد.
وإن لم يكن هناك منتصبون إلى هذا المقلد الخامل بين الناس، مع أنه قد نصب نفسه منصب المستحقين، ففي تأثيمه نظر، ويحتمل أن يقال فيه : إنه آثم .
ولنزد هذا الموضع شيئاً من البيان ... فنقول وبالله التوفيق : إن لفظ أهل الأهواء وعبارة أهل البدع إنما تطلق حقيقةً على الذين ابتدعوها، وقدموا فيها شريعة الهوى بالاستنباط والنصر لها، والاستدلال على صحتها في زعمهم، حتى عد خلافهم، وشبههم منظوراً فيها، ومحتاجاً إلى ردها والجواب عنها ... ويرشح ذلك أن قول الله تعالى " إِنَّ الَّذِينَ فَرَّقُوا دِينَهُمْ وَكَانُوا شِيَعًا " يشعر بإطلاق اللفظ على من جعل ذلك الفعل الذي هو التفريق، وليس إلا المخترع أو من قام مقامه وكذلك قوله تعالى " وَلَا تَكُونُوا كَالَّذِينَ تَفَرَّقُوا وَاخْتَلَفُوا " وقوله تعالى " فَأمَّا الَّذِين فِي قُلُوبِهِمْ زَيْغٌ فيَتَّبِعُونَ ما تَشَابه مِنْهُ ... " فإن اتباع المتشابه مختص بمن انتصب منصب المجتهد لا بغيره .
وكذلك قول النبي صلى الله عليه وسلم " حتى إذا لم يبق عالم اتخذ الناس رؤساء جهالاً فسئلوا فأفتوا بغير علم " لأنهم أقاموا أنفسهم مقام المستنبط للأحكام الشرعية المقتدى به فيها . بخلاف العوام ، فإنهم متبعون لما تقرر عند علمائهم لأنه فرضهم ، فليسوا بمتبعين للمتشابه حقيقةً، ولا هم متبعون للهوى، وإنما يتبعون ما يقال لهم كائناً ما كان، فلا يطلق على العوام لفظ أهل الأهواء حتى يخوضوا بأنظارهم فيها ويحسنوا بنظرهم ويقبحوا .
وعند ذلك يتعين للفظ أهل الأهواء وأهل البدع مدلول واحد، وهو أنه من انتصب للابتداع ولترجيحه على غيره وأما أهل الغفلة عن ذلك والسالكون سبيل رؤسائهم بمجرد التقليد من غير نظر فلا .
فحقيقة المسألة أنها تحتوي على قسمين : مبتدع ومقتد به :
فالمقتدي به كأنه لم يدخل في العبارة بمجرد الاقتداء لأنه في حكم المتبع .
والمبتدع هو المخترع أو المستدل على صحة ذلك الاختراع .
وسواء علينا أكان ذلك الاستدلال من قبيل الخاص بالنظر في العلم، أو كان من قبيل الاستدلال العامي، فإن الله سبحانه ذم أقواماً قالوا "إِنَّا وَجَدْنَا آبَاءَنَا عَلَى أُمَّةٍ وَإِنَّا عَلَى آثَارِهِمْ مُقْتَدُونَ" فكأنهم استدلوا إلى دليل جملي، وهو الآباء إذ كانوا عندهم من أهل العقل، وقد كانوا على هذا الدين، وليس إلا لأنه صواب، فنحن عليه، لأنه لو كان خطأ لما ذهبوا إليه .
وهو نظير ـ أي الاستدلال بالآباء ـ من يستدل على صحة البدعة بعمل الشيوخ ومن يشار إليه بالصلاح، ولا ينظر إلى كونه من أهل الاجتهاد في الشريعة أو من أهل التقليد، ولا كونه يعمل بعلم أو بجهل .
ولكن مثل هذا يعد استدلالاً في الجملة من حيث جعل عمدةً في اتباع الهوى واطراح ما سواه فمن أخذ به فهو آخذ بالبدعة بدليل مثله، ودخل في مسمى أهل الابتداع، إذ كان من حق من كان هذا سبيله أن ينظر في الحق إن جاءه، ويبحث ويتأنى ويسأل حتى يتبين له فيتبعه، أو الباطل فيجتنبه ... وعلامة من هذا شأنه أن يرد خلاف مذهبه بما عليه من شبهة دليل تفصيلي أو إجمالي ، ويتعصب لما هو عليه غير ملتفت إلى غيره، وهو عين اتباع الهوى، فهو المذموم حقاً، وعليه يحصل الإثم، فإن من كان مسترشداً مال إلى الحق حيث وجده ولم يرده، وهو المعتاد في طالب الحق، ولذلك بادر المحققون إلى اتباع رسول الله صلى الله عليه وسلم حين تبين لهم الحق . اهـ بتصرف من كتاب الاعتصام المجلد الأول من مواضع متفرقة
وكتبه
أبو صفية
([1]) الوقاية .
([2]) كتاب الاعتصام للشاطبي .
([3]) قال العلامة ربيع بن هادي المدخلي حفظه الله : من وقع في بدعة فعلى أقسام :
القسم الأول : أهل البدع كالروافض والخوارج والجهمية والقدرية والمعتزلة والصوفية القبورية والمرجئة ومن يلحق بهم كالإخوان والتبليغ وأمثالهم فهؤلاء لم يشترط السلف إقامة الحجة من أجل الحكم عليهم بالبدعة فالرافضي يقال عنه : مبتدع والخارجي يقال عنه : مبتدع وهكذا، سواء أقيمت عليهم الحجة أم لا.
القسم الثاني : من هو من أهل السنة ووقع في بدعة واضحة كالقول بخلق القرآن أو القدر أو رأي الخوارج وغيرها فهذا يبدع وعليه عمل السلف .
ومثال ذلك ما جاء عن ابن عمر رضي الله عنه حين سئل عن القدرية قال " فإذا لقيت أولئك فأخبرهم أني بريء منهم وأنهم برآء مني " رواه مسلم
قال شيخ الإسلام رحمه الله في درء تعارض العقل والنقل 1/254 " فطريقة السلف والأئمة أنهم يراعون المعاني الصحيحة المعلومة بالشرع والعقل ويرُاعون أيضاً الألفاظ الشرعية، فيعبرون بها ما وجدوا إلى ذلك سبيلا ومن تكلم بما فيه معنى باطل يخالف الكتاب والسنة ردوا عليه ومن تكلم بلفظ مبتدع يحتمل حقا وباطلا نسبوه إلى البدعة أيضا، وقالوا : إنما قابل بدعة ببدعة وردَّ باطلا بباطل " ...
القسم الثالث : من كان من أهل السنة ومعروف بتحري الحق ووقع في بدعة خفية فهذا إن كان قد مات فلا يجوز تبديعه بل يذكر بالخير، وإن كان حياً فيناصح ويبين له الحق ولا يتسرع في تبديعه فإن أصر فيبدع ... وعلى كل حال لا يجوز إطلاق اشتراط إقامة الحجة لأهل البدع عموماً ولا نفي ذلك والأمر كما ذكرت . اهـ بتصرف من جواب للشيخ ربيع حول مسألة اشتراط إقامة الحجة في التبديع
([4]) قال الشاطبي رحمه الله في الاعتصام " ... والعالم إذا لم يشهد له العلماء فهو في الحكم باق على الأصل من عدم العلم حتى يشهد فيه غيره ويعلم هو من نفسه ما شهد له به ، وإلا فهو على يقين من عدم العلم أو على شك ، فاختيار الإقدام في هاتين الحالتين على الإحجام لا يكون إلا باتباع الهوى ، إذ كان ينبغي له أن يستفتي في نفسه غيره ولم يفعل ، وكل من حقه أن لا يقدم إلا أن يقدمه غيره ، ولم يفعل هذا .
قال العقلاء : رأي المستشار أنفع لأنه بريء من الهوى ، بخلاف من لم يستشر فإنه غير بريء ، ولا سيما في الدخول في المناصب العلية والرتب الشرعية كرتب العلم .
فهذا أنموذج ينبه صاحب الهوى في هواه ويضبطه إلى أصل يعرف به هل هو في تصدره إلى فتوى الناس متبع للهوى ؟ أم هو متبع للشرع ؟ " اهـ
وقال شيخ الإسلام رحمه الله في اقتضاء الصراط المستقيم : فمن ندب إلى شيء يتقرب به إلى الله أو أوجبه بقوله أو فعله من غير أن يشرعه الله فقد شرع من الدين ما لم يأذن به الله ومن اتبعه في ذلك فقد اتخذه شريكا لله شرع له من الدين ما لم يأذن به الله ، نعم قد يكون متأولا في هذا الشرع فيغفر له لأجل تأويله ، إذا كان مجتهدا الاجتهاد الذي يعفى فيه عن المخطئ ويثاب أيضا على اجتهاده ، لكن لا يجوز اتباعه في ذلك كما لا يجوز اتباع سائر من قال أو عمل قولا أو عملا قد علم الصواب في خلافه وإن كان القائل أو الفاعل مأجورا أو معذورا . اهـ
([5]) أي بمعيار
([6]) داء معروف صح فيه حديث عن النبي صلى الله عليه وسلم .