باسم الله الرحمان الرحيم
فضح الرحمان الرحيم لخطط إبليس اللعين بقلم العلامة الفهامة ابن القيم شمس الدين
من كتاب
الداء و الدواء
...و عَلَّمَ سبحانه عباده كيفية هذه الحرب و الجهاد، فجمعها لهم في أربع كلمات فقال { يا أيها الذين آمنوا اصبروا و صابروا و رابطوا و اتقوا الله لعلكم تفلحون }. و لا يتم أمر هذا الجهاد إلا بهذه الأمور الأربع: فلا يتم له الصبر إلا بمصابرة العدو و هي مقاومته و منازلته، فإذا صابر عدوه احتاج إلى أمر آخر و هو المرابطة، و هي لزوم ثغر القلب و حراصته لئلا يدخل معه العدو، و الثغر هو الموضع الذي يخاف هجوم العدو منه، و لزوم ثغر العين و اللسان و البطن و اليد و الرجل، فهذه الثغور منها يدخل العدو، فيجوس خلال الديار و يفسد ما قُدِّرَ أن يقدر عليه.
فالمرابطة لزوم هذه الثغور و لا يُخْلِي مكانها فَيُصَادِفَ العدو الثغر خاليا فيدخل منه. فهؤلاء أصحاب رسول الله صلى الله عليه و على آله و سلم خير الخلق بعد النبيين و المرسلين و أعظمهم حماية و حراصة من الشيطان الرجيم، و قد أخلو المكان الذي أمروا بلزومه يوم أُحُد، فدخل منه العدو فكان ما كان.
و جماع هذه الثلاثة " اصبروا و صابروا و رابطوا" و عمودها الذي تقوم به هو تقوى الله تعالى، فلا ينفع الصبر و لا المصابرة و لا المرابطة إلا بالتقوى، و لا تقوم التقوى إلا على ساق الصبر، فانظر الآن ( و هنا الشاهد) إلى إلتقاء الجيشين و اصطدام العسكرين، و كيف تُدَالُ مرة و يُدَالُ عليك مرة أخرى:
أقبل مَلِكُ الكَفَرَة [يعني إبليس اللعين] بجنوده و عساكره، فوجد القلب في حصنه جالسا على كرسي مملكته، أمرهُ نَافِدٌ في أعوانه و جنده قد حَفُّوا به، يقاتلون عنه و يدافعون عن حوزته، فلم يُمكنه الهجوم إلا بمخامرة بعض أُمرائه و جنده عليه [يعني باستمالتهم إليه]، فسأل عن أَخصِّ الجند به و أقربهم منه منزلة فقيل له هي النفس. فقال لأعوانه، أدخلوا عليها من مرادها و انظروا مواقع محبتها و ما هو محبوبها، فَعِدُوهَا به، و مَنُّوهَا إياه، و انقشوا صورة المحبوب فيها في يقظتها و في منامها، فإذا اطمأنت إليه و سكنت عنده، فاطرحوا عليها كلاليب الشهوة، و خطاطيفها ثم جروها بها إليكم، فإذا خامرة على القلب و خانة [ يعني صارت عليه بالغش و الخديعة ] و صارت معكم عليه ملكتم ثغور العين و الأذن و اللسان و الفم و اليد و الرجل، فرابطوا على هذه الثغور كلَّ المرابطة، فمتى دخلتم منها إلى القلب فهو قتيل أو أسير، أو جريح مثخن بالجراحات، و لا تُخلوا هذه الثغور، و لا تُمكِّنوا سرية تدخل فيها [ أي في الثغور المذكورة ] إلى القلب فتخرجكم منها، و إن غلبتم فاجتهدوا في إضعاف السرية ووهنها حتى لا تصل إلى القلب و إن وصلت إليه وصلت ضعيفة لا تغني عنه شيئا.
فإذا استوليتم على هذه الثغور، فامنعوا ثغر العين أن يكون نظر اعتبار، بل اجعلوا نظره تفرجا و استحسانا وتلهيا، فإن استرق نَظْرَةَ عِبرَةٍ، فأفسدوها عليه بنظرة الغفلة و الإستحسان و الشهوة، فإنه أقرب إليه و أعلق بنفسه و أخفه عليه، و دونكم ثغر العين فإن منه تنالون بُغْيَتَكُم فاني ما أفسدت بني آدم بشيء مثل النظر، فإني أبدر به في القلب بدر الشهوة، ثم أسقيه بماء الأمنية، ثم لا أزال أعده و أمنيه حتى أقوي عزيمته، و أقدوه بزمام الشهوة إلى الإنخلاع من العصمة، فلا تهملوا أمر هذا الثغر و أفسدوه بحسب استطاعتكم، و هَوِّنُوا عليه أمره، و قولوا له: مقدار نظرة تدعوك إلى تسبيح الخالق و التأمل لبديع صنيعه و حسن هذه الصورة التي إنما خلقة ليستدل بها الناظر عليه، و ما خلق الله لك العينين سدى، و ما خلق الله هذه الصورة ليحجبها عن النظر.
و إن ظفرتم به قليل العلم فاسد العقل، فقولوا له: هذه الصورة مظهر من مظاهر الحق و مَجْلاً من مجاليه، فادعوه إلى القول بالإتحاد، فإن لم يقبل، فالقولِ بالحلول العام أو الخاص، و لا تقنعوا منه بدون ذلك، فإنه يصير به من إخوان النصارى، فامروه حينئذ بالعفة و الصيانة و العبادة و الزهد في الدنيا، و اصطادوا عليه و به الجهال، فهذا من أكبر خلفائي و أكبر جندي، بل أنا من جنده و أعوانه.
ثم امنعوا ثغر الأذن أن يدخل منه ما يفسد عليكم الأمر، فاجتهدوا ألا تدخلوا منه إلا الباطل، فإنه خفيف على النفس تستحليه و تستحسنه، تخيروا له أعذب الألفاظ و أسحرها للألباب و امزجوه بما تهوى النفس مزجى، و ألقوا الكلمة فإن رأيتم منه إصغاءً إليه، فزجوه بأخواتها و كلما صادفتم منه استحسان شيئ فالهجوا له بذكره، و إياكم أن يدخل من هذا الثغر شيئ من كلام الله أو كلام رسوله أو كلام النصحاء. فإن غلبتم على ذلك و دخل من ذلك شيئ [ يعني من كلام الله أو كلام رسوله أو كلام النصحاء ] فحولوا بينه و بين فهمه و التفكر فيه و العظة به، إما بادخال ضده عليه وإما بتهويل ذلك و تعظيمه و أن هذا أمر قد حيل بين النفوس و بينه فلا سبيل لها إليه و هو حمل يتقل عليها لا تستقل به. و إما بإرخاصه على النفوس، و أن الإشتغال ينبغي أن يكون بما هو أغلى عند الناس و أعزُّ عليهم و أغرب عندهم، و ذُهُونُهُ القابلون له أكثر، و أما الحق فهو مهجور و قائله معرض نفسه للعداوة و الرابح بين الناس أولى بالإيثار و نحو ذلك. فتُدخلون الباطل عليه في كل قالب يقبله و يخف عليه، و تُخرجون له الحق في كل قالب يكرهه و يثقل عليه.
و إذا شأت أن تعرف ذلك، فانظر إلى إخوانهم من شياطين الإنس، كيف يخرجون الأمر بالمعروف و النهي عن المنكر في قالب كثرة الفضول، و تتبع عثرات الناس و التعرض من البلاء لما لا يطيق، و إلقاء الفتن بين الناس و نحو ذلك. و يخرجون أتباع السنة ووصف الرب تعالى بما وصف به نفسه ووصفه به رسول صلى الله عليه و سلم في قالب التجسيم و التشبيه و التكييف، و يسمون علو الله على خلقه و استوائه على عرشه و مباينته لمخلوقاته تحيزا، و يسمون نزوله إلى السماء الدنيا و قوله من يسألني فأعطيه [وهو متفق عليه] تحركا و انتقالا، و يسمون ما وصف به نفسه من اليد و الوجه أعضاءً و جوارحاَ، و يسمون ما يقوم به من أفعاله حوادث و ما يقوم به من صفاته أعراضا. ثم يتوصلون إلى نفي ما وصف به نفسه بنفي هذه الأمور و يوهمون الأغمار [الغمر من لا تجربة له] و ضعفاء البصائر أن إثبات الصفات التي نطق بها كتاب الله و سنة رسوله تستلزم هذه الأمور، و يخرجون هذا التعطيل في قالب التنزيه و التعظيم، و أكثر الناس ضعفاء العقول يقبلون الشيء بلفظه و يردونه بعينه بلفظ آخر، قال تعالى { وكذلك جعلنا لكل نبي عدوا شياطين الإنس والجن يوحي بعضهم إلى بعض زخرف القول غرورا } فسماه زخرفا و هو باطل، لأن صاحبه يزخرفه و يزينه ما استطاع إلى ذلك سبيلا و يلقيه إلى سمع المغرور فيغتر به.
ثم يقول الشيطان لأعوانه، قوموا على ثغر اللسان فإنه الثغر الأعظم و هو قُبَالَةُ الملك، فأجروا عليه من الكلام ما يضره و لا ينفعه، و امنعوه أن يجري عليه شيء مما ينفعه من ذكر الله تعالى و استغفاره و تلاوة كتابه و نصيحة عباده و التكلم بالعلم النافع، و يكون لكم في هذا الثغر أمران عظيمان لا تبالون بأيهما ظفرتم: أحدهما التكلم بالباطل، و الثاني السكوت عن الحق.
التكلم بالباطل[يقول للشياطين]، فإن المتكلم بالباطل أخ من إخوانكم و من أكبر جندكم و أعوانكم. و الثاني السكوت عن الحق، فإن الساكت عن الحق أخ لكم أخرس كما أن الأول أخ لكم ناطق. و ربما كان الأخ الثاني أنفع أخويكم لكم، أما سمعتم قول الناصح : المتكلم بالباطل شيطان ناطق و الساكت عن الحق شيطان أخرص، فالرباط الرباط على هذا الثغر أن يتكلم بحق أو يمسك عن باطل، و زينوا له التكلم بالباطل بكل طريق و خوفوه من التكلم بالحق بكل طريق.
و اعلموا يا بني [يقول الشيطان لبنيه و أعوانه] أن ثغر اللسان هو الذي أهلكُ به بني آدم، و أكبهم به على مناخرهم في النار، فكم لي من قتيل و أسير و جريح أخدته من هذا الثغر.
و أوصيكم بوصية فاحفظوها " لينطق أحدكم على لسان أخيه من الإنس بالكلمة و يكون الآخر على لسان السامع فينطق باستحسانها و تعظيمها و التعجب منها و يطلب من أخيه إعادتها " و كونوا أعوانا على الإنس بكل طريق و ادخلوا عليهم من كل باب و اقعدوا لهم كل مرصد، أما سمعتم قسمي الذي أقسمت به لربهم حيث قلت { فبما أعويتني لأقعدن لهم صراطك المستقيم ثم لآتينهم من بين أيديهم و من خلفهم و عن أيمانهم و عن شمائلهم ولا تجد أكثرهم شاكرين } أوما تروني قد قعدت لبني آدم كما بطرقه كلها فلا يفوتني من طريق الا قعدت له بطريق غيره حتى أصيب منه حاجتي أو بعضها و قد حذرهم من ذلك رسولهم صلى الله عليه وسلم و قال لهم " إن الشيطان قد قعد لإبن آدم بطرقه كلها، و قعد له بطريق الإسلام، فقال أتسلم و تدر دينك و دين آبائك ؟ فخالفه و أسلم، فقعد له بطريق الهجرة، فقال أتهاجر و تدر أرضك و سمائك؟ فخالفه و هاجر، فقعد كه بطريق الجهاد، فقال أتجاهد فتقتل فيقسم المال و تنكح الزوجة."
فهكذا [يقول الشيطان] فاقعدوا لبني آدم بكل طرق الخير، فإذا أراد أحدهم أن يتصدق فاقعدوا له على طريق الصدقة و قولوا له في نفسه ' أتخرج المال فتبقى مثل هذا السائل و تصير بمنزلته أنت و هو سواء ' . أو ما سمعتم ما ألقيت على لسان رجل سأله آخر أن يتصدق عليه فقال: هي أموالنا إن أعطيناكموها صرنا مثلكم. واقعدوا له بطريق الحج، فقولوا ' طريقه مخوفة مشقة، يتعرض سالكها لتلف النفس و المال '. و هكذا فاقعدوا على سائر طرق الخير بالتنفير عنها و ذكر صعوباتها و آفاتها.
ثم اقعدوا لهم على طرق المعاصي، فحسنوها في أعين بني آدم و زينوها في قلوبهم و اجعلوا أكثر أعوانكم على ذلك النساء، فمن أبوابهن فادخلوا عليهم فنعم العون هن لكم معشر الشياطين.
ثم الزموا ثغر اليدين و الرجلين، فامنعوها أن تبطش بما يضركم و تمشي فيه.
و اعلموا أن أكبر أعوانكم على لزوم هذه الثغور مصالحة النفس الأمارة فأعينوها و استعينوا بها و أمدوها و استمدوا منها و كونوا معها على حرب النفس المطمإنة، فاجتهدوا في كسرها و إبطال قواها، و لا سبيل إلى ذلك إلا بقطع موادها عنها، فإذا انقطعت موادها و قويت مواد النفس الأمارة و انطاعت لكم أعوانها، فاستنزلوا القلب من حصنه و اعزلوه عن مملكته وولوا مكانه النفس الأمارة، فإنها لا تأمر إلا بما تهوونه و تحبونه و لا تجيئكم بما تكرهونه البتتة. مع أنها لا تخالفكم في شيء تشيرون به عليها، بل إذا أشرتم عليها بشيء بادرت إلى فعله، فإن أحسستم من القلب منازعة إلى مملكته و أردتم الأمن من ذلك فاعقدوا بينه و بين النفس عقد النكاح، فزينوها و جملوها و أروها إياه في أحسن صورة عروس توجد، و قولوا له: " ذق طعم هذا الوصال و التمتع بهذه العروس كما ذقت طعم الحرب و باشرت مرارت الطعن و الضرب، ثم وازن بين لذت هذه المسألة و مرارت تلك المحاربة، فدع الحرب تضع أوزارها فليست بيوم و تنقضي و إنما هو حرب متصل بالموت، و قواك تضعف عن حرب دائم ".
و قال الشيطان لأعوانه، و استعينوا يا بني بجندين لن تغلبوا معهما، جند الغفلة، فأغفلوا قلوب بني آدم عن الله تعالى و الدار الآخرة بكل طريق فليس لكم شيء أبلغ في تحصيل غرضكم من ذلك، فإن القلب إذا غفل عن الله تعالى تمكنتم منه و من إغوائه. و الثاني جند الشهوات، فزينوها في قلوبهم و حسنوها في أعينهم و صولوا عليهم بهذين العسكرين بجند الغفلة و جند الشهوات فليس لكم من بني آدم أبلغ منهما، و استعينوا على الغفلة بالشهوات و على الشهوات بالغفلة واقرنوا بين الغافلين ثم استعينوا بهما على الذاكر و لا يغلب واحد خمسة، فإن مع الغافلين شيطانين صاروا أربعة و شيطان الذاكر معهم، و إذا رأيتم جماعة مجتمعين على ما يضركم من ذكر الله أو مذاكرة أمره و نهيه و دينه و لم تقدروا على تفريقهم فاستعينوا عليهم ببني جنسهم من الإنس البَطَّالين فقربوهم منهم و شوشوا عليهم بهم.
و بالجملة فأعدوا للأمور أقرانها، و ادخلوا على كل واحد من بني آدم من باب إرادته و شهوته فساعدوه عليها و كونوا له أعوانا على تحصيلها، و إذا كان الله قد أمرهم أن يصبروا لكم و يصابروكم و يرابطوا عليكم الثغور، فاصبروا أنتم و صابروا و رابطوا عليهم بالثغور و انتهزوا فرصكم فِيهِمْ عند الشهوة و الغضب، فلا تصطادون بني آدم في أعظم من هذين الموطنين.
[يقول الشيطان لبنيه] و اعلموا أنه منهم [أي من بني آدم] من يكون سلطان الشهوة عليه أغلب و سلطان غضبه ضعيف مقهور، فخدوا عليه طريق الشهوة و دعوا طريق الغضب. و منهم من يكون سلطان الغضب عليه أغلب فلا تخلوا طريق الشهوة قلبه و لا تعطلوا ثغرها، فإن لم تملك نفسه عند الغضب فإنه الحري أن لا يملك نفسه عند الشهوة، فزوجوا بين غضبه و شهوته وامزجوا أحدهما بالآخر و ادعوه إلى الشهوة من باب الغضب و إلى الغضب من طريق الشهوة.
واعلموا أنه ليس لكم في بني آدم سلاح أبلغ من هذين السلاحين "الشهوة والغضب " و إنما أخرجت أبويهم من الجنة بالشهوة، و إنما ألقيت العداوت بين أولادهم بالغضب. فبه قُطِعَت أرحامهم و أيضا وبه قَطَعْتُ أرحامهم و سفكت دمائهم و به قتل أحد ابني آدم أخاه، و اعلموا أن الغضب جمرة في قلب ابن آدم و الشهوة تثور من قلبه و إنما تطفأ النار بالماء و الصلاة و الذكر و التكبير فإياكم أن تمكنوا بني آدم عند غضبه وشهوته من قُربان الوضوء و الصلاة، فإن ذلك يطفأ عنهم نار الغضب و الشهوة و قد أمرهم نبيهم صلى الله عليه و سلم بذلك فقال :" إن الغضب جمرة في قلب ابن آدم، أما رأيتم من احمرار عينيه و انتفاخ أوداجه، فمن أحس بذلك فليتوضأ ". [حديث ضعيف]. و قال لهم [أي النبي صلى الله عليه و سلم] " إنما تطفأ النار بالماء " [وهو ضعيف أيضا]
(قال بعض الشراح: لما جاءت النصيحة من إبليس اللعين لم يحسن إلا أن يؤتي بالأحاديث الضعيفة، و أن الإمام ابن القيم رحمه الله قصد ذلك ).
و قد أوصاهم الله [يقول الشيطان لبنيه] أن يستعينوا عليكم بالصبر و الصلاة، فحولوا بينهم و بين ذلك و أنسوهم إياه و استعينوا عليهم بالشهوة و الغضب و أبلغ أسلحتكم فيهم و أنكاها الغفلة و اتباع الهوى، و أعظم أسلحتهم فيكم و أمنع حصونهم ذكر الله و مخالفة الهوى، فإذا رأيتم الرجل مخالفا لهواه فاهربوا من ظله و لا تدنوا منه.
و المقصود أن الذنوب و المعاصي سلاح و مدد، يمد بها العبد أعدائه و يعينهم بها على نفسه فيقاتلون بسلاحه و يكون معهم على نفسه و هذا غاية الجهل. و من العجب أن العبد يسعى في هوان نفسه و هو يزعم أنه لها مكرم، و يجتهد في حرمانها أعلى حظوظها و أشرفها و هو يزعم أنه يسعى في حظها، و يبدل جهده في تحقيرها و تصغيرها و تدنيسها و هو يزعم أنه يعليها و يرفعها و يكبرها. فكان بعض السلف يقول في خطبته " ألا رُبَّ مهين لنفسه و هو يزعم أنه لها مكرم و مذل لنفسه و هو يزعم أنه لها معز، و مصغر لنفسه و هو يزعم أنه لها مكبر، و مذيع لنفسه و هو يزعم أنه مراع لحفظها، فكفى بالمرأ جهلا أن يكون مع عدوه على نفسه يبلغ منها بفعله ما لم يبلغ منه عدوه و الله تبارك و تعالى المستعان".
و إذن فإن من عقوبات الذنوب و المعاصي أنها مدد من الإنسان يمد به عدوه عليه و جيش يقويه به على حربه، لأن الله تبارك و تعالى ابتلى الإنسان بذلك العدو الذي لا يفارقه طرفة عين و لا ينام عنه و لا يغفل عنه، بل يراه هو و قبيله من حيث لا يراه، و يبدل جهده في معاداته في كل حال، و لا يدع أمرا يكيده به يقدر على إيصاله إليه إلا أوصله إليه، و يستعين عليه من بني جنسه من شياطين الجن و غيرهم من شياطين الإنس، نصب له الحبائل و بغى له الغوائل و مدَّ حوله الأشراك و نصب له الفخاخ و الشباك، و قال لأعوانه دونكم عدوكم و عدو أبيكم لا يفوتكم، و لا يكون حظه الجنة و حظكم النار و نصيبه الرحمة و نصيبكم اللعنة، و قد علمتم أن ما جرى عليَّ و عليكم من الخزي و الإبعاد من رحمة الله بسببه و من أجله، فابدلوا جهدكم أن يكونوا شركائنا في هذه البَلِيَّة إذ فاتتنا شركة صالحيهم في الجنة.
و قد أعلمنا الله سبحانه بذلك كله من عدونا.
رحم الله الشيخ العلامة الفهامة ابن القيم رحمة واسعة و أسكنه فسيح جناته.
فضح الرحمان الرحيم لخطط إبليس اللعين بقلم العلامة الفهامة ابن القيم شمس الدين
من كتاب
الداء و الدواء
...و عَلَّمَ سبحانه عباده كيفية هذه الحرب و الجهاد، فجمعها لهم في أربع كلمات فقال { يا أيها الذين آمنوا اصبروا و صابروا و رابطوا و اتقوا الله لعلكم تفلحون }. و لا يتم أمر هذا الجهاد إلا بهذه الأمور الأربع: فلا يتم له الصبر إلا بمصابرة العدو و هي مقاومته و منازلته، فإذا صابر عدوه احتاج إلى أمر آخر و هو المرابطة، و هي لزوم ثغر القلب و حراصته لئلا يدخل معه العدو، و الثغر هو الموضع الذي يخاف هجوم العدو منه، و لزوم ثغر العين و اللسان و البطن و اليد و الرجل، فهذه الثغور منها يدخل العدو، فيجوس خلال الديار و يفسد ما قُدِّرَ أن يقدر عليه.
فالمرابطة لزوم هذه الثغور و لا يُخْلِي مكانها فَيُصَادِفَ العدو الثغر خاليا فيدخل منه. فهؤلاء أصحاب رسول الله صلى الله عليه و على آله و سلم خير الخلق بعد النبيين و المرسلين و أعظمهم حماية و حراصة من الشيطان الرجيم، و قد أخلو المكان الذي أمروا بلزومه يوم أُحُد، فدخل منه العدو فكان ما كان.
و جماع هذه الثلاثة " اصبروا و صابروا و رابطوا" و عمودها الذي تقوم به هو تقوى الله تعالى، فلا ينفع الصبر و لا المصابرة و لا المرابطة إلا بالتقوى، و لا تقوم التقوى إلا على ساق الصبر، فانظر الآن ( و هنا الشاهد) إلى إلتقاء الجيشين و اصطدام العسكرين، و كيف تُدَالُ مرة و يُدَالُ عليك مرة أخرى:
أقبل مَلِكُ الكَفَرَة [يعني إبليس اللعين] بجنوده و عساكره، فوجد القلب في حصنه جالسا على كرسي مملكته، أمرهُ نَافِدٌ في أعوانه و جنده قد حَفُّوا به، يقاتلون عنه و يدافعون عن حوزته، فلم يُمكنه الهجوم إلا بمخامرة بعض أُمرائه و جنده عليه [يعني باستمالتهم إليه]، فسأل عن أَخصِّ الجند به و أقربهم منه منزلة فقيل له هي النفس. فقال لأعوانه، أدخلوا عليها من مرادها و انظروا مواقع محبتها و ما هو محبوبها، فَعِدُوهَا به، و مَنُّوهَا إياه، و انقشوا صورة المحبوب فيها في يقظتها و في منامها، فإذا اطمأنت إليه و سكنت عنده، فاطرحوا عليها كلاليب الشهوة، و خطاطيفها ثم جروها بها إليكم، فإذا خامرة على القلب و خانة [ يعني صارت عليه بالغش و الخديعة ] و صارت معكم عليه ملكتم ثغور العين و الأذن و اللسان و الفم و اليد و الرجل، فرابطوا على هذه الثغور كلَّ المرابطة، فمتى دخلتم منها إلى القلب فهو قتيل أو أسير، أو جريح مثخن بالجراحات، و لا تُخلوا هذه الثغور، و لا تُمكِّنوا سرية تدخل فيها [ أي في الثغور المذكورة ] إلى القلب فتخرجكم منها، و إن غلبتم فاجتهدوا في إضعاف السرية ووهنها حتى لا تصل إلى القلب و إن وصلت إليه وصلت ضعيفة لا تغني عنه شيئا.
فإذا استوليتم على هذه الثغور، فامنعوا ثغر العين أن يكون نظر اعتبار، بل اجعلوا نظره تفرجا و استحسانا وتلهيا، فإن استرق نَظْرَةَ عِبرَةٍ، فأفسدوها عليه بنظرة الغفلة و الإستحسان و الشهوة، فإنه أقرب إليه و أعلق بنفسه و أخفه عليه، و دونكم ثغر العين فإن منه تنالون بُغْيَتَكُم فاني ما أفسدت بني آدم بشيء مثل النظر، فإني أبدر به في القلب بدر الشهوة، ثم أسقيه بماء الأمنية، ثم لا أزال أعده و أمنيه حتى أقوي عزيمته، و أقدوه بزمام الشهوة إلى الإنخلاع من العصمة، فلا تهملوا أمر هذا الثغر و أفسدوه بحسب استطاعتكم، و هَوِّنُوا عليه أمره، و قولوا له: مقدار نظرة تدعوك إلى تسبيح الخالق و التأمل لبديع صنيعه و حسن هذه الصورة التي إنما خلقة ليستدل بها الناظر عليه، و ما خلق الله لك العينين سدى، و ما خلق الله هذه الصورة ليحجبها عن النظر.
و إن ظفرتم به قليل العلم فاسد العقل، فقولوا له: هذه الصورة مظهر من مظاهر الحق و مَجْلاً من مجاليه، فادعوه إلى القول بالإتحاد، فإن لم يقبل، فالقولِ بالحلول العام أو الخاص، و لا تقنعوا منه بدون ذلك، فإنه يصير به من إخوان النصارى، فامروه حينئذ بالعفة و الصيانة و العبادة و الزهد في الدنيا، و اصطادوا عليه و به الجهال، فهذا من أكبر خلفائي و أكبر جندي، بل أنا من جنده و أعوانه.
ثم امنعوا ثغر الأذن أن يدخل منه ما يفسد عليكم الأمر، فاجتهدوا ألا تدخلوا منه إلا الباطل، فإنه خفيف على النفس تستحليه و تستحسنه، تخيروا له أعذب الألفاظ و أسحرها للألباب و امزجوه بما تهوى النفس مزجى، و ألقوا الكلمة فإن رأيتم منه إصغاءً إليه، فزجوه بأخواتها و كلما صادفتم منه استحسان شيئ فالهجوا له بذكره، و إياكم أن يدخل من هذا الثغر شيئ من كلام الله أو كلام رسوله أو كلام النصحاء. فإن غلبتم على ذلك و دخل من ذلك شيئ [ يعني من كلام الله أو كلام رسوله أو كلام النصحاء ] فحولوا بينه و بين فهمه و التفكر فيه و العظة به، إما بادخال ضده عليه وإما بتهويل ذلك و تعظيمه و أن هذا أمر قد حيل بين النفوس و بينه فلا سبيل لها إليه و هو حمل يتقل عليها لا تستقل به. و إما بإرخاصه على النفوس، و أن الإشتغال ينبغي أن يكون بما هو أغلى عند الناس و أعزُّ عليهم و أغرب عندهم، و ذُهُونُهُ القابلون له أكثر، و أما الحق فهو مهجور و قائله معرض نفسه للعداوة و الرابح بين الناس أولى بالإيثار و نحو ذلك. فتُدخلون الباطل عليه في كل قالب يقبله و يخف عليه، و تُخرجون له الحق في كل قالب يكرهه و يثقل عليه.
و إذا شأت أن تعرف ذلك، فانظر إلى إخوانهم من شياطين الإنس، كيف يخرجون الأمر بالمعروف و النهي عن المنكر في قالب كثرة الفضول، و تتبع عثرات الناس و التعرض من البلاء لما لا يطيق، و إلقاء الفتن بين الناس و نحو ذلك. و يخرجون أتباع السنة ووصف الرب تعالى بما وصف به نفسه ووصفه به رسول صلى الله عليه و سلم في قالب التجسيم و التشبيه و التكييف، و يسمون علو الله على خلقه و استوائه على عرشه و مباينته لمخلوقاته تحيزا، و يسمون نزوله إلى السماء الدنيا و قوله من يسألني فأعطيه [وهو متفق عليه] تحركا و انتقالا، و يسمون ما وصف به نفسه من اليد و الوجه أعضاءً و جوارحاَ، و يسمون ما يقوم به من أفعاله حوادث و ما يقوم به من صفاته أعراضا. ثم يتوصلون إلى نفي ما وصف به نفسه بنفي هذه الأمور و يوهمون الأغمار [الغمر من لا تجربة له] و ضعفاء البصائر أن إثبات الصفات التي نطق بها كتاب الله و سنة رسوله تستلزم هذه الأمور، و يخرجون هذا التعطيل في قالب التنزيه و التعظيم، و أكثر الناس ضعفاء العقول يقبلون الشيء بلفظه و يردونه بعينه بلفظ آخر، قال تعالى { وكذلك جعلنا لكل نبي عدوا شياطين الإنس والجن يوحي بعضهم إلى بعض زخرف القول غرورا } فسماه زخرفا و هو باطل، لأن صاحبه يزخرفه و يزينه ما استطاع إلى ذلك سبيلا و يلقيه إلى سمع المغرور فيغتر به.
ثم يقول الشيطان لأعوانه، قوموا على ثغر اللسان فإنه الثغر الأعظم و هو قُبَالَةُ الملك، فأجروا عليه من الكلام ما يضره و لا ينفعه، و امنعوه أن يجري عليه شيء مما ينفعه من ذكر الله تعالى و استغفاره و تلاوة كتابه و نصيحة عباده و التكلم بالعلم النافع، و يكون لكم في هذا الثغر أمران عظيمان لا تبالون بأيهما ظفرتم: أحدهما التكلم بالباطل، و الثاني السكوت عن الحق.
التكلم بالباطل[يقول للشياطين]، فإن المتكلم بالباطل أخ من إخوانكم و من أكبر جندكم و أعوانكم. و الثاني السكوت عن الحق، فإن الساكت عن الحق أخ لكم أخرس كما أن الأول أخ لكم ناطق. و ربما كان الأخ الثاني أنفع أخويكم لكم، أما سمعتم قول الناصح : المتكلم بالباطل شيطان ناطق و الساكت عن الحق شيطان أخرص، فالرباط الرباط على هذا الثغر أن يتكلم بحق أو يمسك عن باطل، و زينوا له التكلم بالباطل بكل طريق و خوفوه من التكلم بالحق بكل طريق.
و اعلموا يا بني [يقول الشيطان لبنيه و أعوانه] أن ثغر اللسان هو الذي أهلكُ به بني آدم، و أكبهم به على مناخرهم في النار، فكم لي من قتيل و أسير و جريح أخدته من هذا الثغر.
و أوصيكم بوصية فاحفظوها " لينطق أحدكم على لسان أخيه من الإنس بالكلمة و يكون الآخر على لسان السامع فينطق باستحسانها و تعظيمها و التعجب منها و يطلب من أخيه إعادتها " و كونوا أعوانا على الإنس بكل طريق و ادخلوا عليهم من كل باب و اقعدوا لهم كل مرصد، أما سمعتم قسمي الذي أقسمت به لربهم حيث قلت { فبما أعويتني لأقعدن لهم صراطك المستقيم ثم لآتينهم من بين أيديهم و من خلفهم و عن أيمانهم و عن شمائلهم ولا تجد أكثرهم شاكرين } أوما تروني قد قعدت لبني آدم كما بطرقه كلها فلا يفوتني من طريق الا قعدت له بطريق غيره حتى أصيب منه حاجتي أو بعضها و قد حذرهم من ذلك رسولهم صلى الله عليه وسلم و قال لهم " إن الشيطان قد قعد لإبن آدم بطرقه كلها، و قعد له بطريق الإسلام، فقال أتسلم و تدر دينك و دين آبائك ؟ فخالفه و أسلم، فقعد له بطريق الهجرة، فقال أتهاجر و تدر أرضك و سمائك؟ فخالفه و هاجر، فقعد كه بطريق الجهاد، فقال أتجاهد فتقتل فيقسم المال و تنكح الزوجة."
فهكذا [يقول الشيطان] فاقعدوا لبني آدم بكل طرق الخير، فإذا أراد أحدهم أن يتصدق فاقعدوا له على طريق الصدقة و قولوا له في نفسه ' أتخرج المال فتبقى مثل هذا السائل و تصير بمنزلته أنت و هو سواء ' . أو ما سمعتم ما ألقيت على لسان رجل سأله آخر أن يتصدق عليه فقال: هي أموالنا إن أعطيناكموها صرنا مثلكم. واقعدوا له بطريق الحج، فقولوا ' طريقه مخوفة مشقة، يتعرض سالكها لتلف النفس و المال '. و هكذا فاقعدوا على سائر طرق الخير بالتنفير عنها و ذكر صعوباتها و آفاتها.
ثم اقعدوا لهم على طرق المعاصي، فحسنوها في أعين بني آدم و زينوها في قلوبهم و اجعلوا أكثر أعوانكم على ذلك النساء، فمن أبوابهن فادخلوا عليهم فنعم العون هن لكم معشر الشياطين.
ثم الزموا ثغر اليدين و الرجلين، فامنعوها أن تبطش بما يضركم و تمشي فيه.
و اعلموا أن أكبر أعوانكم على لزوم هذه الثغور مصالحة النفس الأمارة فأعينوها و استعينوا بها و أمدوها و استمدوا منها و كونوا معها على حرب النفس المطمإنة، فاجتهدوا في كسرها و إبطال قواها، و لا سبيل إلى ذلك إلا بقطع موادها عنها، فإذا انقطعت موادها و قويت مواد النفس الأمارة و انطاعت لكم أعوانها، فاستنزلوا القلب من حصنه و اعزلوه عن مملكته وولوا مكانه النفس الأمارة، فإنها لا تأمر إلا بما تهوونه و تحبونه و لا تجيئكم بما تكرهونه البتتة. مع أنها لا تخالفكم في شيء تشيرون به عليها، بل إذا أشرتم عليها بشيء بادرت إلى فعله، فإن أحسستم من القلب منازعة إلى مملكته و أردتم الأمن من ذلك فاعقدوا بينه و بين النفس عقد النكاح، فزينوها و جملوها و أروها إياه في أحسن صورة عروس توجد، و قولوا له: " ذق طعم هذا الوصال و التمتع بهذه العروس كما ذقت طعم الحرب و باشرت مرارت الطعن و الضرب، ثم وازن بين لذت هذه المسألة و مرارت تلك المحاربة، فدع الحرب تضع أوزارها فليست بيوم و تنقضي و إنما هو حرب متصل بالموت، و قواك تضعف عن حرب دائم ".
و قال الشيطان لأعوانه، و استعينوا يا بني بجندين لن تغلبوا معهما، جند الغفلة، فأغفلوا قلوب بني آدم عن الله تعالى و الدار الآخرة بكل طريق فليس لكم شيء أبلغ في تحصيل غرضكم من ذلك، فإن القلب إذا غفل عن الله تعالى تمكنتم منه و من إغوائه. و الثاني جند الشهوات، فزينوها في قلوبهم و حسنوها في أعينهم و صولوا عليهم بهذين العسكرين بجند الغفلة و جند الشهوات فليس لكم من بني آدم أبلغ منهما، و استعينوا على الغفلة بالشهوات و على الشهوات بالغفلة واقرنوا بين الغافلين ثم استعينوا بهما على الذاكر و لا يغلب واحد خمسة، فإن مع الغافلين شيطانين صاروا أربعة و شيطان الذاكر معهم، و إذا رأيتم جماعة مجتمعين على ما يضركم من ذكر الله أو مذاكرة أمره و نهيه و دينه و لم تقدروا على تفريقهم فاستعينوا عليهم ببني جنسهم من الإنس البَطَّالين فقربوهم منهم و شوشوا عليهم بهم.
و بالجملة فأعدوا للأمور أقرانها، و ادخلوا على كل واحد من بني آدم من باب إرادته و شهوته فساعدوه عليها و كونوا له أعوانا على تحصيلها، و إذا كان الله قد أمرهم أن يصبروا لكم و يصابروكم و يرابطوا عليكم الثغور، فاصبروا أنتم و صابروا و رابطوا عليهم بالثغور و انتهزوا فرصكم فِيهِمْ عند الشهوة و الغضب، فلا تصطادون بني آدم في أعظم من هذين الموطنين.
[يقول الشيطان لبنيه] و اعلموا أنه منهم [أي من بني آدم] من يكون سلطان الشهوة عليه أغلب و سلطان غضبه ضعيف مقهور، فخدوا عليه طريق الشهوة و دعوا طريق الغضب. و منهم من يكون سلطان الغضب عليه أغلب فلا تخلوا طريق الشهوة قلبه و لا تعطلوا ثغرها، فإن لم تملك نفسه عند الغضب فإنه الحري أن لا يملك نفسه عند الشهوة، فزوجوا بين غضبه و شهوته وامزجوا أحدهما بالآخر و ادعوه إلى الشهوة من باب الغضب و إلى الغضب من طريق الشهوة.
واعلموا أنه ليس لكم في بني آدم سلاح أبلغ من هذين السلاحين "الشهوة والغضب " و إنما أخرجت أبويهم من الجنة بالشهوة، و إنما ألقيت العداوت بين أولادهم بالغضب. فبه قُطِعَت أرحامهم و أيضا وبه قَطَعْتُ أرحامهم و سفكت دمائهم و به قتل أحد ابني آدم أخاه، و اعلموا أن الغضب جمرة في قلب ابن آدم و الشهوة تثور من قلبه و إنما تطفأ النار بالماء و الصلاة و الذكر و التكبير فإياكم أن تمكنوا بني آدم عند غضبه وشهوته من قُربان الوضوء و الصلاة، فإن ذلك يطفأ عنهم نار الغضب و الشهوة و قد أمرهم نبيهم صلى الله عليه و سلم بذلك فقال :" إن الغضب جمرة في قلب ابن آدم، أما رأيتم من احمرار عينيه و انتفاخ أوداجه، فمن أحس بذلك فليتوضأ ". [حديث ضعيف]. و قال لهم [أي النبي صلى الله عليه و سلم] " إنما تطفأ النار بالماء " [وهو ضعيف أيضا]
(قال بعض الشراح: لما جاءت النصيحة من إبليس اللعين لم يحسن إلا أن يؤتي بالأحاديث الضعيفة، و أن الإمام ابن القيم رحمه الله قصد ذلك ).
و قد أوصاهم الله [يقول الشيطان لبنيه] أن يستعينوا عليكم بالصبر و الصلاة، فحولوا بينهم و بين ذلك و أنسوهم إياه و استعينوا عليهم بالشهوة و الغضب و أبلغ أسلحتكم فيهم و أنكاها الغفلة و اتباع الهوى، و أعظم أسلحتهم فيكم و أمنع حصونهم ذكر الله و مخالفة الهوى، فإذا رأيتم الرجل مخالفا لهواه فاهربوا من ظله و لا تدنوا منه.
و المقصود أن الذنوب و المعاصي سلاح و مدد، يمد بها العبد أعدائه و يعينهم بها على نفسه فيقاتلون بسلاحه و يكون معهم على نفسه و هذا غاية الجهل. و من العجب أن العبد يسعى في هوان نفسه و هو يزعم أنه لها مكرم، و يجتهد في حرمانها أعلى حظوظها و أشرفها و هو يزعم أنه يسعى في حظها، و يبدل جهده في تحقيرها و تصغيرها و تدنيسها و هو يزعم أنه يعليها و يرفعها و يكبرها. فكان بعض السلف يقول في خطبته " ألا رُبَّ مهين لنفسه و هو يزعم أنه لها مكرم و مذل لنفسه و هو يزعم أنه لها معز، و مصغر لنفسه و هو يزعم أنه لها مكبر، و مذيع لنفسه و هو يزعم أنه مراع لحفظها، فكفى بالمرأ جهلا أن يكون مع عدوه على نفسه يبلغ منها بفعله ما لم يبلغ منه عدوه و الله تبارك و تعالى المستعان".
و إذن فإن من عقوبات الذنوب و المعاصي أنها مدد من الإنسان يمد به عدوه عليه و جيش يقويه به على حربه، لأن الله تبارك و تعالى ابتلى الإنسان بذلك العدو الذي لا يفارقه طرفة عين و لا ينام عنه و لا يغفل عنه، بل يراه هو و قبيله من حيث لا يراه، و يبدل جهده في معاداته في كل حال، و لا يدع أمرا يكيده به يقدر على إيصاله إليه إلا أوصله إليه، و يستعين عليه من بني جنسه من شياطين الجن و غيرهم من شياطين الإنس، نصب له الحبائل و بغى له الغوائل و مدَّ حوله الأشراك و نصب له الفخاخ و الشباك، و قال لأعوانه دونكم عدوكم و عدو أبيكم لا يفوتكم، و لا يكون حظه الجنة و حظكم النار و نصيبه الرحمة و نصيبكم اللعنة، و قد علمتم أن ما جرى عليَّ و عليكم من الخزي و الإبعاد من رحمة الله بسببه و من أجله، فابدلوا جهدكم أن يكونوا شركائنا في هذه البَلِيَّة إذ فاتتنا شركة صالحيهم في الجنة.
و قد أعلمنا الله سبحانه بذلك كله من عدونا.
رحم الله الشيخ العلامة الفهامة ابن القيم رحمة واسعة و أسكنه فسيح جناته.