إِنَّ الْحَمْدَ لِلَّهِ نَحْمَدُهُ وَنَسْتَعِينُهُ مَنْ يَهْدِهِ اللَّهُ فَلَا مُضِلَّ لَهُ ومَنْ يُضلل فَلَا هَادِيَ لَهُ وَأَشْهَدُ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ وَحْدَهُ لَا شَرِيكَ لَهُ وَأَنَّ مُحَمَّدًا عَبْدُهُ وَرَسُولُهُ: أَمَّا بَعْدُ
فإنَّنا ونحن نعيش هذه الأيام المباركة لابد لنا أخي المسلم من ملاحظة مراد الله –عز وجل- من تشريع صيام رمضان، ثم ملاحظة هدي السلف في هذا الشهر العظيم في تعليمهم وعباداتهم ، فإنَّ الله – عز وجل- له في كل عبادة حِكَمٌ مقصودة ، وقد قال رب العزة والجلال في خصوص عبادة الصوم ((يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ)) وقال رسوله –صلى الله عليه وسلم- وهو المبلغ عن ربه : مَنْ لَمْ يَدَعْ قَوْلَ اَلزُّورِ وَالْعَمَلَ بِهِ, وَالْجَهْلَ, فَلَيْسَ لِلَّهِ حَاجَةٌ فِي أَنْ يَدَعَ طَعَامَهُ وَشَرَابَهُ"؟ [أخرجه البخاري]
ألا وإنَّ التقوى: فعل الطاعات واجتناب المحرمات، يقول طلق بن حبيب –رحمه الله- أَنْ تَعْمَلَ بِطَاعَةِ اللَّهِ عَلَى نُورٍ مِنْ اللَّهِ تَرْجُو رَحْمَةَ اللَّهِ وَأَنْ تَتْرُكَ مَعْصِيَةَ اللَّهِ عَلَى نُورٍ مِنْ اللَّهِ تَخَافَ عَذَابَ اللَّهِ " [1] وهذا النور الذي يتكلم عنه ما هو إلا العلم قال مالك -رحمه الله-: " إنما العلم نور يضعه الله عز وجل في القلوب " [2]، فالتقوى مآلها إلى العلم والعمل، فإذا عَلِمت فاعمل وإذا عَمِلت علَّمك الله مالم تعلم، كما قال سبحانه : (( وَاتَّقُوا اللَّهَ وَيُعَلِّمُكُمُ اللَّهُ وَاللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ )) ، وأخرج أبي شيبة في مصنفه عَنْ عَوْنِ بْنِ عَبْدِ اللهِ ، قَالَ : إنَّ مِنْ كَمَالِ التَّقْوَى أَنْ تَبْتَغِيَ إِلَى مَا عَلِمْت مِنْهَا عِلْمَ مَا لَمْ تَعْلَمْ ، وَاعْلَمْ أَنَّ النقص فِيمَا عَلِمْت تَرْكَ ابْتِغَاءِ الزِّيَادَةِ فِيهِ ، وَإِنَّمَا يُحْمَلُ الرَّجُلُ عَلَى تَرْكِ ابْتِغَاءِ الزِّيَادَةِ فِيمَا قَدْ عَلِمَ قِلَّةَ الاِنْتِفَاعِ بِمَا قَدْ عَلِمَ". [3]
وفي هذا يقول ابن تيمية –رحمه الله-: "لَكِنَّ الْقَلْبَ هُوَ الْأَصْلُ، وَالْبَدَنَ فَرْعٌ لَهُ وَالْفَرْعُ يُسْتَمَدُّ مِنْ أَصْلِهِ، وَالْأَصْلُ يَثْبُتُ وَيَقْوَى بِفَرْعِهِ " [4]
فإذا كانت هذه مآلات التقوى وهذا هو شهر التقوى فحريٌ بك أخي المسلم المحب للسنة أن تكون رافع راية هذا العسكر، فتقود عزائمك وجوارحك إلى محاربة النفس والشيطان والهوى لتحقيق التقوى، فليكن هذا الشهر شهر علم وعمل، شهر تطهير النفس من تلك الرزايا التي سترها الله عليك حلمًا وصبرًا، فاغتنم هذا الشهر لتترك الغيبة والنميمة والكذب والتحريش بين الناس والكلام في دين الله بالجهل ....، واحذر ثم احذر من مخادعة النفسة ومجاملتها ومداهنتها، فالله (( يَعْلَمُ خَائِنَةَ الْأَعْيُنِ وَمَا تُخْفِي الصُّدُورُ ))، فإذا أنت اليوم اغتررت وركنت إلى بعض المظاهر –وإن كانت شرعية- دون تحقيق إيمان القلب واطمئنانه فأنت في غي وضلال، فاحذر ثم احذر أن تنخلع من الدين إلا من ثوب ولحية وسواك، واحذر ثم احذر أن تُشابه بعض الجماعات التي صاحت بالسنة ثم شابهت المرجئة فلم تُقِم على ما تعتقده ولاءً ولا براءً ، فاحذر أن تكون مثلهم في علمك، فتعلم ولا تعمل!، وتدبر كم تعرف من أحكام الفرائض وكم ضيعت منها؟ كم تعرف من السنن في الصلاة والزكاة وصلة الأرحام وقيام الليل وتدبر القرآن ... كم تعرف من هذه السنن ولم تعمل بها؟ ثم كم جهلت من أحكام صلاتك وصيامك وزكاتك وعمرتك وحجك ؟ كم جهلت من أحكام هذه الأركان التي هي أركان هذا الدين ؟ فضلا عن غيرها من الشرائع والطاعات؟
فليكن هذا الشهر أخي الحبيب شهر تجديد التوبة، وشهر إصلاح العلم والعمل ، فاجعل هذا الشهر لمراجعة نفسك ودعك من الناس ، هذا الشهر لك - لعيوبك ونقائصك لا لفلان وعلان، فإنّ من الغبن أن تصيح في غيرك وأنت تغرق منذ سنين.
فالله الله في أن تكون مشاركاتكم في رمضان تصب في تحقيق حكمة الله من هذا الشهر فنريد أن نتعلم أحكام ديننا، ونريد أن نرقق قلوبنا ، ونصلح أخلاقنا ، ونعيد ترتيب أولوياتنا!.
فليكن حالنا فيه محققًا لقول معاذ -رضي الله عنه- "اجْلِسْ بِنَا نُؤْمِنْ سَاعَةً" [5]
ثم أنصحكم في آخر أمري: بكتب السلف فاغترفوا منها وأفيدوا إخوانكم المسلمين بما حوته من الدرر، وهكذا الكتب التي يسَّرت لنا فقه الكتاب والسنة وأوقفتنا على عظيم آيات الله وإرشاداته التي أوحاها إلى نبيه -عليه الصلاة والسلام- ككتب الحافظ ابن القيم-رحمه الله- (الداء والدواء، ومدارج السالكين، وعدة الصابرين، مفتاح دار السعادة..الخ) وهكذا (مختصر منهاج القاصدين) للإمام ابن قدامة -رحمه الله- فإنَّ فيها وأمثالها خيرٌ عظيم.
هذا وأعتذر عن الإطالة والله المستعان وعليه التكلان والحمدلله رب العالمين.
كتبه : أبوصهيب عاصم الأغبري
الهامش:
[1] [أخرج ابن المبارك في الزهد (1343) و هناد في الزهد (522)]
[2] [رواه الجوهري في مسند الموطأ والخطيب في الجأمع لأخلاق..]
[3] [برقم (36106) وظاهر سنده الصحة]
[4] [مج 7-541]
[5] علقه البخاري، ووصله ابن أبي شيبة في مصنفه.