قال ابن القيم رحمه الله في بيت الله الحرام:
" ومِن خواصِّه أنه يُعاقب فيه على الهمِّ بالسيئات وإن لم يفعلها، قال تعالى{وَمَن يُرِدْ فِيهِ بِإِلْحَادٍ بِظُلْمٍ نّذِقْهُ مِنْ عَذَابٍ أَلِيمٍ} [الحج: 25] فتأمل. كيف عدى فعل الإِرادة هاهنا بالباء، ولا يقال: أردتُ بكذا إلا لما ضمِنَّ معنى فعل (هم) فإنه يقال: هممت بكذا، فتوعدَ من هم بأن يَظلم فيه بأن يُذيقه العذَابَ الألِيم.
وَمِن هذا تضاعفُ مقادير السيئات فيه، لا كمياتُها، فإن السيئة جزاؤها سيئة، لكن سيئة كبيرة، وجزاؤها مثلها، وصغيرة جزاؤها مثلها، فالسيئة في حَرَمِ اللّه وبلده وعلى بساطه آكدُ وأعظمُ منها في طرف من أطراف الأرض، ولهذا ليس من عصى الملكَ على بساط مُلكه كمن عصاه في الموضع البعيد من داره وبِساطه، فهذا فصلُ النزاع في تضعيف السيئات، واللّه أعلم.
وقد ظهر سرُّ هذا التفضيل والاختصاص في انجذاب الأفئدة، وهوى القلوب وانعطافها ومحبتها لهذا البلدِ الأمين، فجذبُه للقلوب أعظمُ من جذب المغناطيس للحديد، فهو الأولى بقول القائل:
مَحَاسِنُهُ هَيُولَى كُلِّ حُسْنٍ ** وَمَغْنَاطِيسُ أفْئدَةِ الرِّجَالِ
ولهذا أخبر سبحانه أنه مثابةٌ للناس، أي: يثوبون إليه على تعاقب الأعوام من جميع الأقطار، ولا يَقضون منه وطراً، بل كلما ازدادوا له زيارة، ازدادوا له اشتياقا.
لاَ يَرْجِعُ الطَّرْفُ عَنْهَا حِينَ يَنْظُرُها ** حَتَّى يَعُود إلَيْهَا الطَّرْفُ مُشْتَاقاً
فلله كم لها مِن قتيل وسليبٍ وجريح، وكم أُنفِقَ في حبها من الأموال والأرواح، وَرَضِيَ المحب بمفارقةِ فِلَذِ الأكباد والأهل، والأحباب والأوطان، مقدِّماً بين يديه أنواع المخاوف والمتالف، والمعاطف والمشاق، وهو يستلِذُ ذلك كلَّه ويستطيبُه، ويراه - لو ظهر سلطانُ المحبة في قلبه -أطيب من نِعَمِ المتحلية وترفهم ولذاتهم.
وَلَيْسَ مُحِبًّا مَنْ يَعُدُ شَقَاءَه ** عَذَابَاً إِذَا مَا كَانَ يَرْضَى حَبيبُهُ
" ومِن خواصِّه أنه يُعاقب فيه على الهمِّ بالسيئات وإن لم يفعلها، قال تعالى{وَمَن يُرِدْ فِيهِ بِإِلْحَادٍ بِظُلْمٍ نّذِقْهُ مِنْ عَذَابٍ أَلِيمٍ} [الحج: 25] فتأمل. كيف عدى فعل الإِرادة هاهنا بالباء، ولا يقال: أردتُ بكذا إلا لما ضمِنَّ معنى فعل (هم) فإنه يقال: هممت بكذا، فتوعدَ من هم بأن يَظلم فيه بأن يُذيقه العذَابَ الألِيم.
وَمِن هذا تضاعفُ مقادير السيئات فيه، لا كمياتُها، فإن السيئة جزاؤها سيئة، لكن سيئة كبيرة، وجزاؤها مثلها، وصغيرة جزاؤها مثلها، فالسيئة في حَرَمِ اللّه وبلده وعلى بساطه آكدُ وأعظمُ منها في طرف من أطراف الأرض، ولهذا ليس من عصى الملكَ على بساط مُلكه كمن عصاه في الموضع البعيد من داره وبِساطه، فهذا فصلُ النزاع في تضعيف السيئات، واللّه أعلم.
وقد ظهر سرُّ هذا التفضيل والاختصاص في انجذاب الأفئدة، وهوى القلوب وانعطافها ومحبتها لهذا البلدِ الأمين، فجذبُه للقلوب أعظمُ من جذب المغناطيس للحديد، فهو الأولى بقول القائل:
مَحَاسِنُهُ هَيُولَى كُلِّ حُسْنٍ ** وَمَغْنَاطِيسُ أفْئدَةِ الرِّجَالِ
ولهذا أخبر سبحانه أنه مثابةٌ للناس، أي: يثوبون إليه على تعاقب الأعوام من جميع الأقطار، ولا يَقضون منه وطراً، بل كلما ازدادوا له زيارة، ازدادوا له اشتياقا.
لاَ يَرْجِعُ الطَّرْفُ عَنْهَا حِينَ يَنْظُرُها ** حَتَّى يَعُود إلَيْهَا الطَّرْفُ مُشْتَاقاً
فلله كم لها مِن قتيل وسليبٍ وجريح، وكم أُنفِقَ في حبها من الأموال والأرواح، وَرَضِيَ المحب بمفارقةِ فِلَذِ الأكباد والأهل، والأحباب والأوطان، مقدِّماً بين يديه أنواع المخاوف والمتالف، والمعاطف والمشاق، وهو يستلِذُ ذلك كلَّه ويستطيبُه، ويراه - لو ظهر سلطانُ المحبة في قلبه -أطيب من نِعَمِ المتحلية وترفهم ولذاتهم.
وَلَيْسَ مُحِبًّا مَنْ يَعُدُ شَقَاءَه ** عَذَابَاً إِذَا مَا كَانَ يَرْضَى حَبيبُهُ
وهذا كلُّه سرُّ إضافته إليه سبحانه وتعالى بقوله: {أَن طَهّرَا بَيْتِيَ} [الحج: 26] فاقتضت هذه الإِضافة الخاصة من هذا الإِجلال والتعظيم والمحبة مَا اقتضته، كما اقتضت إضافته لعبده ورسوله إلى نفسه ما اقتضته من ذلك، وكذلك إضافته عبادَه المؤمنين إليه كستهم من الجلال والمحبة والوقار ما كستهم، فكلُّ ما أضافه الرَّبُّ تعالى إلى نفسه، فله من المزية والاختصاص على غيره ما أوجب له الاصطفاءَ والاجتباءَ، ثم يكسوه بهذه الإِضافة تفضيلاً آخر، وتخصيصاً وجلالة زائداً على ما كان له قبل الإِضافة، ولم يُوفق لفهم هذا المعنى من سوَّى بين الأعيان والأفعال، والأزمان والأماكن، وزعم أنه لا مزية لشيء منها على شيء، وإنما هو مجرد الترجيح بلا مرجح، وهذا القول باطل بأكثر من أربعين وجهاً قد ذكرت في غير هذا الموضع، ويكفي تصوُرُ هذا المذهب الباطلِ في فساده، فإن مذهباً يقتضي أن تكون ذواتُ الرسل كذوات أعدائهم في الحقيقة، وإنما التفضيل بأمر لا يرجع إلى اختصاص الذوات بصفات ومزايا لا تكون لغيرها، وكذلك نفسُ البقاع واحدة بالذات ليس لبقعة على بُقعة مزية البتة، وإنما هو لما يَقع فيها من الأعمال الصالحة، فلا مزية لبقعة البيت، والمسجد الحرام، ومِنى وعرفة والمشاعر على أي بقعة سميتها من الأرض، وإنما التفضيلُ باعتبار أمر خارج عن البقعة لا يعودُ إليها، ولا إلى وصف قائم بها، واللّه سبحانه وتعالى قد رد هذا القولَ الباطلَ بقوله تعالى: {وَإِذَا جَاءَتْهُمْ آيَةٌ قَالُواْ لَن نّؤْمِنَ حَتّىَ نُؤْتَىَ مِثْلَ مَا أُوتِيَ رُسُلُ اللّهِ اللّهُ أَعْلَمُ حَيْثُ يَجْعَلُ رِسَالَتَهُ سَيُصِيبُ الّذِينَ أَجْرَمُواْ صَغَارٌ عِندَ اللّهِ وَعَذَابٌ شَدِيدٌ بِمَا كَانُواْ يَمْكُرُونَ} [الأنعام: 124] أي: لَيس كلُّ أحد أهلاً ولا صالحاً لتحمُّل رسالته، بل لها محالٌّ مخصوصة لا تليق إلا بها، ولا تصلح إلا لها، واللّه أعلم بهذه المحالِّ منكم. ولو كانت الذواتُ متساوية كما قال هؤلاء، لم يكن في ذلك ردٌ عليهم، وكذلك قولُه تعالى: {وَكَذَلِكَ فَتَنّا بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ لّيَقُولوَاْ أَهَؤُلاءِ مَنّ اللّهُ عَلَيْهِم مّن بَيْنِنَا أَلَيْسَ اللّهُ بِأَعْلَمَ بِالشّاكِرِينَ} [الأنعام: 53] أي: هو سبحانه أعلمُ بمن يشكره على نعمته، فيختصه بفضله، وَيَمُنُّ عليه ممن لا يشكره،فليس كلُّ محلٍ يصلح لشكره، واحتمال منته، والتخصيص بكرامته."
------------------
زاد المعاد لشيخ الإسلام ابن القيم رحمه الله
------------------
زاد المعاد لشيخ الإسلام ابن القيم رحمه الله
تعليق