بيان أن أقوال الصحابة وفتاويهم أولى بالأخذ من غيرها والرد على من زعم رفع ثقته بالمأثور عنهم*
هذا بحث عظيم يجب على كل من شدا طرفاً من العلم أن يلقي السمع إليه ، ذلك لأن كثيراً من الناس إذا ذكر له مذهب صحابي في مسألة ما تراه لا يرفع له رأساً ، اتكاء على أنه ليس ممن لقن العمل به ، وربما تطاول فقال: إنه ليس له ممن دوّن مذهبه . ولما كان هذا مما لا يستهان به في الدين ، إذ مثل هذا القول منكر عند الراسخين ، وجب إزاحة اللبس فيه إرشاداً للمتقين ، وذلك لأن الصحابة رضوان الله عليهم في المقام الأسنى والمحل الأعلى في كل علم وعمل ، وفضل ونبل .
قال الإمام ابن القيم رحمه الله في ( إعلام الموقعين ) : كما أن الصحابة سادة الأمة وأئمتها وقادتها فهم سادات المفتين والعلماء ، قال مجاهد : العلماء أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم . ونقل رحمه الله عن الشافعي أنه قال في الصحابة : هم فوقنا في كل علم واجتهاد وورع وعقل وأمر استدرك به علم ، وآراؤهم لنا أحمد وأولى بنا من رأينا ..الخ .
إذا علمت هذا تبين لك أن ما جاء في ( جمع الجوامع ) للسبكي من أن في تقليد الصحابي قولين ، أحدهما المنع لارتفاع الثقة بمذهبه إذ لم يدون ، وعزو شارحه ذلك لإمام الحرمين الجويني والمحققين ( يعني مقلدة الجويني وأتباعه ) كلام مجمل لا يغتر بظاهره ، ويؤخذ من كلام غير واحد من الأئمة رده . بل السبكي نفسه رد ذلك وقال – كما نقله عنه الزركشي وتراه في حواشيه : إن تحقق ثبوت مذهبه ( أي الصحابي ) جاز تقليده اتفاقاً .
وقد سئل العز بن عبد السلام[1] عمن صح عنده مذهب أبي بكر أو غيره من علماء الصحابة في شيء فهل يعدل إلى غيره أم لا ؟ فأجاب بأنه إذا صح عن أحد الصحابة مذهب في حكم من الأحكام فلا يجوز العدول عنه إلا بدليل أوضح من دليله . قال : ولا يجب على المجتهدين تقليد الصحابة في مسائل الخلاف بل لا يحل ذلك في وضوح أدلتهم على أدلة الصحابة . أهـ .
وقال ابن تيمية في بعض فتاويه : وأما أقوال الصحابة فإن اتنشرت ولم تنكر في زمانهم فهي حجة عند جماهير العلماء ، وإن تنازعوا رُدَّ ما تنازعوا فيه إلى الله والرسول ، ولم يكن قول بعضهم حجة مع مخالفة بعضهم له باتفاق العلماء . وإن قال بعضهم قولاً ولم يقل بعضهم بخلافه ولم ينتشر فهذا فيه نزاع ، وجمهور العلماء يحتجون به كأبي حنيفة ومالك وأحمد في المشهور عنه والشافعي في أحد قوليه . أهـ .
والنصوص في العناية بأقوال الصحابة أوفر من أن تحصر ، نقول هذا تمهيدا للأقوال المأثورة في المسح على الجوربين في كتاب السنن لأبي داود وغيره فإنها حجة في هذا الباب على كل من خالف كيفما كان حالها ، لأنها – على ما فصله ابن تيمية وقرره الأصوليون – إما منتشرة غير منكورة ، وما كان كذلك فهو حجة باتفاق ، وإما أنها قال بها بعضهم ولم ينتشر ما يخالفه والجمهور يحتجون بذلك . وقد علم أنه ليس ثم مخالف فينتشر قوله إذ لم يرد عنهم فيه إلا رفعه إلى النبي صلى الله عليه وسلم أو عملهم به علة ما عرفت من روايات متعددة . ومن الجلي في باب الأحكام أن حكماً بلغ عدد رواته والقائلين به والعاملين به ستة عشر لو كانوا من طبقة غير الصحابة لما توقف في قبوله ، فكيف وكلهم من طبقة الصحابة عليهم رحمة الله ورضوانه .
هذا كله على فرض أنه لم يرو في الباب – أي باب المسح على الجوربين – إلا قولهم فقط ، وإلا فقد قدمنا ما روي فيه من الأحاديث التي هي الحجة في هذا الباب والمردُّ عند التنازع ( وإذا جاء نهر الله بطل نهر معقل ) . وإنما هذه الجملة ينبغي أن ينتبه لها الذين لا يأبون إلا التقليد ليعلموا أن من آثر التقليد فالأحرى به تقليد الصحابة لأنهم الأعلم ، وأجمع الأصوليون على أنه يقدم – في باب التقليد – الأعلم . قال ابن القيم في أعلام الموقعين : فلا يدرى ما عذر المقلد في ترجيح أقوال غير الصحابة على أقوالهم ، فكيف إذا منع الأخذ بقول الصحابة ، فكيف إذا صار يرمى بالابتداع من عمل بها ؟! لا جرم أنه أخذ بالمثل المشهور : رمتني بدائها وانسلت . أهـ .
وأما شبهة عدم الوثوق بما يؤثر مذهباً للصحابة إذ لم يدون مذهبهم ، فأوهى من بيت العنكبوت لأن كلامنا فيما نقل عنهم في الكتب الموثوق بها المتداولة في الأيدي من كتب السنة والفقه لا سيما الصحيحان وكتب السنن ، فقد حفظت من الزيادة والنقص بقوة العناية بها شرحاً وضبطاً ووفرة النسخ المخطوطة المعلم عليها بسماعات الحفاظ في معظم المكتبات مما لا يوجد نظيره في كتب أئمة الفقه المشهورة مذاهبهم . ولا ريب أن ذلك من معجزات الرسول صلى الله عليه وسلم إذ قيض الله لسنته من حفظها كما فعل ذلك بتنزيله الكريم ، وله الحمد والمنة .
على أن المعول عليه منذ انتشر التأليف والتصنيف هو النقل عن الموجود الذي تثق به النفس – سواء كان مقابلاً كله على أصله أو لا- ما دام يغلب على الظن صحته ويطمئن له القلب ، وهو المسمى بالوجادة . ولذا اعترض الإمام المقبلي في ( العلم الشامخ ) على تصريحهم بعدم اعتماد الوجادة بأن هذا يناقضه ، إذ هو – أي قولهم المذكور – وجادة ليس إلا . قال : وأما الوثوق فهو شرط في كل طريق . أهـ .
بل على الوجادة المذكورة اعتماد القضاة والمفتين والمستنبطين ، إذ يتعذر إسناد كل كتاب إلى مؤلفه وضبطه عنه بالسماع والقراءة في كل الطبقات ، على أن كتب الحديث وجد فيها من الضبط والتلقي والشرح لها وتعداد نسخها المصححة تفاخراً بقراءتها وتشرفاً بسماعها وتلقيها والإجازة لها ما لم يوجد عُشر عشره في مؤلفات الأئمة الأربعة ولا غيرهم ، ولو أريد نسخ كتاب من مؤلفات الأئمة أو طبعه يحول دون الظفر بنسخ كاملة منه ما يحول [2] ، ولا يرى غالباً بعد التنقيب إلا أجزاء متفرقة أو نسخة مخرومة ، مع أن حق مقلدة أئمتها أن ينسخوا منها في كل قرن الألوف وأن يخدموها بالقراءة والإقراء والنشر والشروح . ولقد حرصت مرة على أن أظفر بنسخة مخطوطة من رسالة الإمام الشافعي أو بشرح لها لأقابل بها المطبوعة وأنسخ الشرح فلم أجد لها من أثر في مكتبة من مكاتب القطر الشامي ، أين هذا من نسخ كتب الصحيحين والسنن المخطوطة التي امتلأت منها مكاتب الدنيا ، ولا يعيي الظفر بجيداتها على طالب ما . أفليس الوثوق إذن بكتب السنة وما فيها من المرفوع والموقوف (وهو أقوال الصحب وفتاويهم) أقوى في النفس من غيرها ؟ اللهم فبلى .
ومما يؤيد ما قدمناه في الوجادة ما في تدريب الراوي للسيوطي شرح تقريب النواوي في أواخر بحث الصحيح ، وعبارته [3] : عن الإمام ابن برهان في الأوسط : ذهب الفقهاء كافة إلى أنه لا يتوقف العمل بالحديث على سماعه ، بل إذا صح عنده النسخة جاز له العمل بها وإن لم يسمع .
وحكى الأستاذ أبو إسحاق الإسفرايني الإجماع على جواز النقل من الكتب المعتمدة ، وأنه لا يشترط اتصال السند إلى مصنفيها . وقال إلْكِيا الطبري في تعليقه : من وجد حديثاً في كتاب صحيح جاز له أن يرويه ويحتج به .
وقال الشيخ عز الدين بن عبد السلام في جواب سؤال : وأما الاعتماد على كتب الفقه الصحيحة الموثوق بها فقد اتفق العلماء في هذا العصر على جواز الاعتماد عليها ، والاستناد إليها ، لأن الثقة قد حصلت بها كما تحصل بالرواية ، ولذلك اعتمد الناس على الكتب المشهورة في النحو واللغة والطب وسائر العلوم لحصول الثقة بها وبُعْد التدليس . أهـ .
فتأمل تظاهر أقوال الأئمة على اعتماد ما في كتب الفقه وغيرها تعلم أنه إذا وجد فيها نقل عن صحابي أو حكاية مذهب له أنه يوثق به ويعمل بلا ارتياب ، ويكون أولى من غيره في باب التقليد لمن شاءه ، فافهم ولا تكن أسير التقليد .
الهوامش:
1 /شرح خليل للحطاب جزء (1) ص 31 .
2 /وهذا ما وقع عند طبع كتاب ( الأم ) للشافعي ، فقد احتاجوا إلى جمع أجزائها من مختلف البلدان . وقس على كتاب الأم أمثاله من مؤلفات الأئمة .
3 /ص 49 .
*نقلا من كتاب : المسح على الجوربين للعلامة الشام محمد جمال الدين القاسمي رحمه الله طبعت بدمشق سنة 1332 هـ . /قدَّم له العلامة أحمـد محمد شاكر /حَقَّـقَّه المحدّث ناصر الدين الألباني رحمه الله.
وأسأل الله التوفيق والعون والسداد . إنه سميع الدعاء .