بين الإمام أحمد والشيخ ربيع
و محنة أهل السنة
كتبهو محنة أهل السنة
أبو عبد الرحمن رائد بن عبد الجبار المهداوي
الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، وعلى آله وصحبه ومن اهتدى بهداه، أما بعد:
فهذه أمثلة - والأمثلة كثيرة – على إقدام إمام أهل السنة ومحنتهم أحمد بن حنبل على تبديع وهجر من خالف السنة وانحرف عن المنهج، بأشياء ربما يراها كثيرون بأنها يسيرة؛ لكن لما كانت الفتنة بها كبيرة كان قطع دابر أصحابها وهجرهم وجرحهم هو طريقة السلف ومنهجهم.
فكيف لو رأى الإمام أحمد متفلسفة زماننا، المدافعين بكل ما أوتوا من قوة عن الحزبيين والتكفيريين والضُّلاّل، والمزكّين لهم ولجمعياتهم؟!
كيف لو رأى من يصحح "المفاسد"، ويطوّح "الأصول والقواعد"؟!
كيف لو رأى من يصول ويجول في الرد على السلفيين والتشنيع عليهم – ويدعي النسبة لهم – وفي المقابل يرتمي في أحضان أهل الضلال، ويجاملهم، ويداهنهم، ويحامي عنهم بالزور والبهتان؟!
ماذا سيكون حكم الإمام أحمد على من كان هذا شأنه؟!
لقد مات الإمام أحمد، ولكنّ منهجه ومنهج سائر إخوانه أئمة أهل السنة لم يمت، يتوارثه العلماء جيلاً بعد جيل، ويعضون عليه بالنواجذ، ويبذلون الغالي والنفيس دفاعاً عنه، واستمراراً لوجوده.وإليك الأمثلة:
(1) يعقوب بن شيبة (ت262) كان من كبار أصحاب أحمد بن المعدّل، وأخذ عنه القول بالوقف؛ أي: التوقف في القرآن؛ فلا هو يقول بقول الجهمية والمعتزلة بأنه مخلوق، ولا يعتقد ما عليه أهل الحديث وأئمة السلف من نفي الخليقة عن القرآن وتكفير الجهمية.
فلما أظهر يعقوب بن شيبة هذا المذهب الرديء في بغداد بدّعه الإمام احمد، وحذّر من تقليده القضاء، وقال: مبتدع صاحب هوى.
فهل شفع ليعقوب بن شيبة "مسنده" الذي قال فيه الذهبي: "الكبير، العديم النظر، المعلل، الذي تم من مسانيده نحوُ من ثلاثين مجلداً، ولو كمل لجاء في مئة مجلد"؟!
والجواب: كلا؛ فإنّ الإمام أحمد لم ينظر إلى ما كان عليه هذا الرجل من النسبة إلى أهل الحديث، والتصنيف فيه، فلما أظهر بدعته بدّعه وحذّر منه.
وانظر ترجمته في "السير" للذهبي – رحمه الله – (12/476).
(2) الحسين بن يزيد الكرابيسي (ت 24 هو أول من فتق اللفظ، قال: لفظي بالقرآن مخلوق، وهي بدعة اللفظية، ورغم أنّه وضّح قصده وهو: فعل العبد (التلفظ) وليس كلام الله (الملفوظ) إلا أنّ الإمام أحمد بدّعه، وهجره، كي لا يُتذرّع بمثل هذه الفلسفة التي لم يعرفها السلف إلى القول بخلق القرآن، وإنما كان بلاؤهم – كما قال الإمام احمد – من هذه الكتب التي وضعوها وتركوا الآثار.
قال ابن عدي: "سمعت محمد بن عبد الله الصيرفي الشافعي يقول لتلامذته: اعتبروا بالكرابيسي، وبأبي ثور، فالحسين (أي: الكرابيسي) في علمه وحفظه لا يَعْشِرُهُ ( أي: لا يصل إلى عشر ذلك فيه) أبو ثور، فتكلم فيه أحمد بن حنبل في باب مسألة اللفظ، فسقط، وأثنى على أبي ثور، فارتفع للزومه للسنة"
وانظر ترجمته في "السير" للذهبي – رحمه الله – (12/79).
وتأمّل – وفقك الله – كلام الصيرفي السابق لتعلم أنَّ العبرة بلزوم منهج السلف الصالح قولاً حقاً، وتطبيقاً، والثبات عليه، فبهذا ينال المرء ثناء أئمة السنة – وهم موجودون في كل زمان – وتأييدهم ودعاءهم، فيرفع الله ذكره، ويعلي شأنه، ويجعل له القبول بين طلاب الحق ومريديه.
أما الذي يحاول التلاعب بالقواعد والأصول السلفية، ويستخدم أسلوب التمويه والخداع والتلبيس في تمرير باطله المكشوف، ويؤلف في ذلك منهجه؛ "منهج القبائح والفضائح" إصراراً على ما هو عليه وعناداً؛ فسقوطه محتّم - إن لم يتدارك نفسه قبل فوات الأوان – كما سقط قبله كثيرون قديماً وحديثاً.
ولما أصرّ الكرابيسي وعاند ووقع في الإمام أحمد وتكلم به بلغ ذلك يحيى بن معين فقال: ما أحوجه إلى أن يضرب، وشتمه.
فانظر بارك الله فيك بعين الإنصاف – لا بالتعصب والاعتساف – إلى موقف يحيى بن معين ممن وقع في الإمام أحمد والذي ما صدر منه إلا لما كان يعتبر الإمام أحمد محنة أهل السنة؛ فمن أحبه كان سنياً، ومن أبغضه وتكلم فيه كان مبتدعاً.
والعلامة الشيخ ربيع في هذا الزمان صار علماً على السنة، والحق، والرد على المخالفين والمنحرفين؛ من قطبية، وإخوان، وتبليغ، وتكفيريين، وغلاة، ومميعين... فهو – بحق – محنة أهل السنة.
فمن أحبه ديانة وقربةً وأظهر ذلك كان على السنة ولا شك، ومن أبغضه، وعاداه، ولمزه، أو طعن فيه وأظهر ذلك، كان على البدعة ولا كرامة.
(3) الحارث بن أسد المحاسبي (ت243) لما تكلم في الخطرات، والوساوس، واللفظ في القرآن، ودخل في شيء يسير من علم الكلام، وصنف الكتب في ذلك، هجره الإمام أحمد، فاختفى مدة في دار ببغداد ومات فيها ولم يصل عليه إلاَّ أربعة نفر كما في "السير"، و"تاريخ بغداد".
قال أبو زرعة الرازي – وسئل عن المحاسبي وكتبه -: "إياك وهذه الكتب، هذه كتب بدع وضلالات، عليك بالأثر تجد غنية، هل بلغكم أنّ مالكاً والثوري والأوزاعي صنفوا في الخطرات والوساوس؟ ما أسرع الناس إلى البدع!"
وانظر ترجمته في "السير" للإمام الذهبي – رحمه الله – (12/110)
(4) إسماعيل بن إبراهيم بن مِقْسَم الشهير بـ "ابن عُلَيَّة" (ت193).
وهو ثقة ثبت حافظ إمام في الحديث، وقد تكلم في شيء يسير في القرآن؛ وذلك انّه حدّث بحديث: "تجئ البقرة وآل عمران كأنهما غمامتان تحاجان عن صاحبهما" فقيل له: ألهما لسان؟ قال: نعم. فقالوا: إنه يقول بخلق القرآن.
وفي الحقيقة هو لم يقل بخلق القرآن، وإنما غلط وتوسّع في العبارة في شيء لم يتوسع به السلف، وكما قال الذهبي – رحمه الله – في ترجمة الخليفة الأمين (9/339): "حاشاه ذلك – أي ابن علية – بل قال عبارة تلزمه بعض ذلك"
ثم إنه قد تاب من ذلك كله – رحمه الله – على رؤوس الأشهاد.
فماذا كان موقف الإمام أحمد منه؟
قال الفضل بن زياد: "سألت أحمد بن حنبل عن وهيب وابن علية: أيهما أحب إليك إذا اختلفا؟ فقال: وهيب، وما زال إسماعيل وضيعاً من الكلام الذي تكلم فيه إلى أن مات.
قلت: أليس قد رجع، وتاب على رؤوس الناس ؟
قال: بلى، ولكن ما زال لأهل الحديث بعد كلامه ذلك مبغضاً، وكان لا ينصف في الحديث، كان يحدث بالشفاعات، وكان معنا رجل من الأنصار يختلف إلى الشيوخ، فأدخلني عليه، فلما رآني، غضب، وقال: من أدخل هذا علي؟" [السير (9/111)]
وقال الإمام أحمد: "بلغني أنه أدخل على الأمين، فلما رآه زحف، وجعل يقول: يا ابن الفاعلة! تتكلم في القرآن؟ وجعل إسماعيل يقول: جعلني الله فداك، زلة من عالم".
ثم قال أحمد: "إن يغفر الله له: - يعني الأمين - فبها"
ثم قال أحمد: "وإسماعيل ثبت" [السير (9/ 111، 112، 339)]
وقال الإمام أحمد: "لزمت إسماعيل عشر سنين إلى أن أُعيب، ثم جعل يحرك رأسه كأنَّه يتلهف، ثم قال: وكان لا ينصف في التحدث"[السير (9/112)]
فالإمام أحمد لم تمنعه إمامة إسماعيل بن علية في الحديث من انتقاده والكلام فيه، بل وترك لزومه لماَّ "أُعيب" بسبب مقالته في القرآن، والتي ليست قولاً بخلقه، وإنما توسع في شيء لم يتوسع به السلف، قد يفضي إلى القول بخلق القرآن، أو أنّ مقالته تلزمه بعض ذلك.
ولم يعد إسماعيل ابن علية عند الإمام أحمد بعد ذلك مقدماً حتى بعد توبته من مقالته تلك، قال: " وما زال إسماعيل وضيعاً من الكلام الذي تكلم فيه إلى أن مات ... ما زال لأهل الحديث بعد كلامه ذلك مُبغِضَاً..".
وفي هذا المثال رد سلفي على أبي الفتن المأربي مصطفى بن إسماعيل المصري؛ الذي ضلل الشباب عندما سئل عن المغراوي فأثنى عليه وزكاه ورفعه وجعله من الأئمة الكبار، ثم خوّف من انتقاده لمكانته وجهوده، وأنه:
"لا نستطيع أن نطيح بالجبال، ونمسك بالقواطي".
و"نطيح بالجبل القائم الأشم، مش ممكن، ولا يمكن هذا يكون".
و"نتكلم ونطعن في العمالقة ونناطح الصخور والجبال؟!".
وابن عليّة – رحمه الله – لا يعشره المغراوي في العلم، بل ليس بشيء أمامه، ومع ذلك لم يعمل الإمام أحمد بهذه الأصول الفاسدة، وإنما انتقد وخطّأ وجرّح، وبدّع.
وانظر "مجموع ردود الشيخ ربيع على أبي الحسن المأربي".
أقول: وما أشبه الفتنة المأربية القديمة، بالفتنة الحلبية الجديدة، من حيث الأصول الفاسدة، والقواعد الكاسدة، والشبهات الملقاة، والعداوة الشديدة للسلفيين الحق، ولعلي أفرد هذا الموضوع – أوجه الشبه بين الفتنة الحلبية والفتنة المأربية – بمقال إن شاء الله.
(5) علي بن الجعد بن عبيد أبو الحسن البغدادي (ت230):
وهو من أئمة حفظ الحديث ومسنديه وأوعيته، وله "المسند"، روى عنه البخاري، وأبو داود، وخلق كثير.
قال صالح بن محمد: سمعت خلف بن سالم يقول: صرت أنا وأحمد بن حنبل وابن معين إلى علي بن الجعد، فأخرج إلينا كتبه، وألقاها بين أيدينا، وذهب، وظننا أنه يتخذ لنا طعاماً، فلم نجد في كتبه إلا خطأً واحداً، فلما فرغنا من الطعام، قال: هاتوا، فحدث بكل شيء كتبناه حفظاً.
فروى عنه الإمام أحمد يسيراً ثم ضرب عليه في كتابه، وكان لا يرى الكتابة عنه؛ لأنه بلغه أنّه يقع في الصحابة، كعبد الله بن عمر، وعثمان، وأنّه كان لا ينكر على من قال: القرآن مخلوق.
قال أبو جعفر العقيلي: قلت لعبد الله بن أحمد: لم تكتب عن علي بن الجعد؟ قال: نهاني أبي أن أذهب إليه، وكان يبلغه عنه أنه يتناول الصحابة.
قال زياد بن أيوب: سأل رجل أحمد بن حنبل عن علي بن الجعد، فقال الهيثم: ومثله يسأل عنه!؟ فقال أحمد: أمْسِك أبا عبد الله، فذكره رجل بشرٍّ، فقال أحمد: ويقع في أصحاب رسول الله؟ فقال زياد بن أيوب: كنت عند علي بن الجعد، فسألوه عن القرآن، فقال: القرآن كلام الله، ومن قال: مخلوق، لم أعنفه، فقال أحمد: بلغني عنه أشد من هذا.
وقال أبو زرعة: كان أحمد بن حنبل لا يرى الكتابة عن علي بن الجعد، ولا سعيد بن سليمان، ورأيته في كتابه مضروبا عليهما.
وانظر ترجمته في" السير" للذهبي (10/ 459)، و"تهذيب الكمال" (4623).
(6) سعيد بن سليمان، أبو عثمان الضَّبِّيُّ الواسطيُّ البزّاز الشهير بسعدويه. (ت225)
وكان كثير الحديث، ثقة، حافظاً ثبتاً إماماً فيه، وكان من أهل السنة، لكنّه أجاب في محنة القول بخلق القرآن تَقِيّةً، فكان الإمام أحمد يغضُّ منه، ولا يرى الكتابة عنه.
انظر ترجمته في "السير" للذهبي (10/481).
فانظر رحمك الله كيف نزلت رتبته وغُضَّ منه عند الإمام أحمد، ولم يعد ممن يكتب عنه رغم أنّ إجابته في المحنة كانت تَقيّةً؛ أي خوفاً من السوط والسيف لا اعتقاداً، ومنهجاً.
فكيف بمن يتولّى أهل البدع، ويحامي عنهم، ويجعلهم كالجبال، ويخوّف من انتقادهم وجرحهم، ويتستر عليهم، ويؤويهم، ويأنس بهم، ويدعي سلفيتهم، ويشن حرباً على أهل السنة الذين يحذرون منه ومنهم، وكل ذلك - منه - صراحة، وعلانية، وعلى رؤوس الأشهاد، وليس تَقِيّةً، ألا يقال فيه – في أقل أحواله -: غُضَّ منه، ولا نرى الكتابة عنه، ولا السماع له، ولا اقتناء كتبه، ونزلت مرتبته؟!
فلعل في هذه الآثار والمواقف السلفية ذكرى لـ"كل السلفيين" و"السعيد يعتق، والشقي يوبق" والله الموفق.
ومنهم :
(7)عبد الملك بن عبد العزيز، القشيريُّ مولاهم، النسويُّ، الدقيقيُّ، أبو نصر التمّار، نزيل بغداد. (ت22
وكان ثقة زاهداً، سمع من جماعة منهم: حماد بن زيد، وحماد بن سلمة، ومالك بن انس، وخلق سواهم. وحدث عنه مسلم، وأبو زرعة، وأبو حاتم، وأبو يعلى الموصلي وغيرهم.
لكنّه لمّا أجاب في محنة "خلق القرآن" كان الإمام أحمد لا يرى الكتابة عنه، رغم أنّ إجابته كانت "تقية وخوفاً من النكال"
بل وصل الحد عند إمام الورع والسنة إلى أكثر من ذلك؛ بأن هجرَ جنازته.
قال أبو الحسن الميموني - فيما ذكره الذهبي في "السير" (10/573) -: "صح عندي أنّه - يعني أحمد – لم يحضر أبا نصر التمّار حين مات، فحسبت أنّ ذلك لمَّا كان أجاب في المحنة".
ومنهم :
( إبراهيم بن المنذر بن عبد الله القرشي الأسدي الحزامي المدني ت(236)
كان من أهل الحديث ثقة حافظاً، سمع من مالك بن أنس الإمام، وسفيان بن عيينة، والوليد بن مسلم، وعبد الله بن وهب، وغيرهم، وحدث عنه البخاري، وابن ماجه، وأخرج له الترمذي والنسائي وغيرهم.
لكنّه لمّا خلّط في القرآن وخذل أهل الحديث زمن المحنة، وخرج إلى ابن أبي دؤاد رأس الفتنة والشر هجره الإمام أحمد، وتكلم فيه وذمّه، ولم يأذن له في الدخول عليه، ولم يردّ عليه سلامه.
قال عبدان بن أحمد الهمذاني: سمعت أبا حاتم الرازي يقول: "إبراهيم بن المنذر، وإبراهيم بن حمزة؛ إبراهيم بن المنذر أعرف بالحديث إلا انه خلَّط في القرآن؛ جاء إلى أحمد بن حنبل فاستأذن عليه فلم يأذن له، وجلس حتى خرج، فسلم عليه فلم يرد عليه السلام"
وقال أبو بكر الأثرم: سمعت أبا عبد الله - يعنى أحمد بن حنبل – يقول: "أي شيء يبلغني عن الحزامي! لقد جاء بعد قدومه من العسكر، فلما رأيته أخذتني الحمية فقلت: ما جاء بك إلي؟!" قالها أبو عبد الله بانتهار، قال: فراح فلقي أبا يوسف يعنى عم أبي عبد الله، فجعل يعتذر.
وقال زكريا بن يحيى الساجي: "إبراهيم بن المنذر الحزامي بلغني أنَّ أحمد بن حنبل كان يتكلم فيه ويذمه، وقصد إليه ببغداد ليسلم عليه فلم يأذن له، وكان قدم إلى بن أبي دؤاد قاصداً من المدينة"
وانظر ترجمته في "السير" للذهبي (10/689)، و"تاريخ بغداد" للخطيب (6/179).
فرحم الله الإمام أحمد وبلّغه درجات الصدّيقين، ووالله إنني أتقرب إلى الله بحبه، وحب منهجه وصدقه وثباته وصبره، وأتقرّب إلى الله ببغض وهجر من أبغضه أو لمزه أو طعن فيه وفيمن سار على منهجه من أئمة الهدى في السنة، ومعاملة المبتدع.
وكلما قرأ السلفي سيرة هذا العَلَم بإنصاف كلما عرف المنهج السلفي أكثر ورسخ فيه.
قال علي بن المديني: "إنّ الله أيّد هذا الدين بأبي بكر الصديق يوم الردّة، وبأحمد بن حنبل يوم المحنة" ["تاريخ بغداد" للخطيب (4/41، و"طبقات علماء الحديث" لابن عبد الهادي (2/83)]
وهذا ابن معين على جلالته وإمامته أجاب في المحنة تقية، فلم ير الإمام أحمد الكتابة عنه بعد ذلك،
وهو صاحبه وقرينه في الطلب، فقال يحيى بن معين - رحمه الله - اعترافاً بفضل أحمد وإمامته وتقدمه: "أرادوا أن أكون مثل أحمد، والله لا أكون مثله أبداً" ["طبقات علماء الحديث" (2/83)]
وهذا الإمام ربيع السنة قد أصاب حظاً وافراً مما كان عليه الإمام أحمد، ثباتاً، وصبراً، وصدعاً بالحق، وتنكيلاً بالمبتدعة والمميعين.
فهلاّ اعترف الحلبي بأنّه ليس كالإمام ربيع و لن يكون مثله، بدلاً من حسده له، والإرصاد لحربه، وحرب منهجه ودعوته؟!
نسألك اللهم السلامة.
(9) أبو مَعْمَر، إسماعيل بن إبراهيم بن معمر الهُذَلي الهَرَوي ثم البغدادي القَطِيعيّ، (ت236).
قال عنه الذهبي: "الإمام الحافظ الكبير الثبت". [السير (11/69)]
سمع من شريك، وابن عيينة، وابن المبارك، وإسماعيل بن عياش، وخلق سواهم من الأعلام، وحدث عنه البخاري، ومسلم، وأبو داود، وأبو زرعة، وأبو حاتم، وبقي بن مخلد، وعبد الله بن الإمام أحمد، وأبو يعلى الموصلي، وخلق سواهم.
وكان "ثقة ثبتاً، صاحب سنة واتباع" فيما نقله الذهبي عن ابن سعد في طبقاته.
وقال عبيد بن شريك البزار: "كان أبو معمر القطيعي من شدة إدلاله بالسنة يقول: لو تكلمت بغلتي لقالت: إنها سنية.قال: فأُخذ في محنة القرآن، فأجاب،فلما خرج، قال: كفرنا وخرجنا."
قال عبد الله بن أحمد بن حنبل: سمعت أبا معمر الهذلي، يقول: "من زعم أن الله لا يتكلم، ولا يسمع، ولا يبصر، ولا يرضى، ولا يغضب، فهو كافر. إن رأيتموه واقفا على بئر، فألقوه فيها. بهذا أدين الله عز وجل"
أما الإمام أحمد؛ فترك الكتابة عنه، لما امتحن في فتنة خلق القرآن فأجاب، ولم يلتفت إلى ما يظهره من السنة في الصفات، ولا إلى ما كان عليه من الاتباع والإدلال بالسنة. ولا شك أنَّ إجابته لم تكن عن رضىً واعتقاد، وإنما تقية وخوفاً من السيف أو الضرب والنكال.
وصنيع الإمام أحمد هذا مع كل من كان على السنة وأجاب في المحنة تقية ليس تبديعاً لهم، وإنما إشعار بنزول مرتبتهم - في السنة - عن الإمامة.
وهذا بخلاف غيرهم ممن امتحن:
- فأجاب عن اعتقاد.
- أو توقف في المحنة؛ فلا هو ينفي الخليقة عن القرآن ويكفر الجهمية، ولا هو ممن يقول بخلقه.
- أو قال: لفظي بالقرآن مخلوق.
فهذه الأصناف الثلاثة كان حكم الإمام أحمد فيهم واضحاً جلياً بالتبديع والتضليل.
والطائفة الثانية (الواقفة) من أخطر الطوائف وأعظمها أثراً وسوءاً على أهل السنة و الحديث لما يقومون به من خذلان للحق وأهله، ولأنّ في توقفهم نصرة ضمنية للباطل وحزبه؛ بعدم تكثير سواد أهل السنة، ولأنهم جسر لأهل البدع يعبرون عليه لحرب أهل السنة.
فهؤلاء الواقفة كان حكم الإمام أحمد فيهم صريحاً بالتبديع، فكيف بمن لم يتوقف؛ وإنما أيّد أهل البدع، ومَنْهَجَ تأييدَه - لهم - وجعله من صلب السلفية وقوامها، وقعّد القواعد من أجل ذلك، وحامى عن أهل الباطل بالزور والبهتان، وأرصد منتدىً لحرب العلماء السلفيين، وأشعل نار فتنة جديدة؛ هذا ولاشك شرٌّ من الواقفة المبتدعة، ومن بدّعه لا شك أنّ له في تبديعه سلف.
وصلى الله على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.