للعبد فيما يصيبه من أذى الخلق وجنايتهم عليه احد عشر مشهدا
((قال العلامة ابن القيم-رحمه الله- للعبد فيما يصيبه من أذى الخلق وجنايتهم عليه احد عشر مشهدا:
المشهد الأول:))القدر)):وهو إن يعلم إن ما جرى عليه بمشيئة الله وقضائه وقدره فيراه كالتأذي بالحر والبرد، والمرض والألم وهبوب الرياح وانقطاع الأمطار، فان الكل أوجبته مشيئة الله فما شاء كان ووجب وجوده وما لم يشأ لم يكن وامتنع وجوده وإذا شهد هذا، استراح وعلم انه كائن لا محالة فما للجزع منه وجه وهو كالجزع من الحر والبرد والمرض والموت.
المشهد الثاني: مشهد((الصبر))فيشهده ويشهد وجوبه وحسن عاقبته وجزاء أهله وما يترتب عليه من الغبطة والسرور ويخلصه من ندامة المقابلة والانتقام فما انتقم احد لنفسه قط إلا أعقبه ذلك ندامة.وعلم انه إن لم يصبر اختيارا على هذا-وهو محمود- صبر اضطرارا على أكثر منه وهو مذموم.
المشهد الثالث:مشهد ((العفو والصفح والحلم)) فانه متى شهد ذلك وفضله وحلاوته وعزته لم يعدل عنه إلا لغبش في بصيرته.فانه ما زاد الله عبدا بعفو إلا عزا.كما صح ذلك عن النبي-صلى الله عليه وسلم-وعلم بالتجربة والوجود.وما انتقم احد لنفسه إلا ذل، هذا وفي الصفح والعفو والحلم من الحلاوة والطمأنينة وشرف النفس وعزها ورفعتها عن تشفيها بالانتقام ما ليس شيء منه في المقابلة والانتقام.
المشهد الرابع:وهو مشهد(( الرضا ))وهو فوق مشهد العفو والصفح وهذا لا يكون إلا للنفوس المطمئنة، سيما إن كان ما أصيبت به سببه القيام لله.فإذا كان ما أصيب به في الله وفي مرضاته ومحبته رضيت بما نالها في الله.وهذا شان كل محب صادق يرضى بما يناله في رضى محبوبه من المكاره.ومتى تسخط به أو تشكى منه كان دليلا على كذبه في محبته والواقع شاهد بذلك والمحب الصادق كما قال منشد:
من أجلك جعلت خدي أرضا***للشامت والحسود حتى ترضى
ومن لم يرضى بما يصيبه في سبيل رضا محبوبه فلينزل عن درجة المحبة وليتأخر فليس من ذا الشأن.
المشهد الخامس:مشهد ((الإحسان)) وهو ارفع مما قبله وهو إن يقابل إساءة المسيء بالإحسان فيحسن إليه كما أساء هو إليه.ويهون هذا عليه علمه بأنه قد ربح عليه وانه قد اهدي إليه حسناته ومحاها من صحيفته وأثبتها في صحيفة من أساء إليه فينبغي إن تشكره وتحسن إليه بما لانسبة له إلى ما أحسن به أليك وههنا ينفع استحضار مسالة اقتضاء الهبة الثواب وهذا المسكين قد وهبك حسناته فان كنت من أهل الكرم فأثبه عليها لتثبت الهبة وتامن رجوع الواهب فيها.
وفي هذا حكايات معروفة عن أرباب المكارم وأهل العزائم ويهونه عليك-أيضا- علمك بان الجزاء من جنس العملفان كان هذا عملك في إساءة المخلوق أليك عفوت عنه وأحسنت إليه مع حاجتك وضعفك وفقرك وذلك.فهكذا يفعل المحسن القادر العزيز الغني بك في أساءتك.يقابلها بما قابلت به إساءة عبده أليك، فهذا لا بد منه وشاهده في السنة من وجوه كثيرة لمن تأملها.
المشهد السادس:مشهد((السلامة وبرد القلب))وهو مشهد شريف جدا لمن عرفه وذاق حلاوته وهو إن لا يشتغل قلبه وسره بما ناله من الأذى وطلب الوصول إلى درك ثأره وشفاء نفسه بل يفرغ قلبه من ذلك ويرى إن سلامته وبرده وخلوه منه انفع له.وألذ وأطيب واعون على مصالحه، فان القلب إذا اشتغل بشيء فأته ما هو أهم عنده.وخير له منه.فيكون بذلك مغبونا والرشيد لا يرضى بذلك ويرى انه من تصرفات السفيهفأين سلامة القلب من امتلائه بالغل والوساوس وأعمال الفكر من إدراك الانتقام؟؟.
المشهد السابع:مشهد((الأمن ))فانه إذا ترك المقابلة والانتقام آمن ما هو شر من ذلك وإذا انتقم واقعه الخوف ولا بد فان ذلك يزرع العداوة والعاقل لا يامن عدوه ولو كان حقيرا.
لا تحقرن صغيرا في تقلبه***إن الذبابة تدمي الأسد
فكم من حقير أردى عدوه الكبير؟؟فإذا غفر ولم ينتقم ولم يقابل امن من تولد العداوة أو زيادتها.ولا بد إن حلمه وعفوه وصفحه يكسر عنه شوكة عدوه ويكف من جزعه بعكس الانتقام والواقع شاهد بذلك-أيضا-.
المشهد الثامن:مشهد((الجهاد))وهو إن يشهد تولد أذى الناس له من جهاده في سبيل الله وأمرهم بالمعرف ونهيهم عن المنكر وإقامة دين الله وإعلاء كلماته.
وصاحب هذا المقام قد اشترى الله منه نفسه وماله وعرضه بأعظم ثمن فان أراد إن يسلم إليه الثمن فليسلم هو السلعة ليستحق ثمنها فلا حق له على من آذاه ولا شيء له قبله إن كان قد رضي بعقد هذا التبايع فانه قد وجب أجره على الله.
وهذا ثابت بالنص وإجماع الصحابة-رضي الله عنهم-ولهذا منع النبي-صلى الله عليه وسلم-المهاجرين من سكن مكة-اعزها الله-ولم يرد على احد منهم داره ولا ماله الذي أخذه الكفار.ولم يضمنهم دية من قتلوه في سبيل الله.
ولما عزم الصديق-رضي الله عنه- على تضمين أهل الردة ما أتلفوه من نفوس المسلمين وأموالهم، قال عمر بن الخطاب-رضي الله عنه- بمشهد من الصحابة-رضي الله عنهم-:تلك دماء وأموال ذهبت في الله وأجورها على الله ولا دية لشهيد فاتفق الصحابة على قول عمر ووافقه عليه الصديق فمن قام لله حتى أوذي في الله-حرام عليه الانتقام-كما قال لقمان لابنه:(وأمر بالمعروف وانه عن المنكر واصبر على ما أصابك إن ذلك من عزم الأمور).
المشهد التاسع:مشهد((النعمة))وذلك من وجوه:
احدها:إن يشهد نعمة الله عليه في إن جعله مظلوما يترقب النصر ولم يجعله ظالما يترقب المقت والأخذ فلو خير العاقل بين الحالتين-ولا بد من احدهما-لاختار إن يكون مظلوما.
ومنها:إن يشهد نعمة الله عليه في التكفير بذلك من خطاياه فانه ما أصاب المؤمن من هم ولا غم ولا أذى إلا كفر الله به من خطاياه فذلك-في الحقيقة- دواء يستخرج به منه داء الخطايا والذنوب ومن رضي إن يلقى الله بأدوائه كلها وأسقامه..ولم يداوه في الدنيا بدواء يوجب له الشفاء فهو مغبون سفيه.فأذى الخلق لك كالدواء الكريه من الطبيب المشفق عليك فلا تنظر إلى مرارة الدواء وكراهته من كان على يديه وانظر إلى شفقة الطبيب الذي ركبه لك وبعثه أليك على يدي من نفعك بمضرته.
ومنها:إن يشهد كون تلك البلية أهون وأسهل من غيرها فانه ما من محنة إلا وفوقها ما هو أقوى منها وأمر، فان لم يكن فوقها محنة في البدن والمالفلينظر إلى سلامة دينه وإسلامه وتوحيده.وان كل مصيبة دون مصيبة الدين هينة، وانهنا بالنسبة لمصيبة الدين في الحقيقة نعمة والمصيبة الحقيقية مصيبة الدين.
ومنها:توفية أجرها وثوابها يوم الفقر والفاقة.وفي بعض الآثار:انه يتمنى أناس يوم القيامة إن جلودهم كانت تقرض بالمقاريض لما يرون من ثواب أهل البلاء.هذا وان العبد يشتد فرحه يوم القيامة بما له قبل الناس من الحقوق في المال والنفس والعرضفالعاقل يعد هذا ذخرا ليوم الفقر والفاقة.ولا يبطله بالانتقام الذي لا يجدي عليه شيئا.
المشهد العاشر:مشهد((الأسوة))وهو مشهد شريف لطيف جدا، فان العاقل اللبيب يرضى إن يكون له أسوة برسل الله، وأنبيائه وأوليائه وخاصته من خلقه فإنهم اشد امتحانا بالناس وأذى الناس أليهم أسرع من السيل في الحدور.
ويكفي تدبر قصص الأنبياء-عليهم السلام- مع أممهم وشان نبينا محمد-صلى الله عليه وسلم-وأذى أعدائه له بما لم يؤذه من قبله وقد قال له ورقة بن نوفل: (لتكذبن ولتخرجن ولتؤذين)وقال له:ما جاء احد بمثل ما جئت به إلا عودي.وهذا مستمر في ورثته كما كان في مورثهم-صلى الله عليه وسلم-.
أفلا يرضى العبد إن يكون له أسوة بخيار خلق الله وخواص عباده الامثل فالامثل؟؟؟؟
ومن أحب معرفة ذلك فليقف على محن العلماء وأذى الجهال لهم، وقد صنف في ذلك ابن عبد البر كتابا سماه((محن العلماء)).
المشهد الحادي عشر:مشهد((التوحيد))وهو اجل المشاهد وارفعهافإذا امتلأ قلبه بمحبة الله والإخلاص له ومعاملته وإيثار مرضاته والتقرب إليه وقرت العين به والأنس به والاطمئنان إليه وسكن إليه واشتاق إلى لقاءه واتخذه وليا دون ما سواه بحيث فوض إليه أموره كلها ورضي به وباقضيته وفنى بحبه وخوفه ورجائه وذكره والتوكل عليه عن كل ما سواه، فانه لا يبقى في قلبه متسع لشهود أذى الناس له البتة.فضلا عن إن يشتغل قلبه وفكره وسره بتطلب الانتقام والمقابلة.فهذا لا يكون إلا من قلب ليس فيه ما يغنيه عن ذلك ويعوضه منه فهو قلب جائع غير شبعان.فإذا رأى أي طعام هفت إليه نوازعه وانبعثت إليه دواعيه وإما من امتلأ قلبه بأغلى الأغذية وأشرفها فانه لا يلتفت إلى ما دونها وذلك فضل الله يؤتيه من يشاء والله ذو الفضل العظيم)).
((فالأمر الناهي-أيده الله تعالى- إذا عامل الناس بمقتضى هذه المشاهد من إقامة أعذارهم والعفو عنهم والصبر عليهم وترك مقابلتهم، اشتدت محبتهم له وكان ذلك سببا لنجاتهم الأخروية والدنيوية إذ يرشدهم ذلك إلى القبول منه وتلقي ما يأمرهم وينهاهم عنه أحسن التلقي)).
منقول من كتاب((الكنز الأكبر))للشيخ عبد الرحمن أبي بكر الحنبلي
من ص509 إلى ص512.
أخوكم: الحديدي
((قال العلامة ابن القيم-رحمه الله- للعبد فيما يصيبه من أذى الخلق وجنايتهم عليه احد عشر مشهدا:
المشهد الأول:))القدر)):وهو إن يعلم إن ما جرى عليه بمشيئة الله وقضائه وقدره فيراه كالتأذي بالحر والبرد، والمرض والألم وهبوب الرياح وانقطاع الأمطار، فان الكل أوجبته مشيئة الله فما شاء كان ووجب وجوده وما لم يشأ لم يكن وامتنع وجوده وإذا شهد هذا، استراح وعلم انه كائن لا محالة فما للجزع منه وجه وهو كالجزع من الحر والبرد والمرض والموت.
المشهد الثاني: مشهد((الصبر))فيشهده ويشهد وجوبه وحسن عاقبته وجزاء أهله وما يترتب عليه من الغبطة والسرور ويخلصه من ندامة المقابلة والانتقام فما انتقم احد لنفسه قط إلا أعقبه ذلك ندامة.وعلم انه إن لم يصبر اختيارا على هذا-وهو محمود- صبر اضطرارا على أكثر منه وهو مذموم.
المشهد الثالث:مشهد ((العفو والصفح والحلم)) فانه متى شهد ذلك وفضله وحلاوته وعزته لم يعدل عنه إلا لغبش في بصيرته.فانه ما زاد الله عبدا بعفو إلا عزا.كما صح ذلك عن النبي-صلى الله عليه وسلم-وعلم بالتجربة والوجود.وما انتقم احد لنفسه إلا ذل، هذا وفي الصفح والعفو والحلم من الحلاوة والطمأنينة وشرف النفس وعزها ورفعتها عن تشفيها بالانتقام ما ليس شيء منه في المقابلة والانتقام.
المشهد الرابع:وهو مشهد(( الرضا ))وهو فوق مشهد العفو والصفح وهذا لا يكون إلا للنفوس المطمئنة، سيما إن كان ما أصيبت به سببه القيام لله.فإذا كان ما أصيب به في الله وفي مرضاته ومحبته رضيت بما نالها في الله.وهذا شان كل محب صادق يرضى بما يناله في رضى محبوبه من المكاره.ومتى تسخط به أو تشكى منه كان دليلا على كذبه في محبته والواقع شاهد بذلك والمحب الصادق كما قال منشد:
من أجلك جعلت خدي أرضا***للشامت والحسود حتى ترضى
ومن لم يرضى بما يصيبه في سبيل رضا محبوبه فلينزل عن درجة المحبة وليتأخر فليس من ذا الشأن.
المشهد الخامس:مشهد ((الإحسان)) وهو ارفع مما قبله وهو إن يقابل إساءة المسيء بالإحسان فيحسن إليه كما أساء هو إليه.ويهون هذا عليه علمه بأنه قد ربح عليه وانه قد اهدي إليه حسناته ومحاها من صحيفته وأثبتها في صحيفة من أساء إليه فينبغي إن تشكره وتحسن إليه بما لانسبة له إلى ما أحسن به أليك وههنا ينفع استحضار مسالة اقتضاء الهبة الثواب وهذا المسكين قد وهبك حسناته فان كنت من أهل الكرم فأثبه عليها لتثبت الهبة وتامن رجوع الواهب فيها.
وفي هذا حكايات معروفة عن أرباب المكارم وأهل العزائم ويهونه عليك-أيضا- علمك بان الجزاء من جنس العملفان كان هذا عملك في إساءة المخلوق أليك عفوت عنه وأحسنت إليه مع حاجتك وضعفك وفقرك وذلك.فهكذا يفعل المحسن القادر العزيز الغني بك في أساءتك.يقابلها بما قابلت به إساءة عبده أليك، فهذا لا بد منه وشاهده في السنة من وجوه كثيرة لمن تأملها.
المشهد السادس:مشهد((السلامة وبرد القلب))وهو مشهد شريف جدا لمن عرفه وذاق حلاوته وهو إن لا يشتغل قلبه وسره بما ناله من الأذى وطلب الوصول إلى درك ثأره وشفاء نفسه بل يفرغ قلبه من ذلك ويرى إن سلامته وبرده وخلوه منه انفع له.وألذ وأطيب واعون على مصالحه، فان القلب إذا اشتغل بشيء فأته ما هو أهم عنده.وخير له منه.فيكون بذلك مغبونا والرشيد لا يرضى بذلك ويرى انه من تصرفات السفيهفأين سلامة القلب من امتلائه بالغل والوساوس وأعمال الفكر من إدراك الانتقام؟؟.
المشهد السابع:مشهد((الأمن ))فانه إذا ترك المقابلة والانتقام آمن ما هو شر من ذلك وإذا انتقم واقعه الخوف ولا بد فان ذلك يزرع العداوة والعاقل لا يامن عدوه ولو كان حقيرا.
لا تحقرن صغيرا في تقلبه***إن الذبابة تدمي الأسد
فكم من حقير أردى عدوه الكبير؟؟فإذا غفر ولم ينتقم ولم يقابل امن من تولد العداوة أو زيادتها.ولا بد إن حلمه وعفوه وصفحه يكسر عنه شوكة عدوه ويكف من جزعه بعكس الانتقام والواقع شاهد بذلك-أيضا-.
المشهد الثامن:مشهد((الجهاد))وهو إن يشهد تولد أذى الناس له من جهاده في سبيل الله وأمرهم بالمعرف ونهيهم عن المنكر وإقامة دين الله وإعلاء كلماته.
وصاحب هذا المقام قد اشترى الله منه نفسه وماله وعرضه بأعظم ثمن فان أراد إن يسلم إليه الثمن فليسلم هو السلعة ليستحق ثمنها فلا حق له على من آذاه ولا شيء له قبله إن كان قد رضي بعقد هذا التبايع فانه قد وجب أجره على الله.
وهذا ثابت بالنص وإجماع الصحابة-رضي الله عنهم-ولهذا منع النبي-صلى الله عليه وسلم-المهاجرين من سكن مكة-اعزها الله-ولم يرد على احد منهم داره ولا ماله الذي أخذه الكفار.ولم يضمنهم دية من قتلوه في سبيل الله.
ولما عزم الصديق-رضي الله عنه- على تضمين أهل الردة ما أتلفوه من نفوس المسلمين وأموالهم، قال عمر بن الخطاب-رضي الله عنه- بمشهد من الصحابة-رضي الله عنهم-:تلك دماء وأموال ذهبت في الله وأجورها على الله ولا دية لشهيد فاتفق الصحابة على قول عمر ووافقه عليه الصديق فمن قام لله حتى أوذي في الله-حرام عليه الانتقام-كما قال لقمان لابنه:(وأمر بالمعروف وانه عن المنكر واصبر على ما أصابك إن ذلك من عزم الأمور).
المشهد التاسع:مشهد((النعمة))وذلك من وجوه:
احدها:إن يشهد نعمة الله عليه في إن جعله مظلوما يترقب النصر ولم يجعله ظالما يترقب المقت والأخذ فلو خير العاقل بين الحالتين-ولا بد من احدهما-لاختار إن يكون مظلوما.
ومنها:إن يشهد نعمة الله عليه في التكفير بذلك من خطاياه فانه ما أصاب المؤمن من هم ولا غم ولا أذى إلا كفر الله به من خطاياه فذلك-في الحقيقة- دواء يستخرج به منه داء الخطايا والذنوب ومن رضي إن يلقى الله بأدوائه كلها وأسقامه..ولم يداوه في الدنيا بدواء يوجب له الشفاء فهو مغبون سفيه.فأذى الخلق لك كالدواء الكريه من الطبيب المشفق عليك فلا تنظر إلى مرارة الدواء وكراهته من كان على يديه وانظر إلى شفقة الطبيب الذي ركبه لك وبعثه أليك على يدي من نفعك بمضرته.
ومنها:إن يشهد كون تلك البلية أهون وأسهل من غيرها فانه ما من محنة إلا وفوقها ما هو أقوى منها وأمر، فان لم يكن فوقها محنة في البدن والمالفلينظر إلى سلامة دينه وإسلامه وتوحيده.وان كل مصيبة دون مصيبة الدين هينة، وانهنا بالنسبة لمصيبة الدين في الحقيقة نعمة والمصيبة الحقيقية مصيبة الدين.
ومنها:توفية أجرها وثوابها يوم الفقر والفاقة.وفي بعض الآثار:انه يتمنى أناس يوم القيامة إن جلودهم كانت تقرض بالمقاريض لما يرون من ثواب أهل البلاء.هذا وان العبد يشتد فرحه يوم القيامة بما له قبل الناس من الحقوق في المال والنفس والعرضفالعاقل يعد هذا ذخرا ليوم الفقر والفاقة.ولا يبطله بالانتقام الذي لا يجدي عليه شيئا.
المشهد العاشر:مشهد((الأسوة))وهو مشهد شريف لطيف جدا، فان العاقل اللبيب يرضى إن يكون له أسوة برسل الله، وأنبيائه وأوليائه وخاصته من خلقه فإنهم اشد امتحانا بالناس وأذى الناس أليهم أسرع من السيل في الحدور.
ويكفي تدبر قصص الأنبياء-عليهم السلام- مع أممهم وشان نبينا محمد-صلى الله عليه وسلم-وأذى أعدائه له بما لم يؤذه من قبله وقد قال له ورقة بن نوفل: (لتكذبن ولتخرجن ولتؤذين)وقال له:ما جاء احد بمثل ما جئت به إلا عودي.وهذا مستمر في ورثته كما كان في مورثهم-صلى الله عليه وسلم-.
أفلا يرضى العبد إن يكون له أسوة بخيار خلق الله وخواص عباده الامثل فالامثل؟؟؟؟
ومن أحب معرفة ذلك فليقف على محن العلماء وأذى الجهال لهم، وقد صنف في ذلك ابن عبد البر كتابا سماه((محن العلماء)).
المشهد الحادي عشر:مشهد((التوحيد))وهو اجل المشاهد وارفعهافإذا امتلأ قلبه بمحبة الله والإخلاص له ومعاملته وإيثار مرضاته والتقرب إليه وقرت العين به والأنس به والاطمئنان إليه وسكن إليه واشتاق إلى لقاءه واتخذه وليا دون ما سواه بحيث فوض إليه أموره كلها ورضي به وباقضيته وفنى بحبه وخوفه ورجائه وذكره والتوكل عليه عن كل ما سواه، فانه لا يبقى في قلبه متسع لشهود أذى الناس له البتة.فضلا عن إن يشتغل قلبه وفكره وسره بتطلب الانتقام والمقابلة.فهذا لا يكون إلا من قلب ليس فيه ما يغنيه عن ذلك ويعوضه منه فهو قلب جائع غير شبعان.فإذا رأى أي طعام هفت إليه نوازعه وانبعثت إليه دواعيه وإما من امتلأ قلبه بأغلى الأغذية وأشرفها فانه لا يلتفت إلى ما دونها وذلك فضل الله يؤتيه من يشاء والله ذو الفضل العظيم)).
((فالأمر الناهي-أيده الله تعالى- إذا عامل الناس بمقتضى هذه المشاهد من إقامة أعذارهم والعفو عنهم والصبر عليهم وترك مقابلتهم، اشتدت محبتهم له وكان ذلك سببا لنجاتهم الأخروية والدنيوية إذ يرشدهم ذلك إلى القبول منه وتلقي ما يأمرهم وينهاهم عنه أحسن التلقي)).
منقول من كتاب((الكنز الأكبر))للشيخ عبد الرحمن أبي بكر الحنبلي
من ص509 إلى ص512.
أخوكم: الحديدي
تعليق