عرضا لا غرضا .. المدنية والحضارة
فضيلة الشيخ محمد عمر بازمول-حفظه الله-
فضيلة الشيخ محمد عمر بازمول-حفظه الله-
يلحظ الناظر في السنة النبوية بل وفي الشريعة الإسلامية أنها تعلّم المؤمن الزهد في الدنيا والتقلل منها، وأن لا يجعلها أكبر همّه.
قال تعالى: (وَابْتَغِ فِيمَا آتَاكَ اللَّهُ الدَّارَ الْآخِرَةَ وَلا تَنْسَ نَصِيبَكَ مِنَ الدُّنْيَا وَأَحْسِنْ كَمَا أَحْسَنَ اللَّهُ إِلَيْكَ وَلا تَبْغِ الْفَسَادَ فِي الْأَرْضِ إِنَّ اللَّهَ لا يُحِبُّ الْمُفْسِدِينَ) (القصص:77).
ومعنى الآية : اطلب فيما أعطاك الله من الأموال والنعمة والجنة وهو أن تقوم بشكر الله فيما أنعم عليك وتنفقه في رضا الله تعالى.
(وَلا تَنْسَ نَصِيبَكَ مِنَ الدُّنْيَا) لا تترك أن تعمل في الدنيا للآخرة حتى تنجو من العذاب، لأن حقيقة نصيب الإنسان من الدنيا أن يعمل للآخرة، فيعمل ما أمره الله به من العبادات والقربات، كالصدقة وصلة الرحم.
وقال علي: لا تنس صحتك وقوتك وشبابك وغناك أن تطلب بها الآخرة([1]).
عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا قَالَ : "أَخَذَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِمَنْكِبِي فَقَالَ: كُنْ فِي الدُّنْيَا كَأَنَّكَ غَرِيبٌ أَوْ عَابِرُ سَبِيلٍ.
وَكَانَ ابْنُ عُمَرَ يَقُولُ: إِذَا أَمْسَيْتَ فَلَا تَنْتَظِرْ الصَّبَاحَ وَإِذَا أَصْبَحْتَ فَلَا تَنْتَظِرْ الْمَسَاءَ وَخُذْ مِنْ صِحَّتِكَ لِمَرَضِكَ وَمِنْ حَيَاتِكَ لِمَوْتِكَ"([2]).
وعَنْ جَابِرِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ: "أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَرَّ بِالسُّوقِ دَاخِلًا مِنْ بَعْضِ الْعَالِيَةِ وَالنَّاسُ كَنَفَتَهُ فَمَرَّ بِجَدْيٍ أَسَكَّ مَيِّتٍ فَتَنَاوَلَهُ فَأَخَذَ بِأُذُنِهِ ثُمَّ قَالَ: أَيُّكُمْ يُحِبُّ أَنَّ هَذَا لَهُ بِدِرْهَمٍ؟
فَقَالُوا : مَا نُحِبُّ أَنَّهُ لَنَا بِشَيْءٍ وَمَا نَصْنَعُ بِهِ!
قَالَ : أَتُحِبُّونَ أَنَّهُ لَكُمْ؟
قَالُوا : وَاللَّهِ لَوْ كَانَ حَيًّا كَانَ عَيْبًا فِيهِ لِأَنَّهُ أَسَكُّ فَكَيْفَ وَهُوَ مَيِّتٌ!
فَقَالَ : فَوَاللَّهِ لَلدُّنْيَا أَهْوَنُ عَلَى اللَّهِ مِنْ هَذَا عَلَيْكُمْ"([3]).
عَنْ عَبْدِ اللَّهِ قَالَ: "نَامَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَلَى حَصِيرٍ فَقَامَ وَقَدْ أَثَّرَ فِي جَنْبِهِ فَقُلْنَا: يَا رَسُولَ اللَّهِ لَوْ اتَّخَذْنَا لَكَ وِطَاءً! فَقَالَ: مَا لِي وَمَا لِلدُّنْيَا مَا أَنَا فِي الدُّنْيَا إِلَّا كَرَاكِبٍ اسْتَظَلَّ تَحْتَ شَجَرَةٍ ثُمَّ رَاحَ وَتَرَكَهَا"([4]).
بل إن الرسول صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لم يلتفت إلى ما عند فارس والروم، وكانتا في ذلك الوقت قمة المدنية الحضارية، بل وزهد فيما عندهما.
عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا قَالَ: عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ [في قصة خبر طلاقه صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لأزواجه]: "... فَخَرَجْتُ فَجِئْتُ الْمِنْبَرَ فَإِذَا حَوْلَهُ رَهْطٌ يَبْكِي بَعْضُهُمْ فَجَلَسْتُ مَعَهُمْ قَلِيلًا ثُمَّ غَلَبَنِي مَا أَجِدُ فَجِئْتُ الْمَشْرُبَةَ الَّتِي هُوَ فِيهَا فَقُلْتُ لِغُلَامٍ لَهُ أَسْوَدَ: اسْتَأْذِنْ لِعُمَرَ فَدَخَلَ فَكَلَّمَ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ثُمَّ خَرَجَ فَقَالَ: ذَكَرْتُكَ لَهُ فَصَمَتَ فَانْصَرَفْتُ حَتَّى جَلَسْتُ مَعَ الرَّهْطِ الَّذِينَ عِنْدَ الْمِنْبَرِ ثُمَّ غَلَبَنِي مَا أَجِدُ فَجِئْتُ فَذَكَرَ مِثْلَهُ فَجَلَسْتُ مَعَ الرَّهْطِ الَّذِينَ عِنْدَ الْمِنْبَرِ ثُمَّ غَلَبَنِي مَا أَجِدُ فَجِئْتُ الْغُلَامَ فَقُلْتُ: اسْتَأْذِنْ لِعُمَرَ فَذَكَرَ مِثْلَهُ فَلَمَّا وَلَّيْتُ مُنْصَرِفًا فَإِذَا الْغُلَامُ يَدْعُونِي قَالَ: أَذِنَ لَكَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَدَخَلْتُ عَلَيْهِ فَإِذَا هُوَ مُضْطَجِعٌ عَلَى رِمَالِ حَصِيرٍ لَيْسَ بَيْنَهُ وَبَيْنَهُ فِرَاشٌ قَدْ أَثَّرَ الرِّمَالُ بِجَنْبِهِ مُتَّكِئٌ عَلَى وِسَادَةٍ مِنْ أَدَمٍ حَشْوُهَا لِيفٌ فَسَلَّمْتُ عَلَيْهِ ثُمَّ قُلْتُ وَأَنَا قَائِمٌ: طَلَّقْتَ نِسَاءَكَ؟ فَرَفَعَ بَصَرَهُ إِلَيَّ فَقَالَ: لَا ثُمَّ قُلْتُ: وَأَنَا قَائِمٌ أَسْتَأْنِسُ يَا رَسُولَ اللَّهِ لَوْ رَأَيْتَنِي وَكُنَّا مَعْشَرَ قُرَيْشٍ نَغْلِبُ النِّسَاءَ فَلَمَّا قَدِمْنَا عَلَى قَوْمٍ تَغْلِبُهُمْ نِسَاؤُهُمْ فَذَكَرَهُ فَتَبَسَّمَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ثُمَّ قُلْتُ: لَوْ رَأَيْتَنِي وَدَخَلْتُ عَلَى حَفْصَةَ فَقُلْتُ: لَا يَغُرَّنَّكِ أَنْ كَانَتْ جَارَتُكِ هِيَ أَوْضَأَ مِنْكِ وَأَحَبَّ إِلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يُرِيدُ عَائِشَةَ فَتَبَسَّمَ أُخْرَى.
فَجَلَسْتُ حِينَ رَأَيْتُهُ تَبَسَّمَ.
ثُمَّ رَفَعْتُ بَصَرِي فِي بَيْتِهِ فَوَاللَّهِ مَا رَأَيْتُ فِيهِ شَيْئًا يَرُدُّ الْبَصَرَ غَيْرَ أَهَبَةٍ ثَلَاثَةٍ فَقُلْتُ: ادْعُ اللَّهَ فَلْيُوَسِّعْ عَلَى أُمَّتِكَ فَإِنَّ فَارِسَ وَالرُّومَ وُسِّعَ عَلَيْهِمْ وَأُعْطُوا الدُّنْيَا وَهُمْ لَا يَعْبُدُونَ اللَّهَ.
وَكَانَ مُتَّكِئًا فَقَالَ: أَوَفِي شَكٍّ أَنْتَ يَا ابْنَ الْخَطَّابِ أُولَئِكَ قَوْمٌ عُجِّلَتْ لَهُمْ طَيِّبَاتُهُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا.
فَقُلْتُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ اسْتَغْفِرْ لِي"([5]).
فالمؤمن في الدنيا يعيش للآخرة، و لا يلتفت إلى ما خص به الغير من أمور الدنيا الفانية. (وَمَا هَذِهِ الْحَيَاةُ الدُّنْيَا إِلَّا لَهْوٌ وَلَعِبٌ وَإِنَّ الدَّارَ الْآخِرَةَ لَهِيَ الْحَيَوَانُ لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ) (العنكبوت:64).
ولم تأت أي إشارة في القرآن العظيم إلى الترغيب في الحضارة المدنية التي كان عليها الروم والفرس، بل على العكس جاءت النصوص تذم الكفر والكافرين، بدون استثناء.
عَنْ عِيَاضِ بْنِ حِمَارٍ الْمُجَاشِعِيِّ : "أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ ذَاتَ يَوْمٍ فِي خُطْبَتِهِ:
أَلَا إِنَّ رَبِّي أَمَرَنِي أَنْ أُعَلِّمَكُمْ مَا جَهِلْتُمْ مِمَّا عَلَّمَنِي يَوْمِي هَذَا :
كُلُّ مَالٍ نَحَلْتُهُ عَبْدًا حَلَالٌ .
وَإِنِّي خَلَقْتُ عِبَادِي حُنَفَاءَ كُلَّهُمْ وَإِنَّهُمْ أَتَتْهُمْ الشَّيَاطِينُ فَاجْتَالَتْهُمْ عَنْ دِينِهِمْ وَحَرَّمَتْ عَلَيْهِمْ مَا أَحْلَلْتُ لَهُمْ وَأَمَرَتْهُمْ أَنْ يُشْرِكُوا بِي مَا لَمْ أُنْزِلْ بِهِ سُلْطَانًا.
وَإِنَّ اللَّهَ نَظَرَ إِلَى أَهْلِ الْأَرْضِ فَمَقَتَهُمْ عَرَبَهُمْ وَعَجَمَهُمْ إِلَّا بَقَايَا مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ وَقَالَ: إِنَّمَا بَعَثْتُكَ لِأَبْتَلِيَكَ وَأَبْتَلِيَ بِكَ وَأَنْزَلْتُ عَلَيْكَ كِتَابًا لَا يَغْسِلُهُ الْمَاءُ تَقْرَؤُهُ نَائِمًا وَيَقْظَانَ .
وَإِنَّ اللَّهَ أَمَرَنِي أَنْ أُحَرِّقَ قُرَيْشًا فَقُلْتُ: رَبِّ إِذًا يَثْلَغُوا رَأْسِي فَيَدَعُوهُ خُبْزَةً قَالَ: اسْتَخْرِجْهُمْ كَمَا اسْتَخْرَجُوكَ وَاغْزُهُمْ نُغْزِكَ وَأَنْفِقْ فَسَنُنْفِقَ عَلَيْكَ وَابْعَثْ جَيْشًا نَبْعَثْ خَمْسَةً مِثْلَهُ وَقَاتِلْ بِمَنْ أَطَاعَكَ مَنْ عَصَاكَ.
قَالَ : وَأَهْلُ الْجَنَّةِ ثَلَاثَةٌ :
ذُو سُلْطَانٍ مُقْسِطٌ مُتَصَدِّقٌ مُوَفَّقٌ .
وَرَجُلٌ رَحِيمٌ رَقِيقُ الْقَلْبِ لِكُلِّ ذِي قُرْبَى .
وَمُسْلِمٍ وَعَفِيفٌ مُتَعَفِّفٌ ذُو عِيَالٍ.
قَالَ : وَأَهْلُ النَّارِ خَمْسَةٌ:
الضَّعِيفُ الَّذِي لَا زَبْرَ لَهُ الَّذِينَ هُمْ فِيكُمْ تَبَعًا لَا يَبْتَغُونَ أَهْلًا وَلَا مَالًا.
وَالْخَائِنُ الَّذِي لَا يَخْفَى لَهُ طَمَعٌ وَإِنْ دَقَّ إِلَّا خَانَهُ .
وَرَجُلٌ لَا يُصْبِحُ وَلَا يُمْسِي إِلَّا وَهُوَ يُخَادِعُكَ عَنْ أَهْلِكَ وَمَالِكَ.
وَذَكَرَ الْبُخْلَ أَوْ الْكَذِبَ وَالشِّنْظِيرُ الْفَحَّاشُ.
وَإِنَّ اللَّهَ أَوْحَى إِلَيَّ أَنْ تَوَاضَعُوا حَتَّى لَا يَفْخَرَ أَحَدٌ عَلَى أَحَدٍ وَلَا يَبْغِ أَحَدٌ عَلَى أَحَدٍ"([6]).
ففي هذا أن الحضارة والمدنية وكل علو في شأن الدنيا، ليس محلا لأن يلتفت إليه، أو يشار إليه، بل محل للمقت والذم، وعدم الرضا.
وفيه أن الدين والقيام بطاعة الله واتباع أمره هو المعول عليه، وهو المقصود.
فالغرض الذي يسعى إليه المسلم هو الآخرة، والقيام بشرع الله في الدنيا، و يعلم أن ما تركه من الدنيا سيعوضه الله إياه في الآخرة!
وقد جاء في شرع الله بيان الطريق للعزة والقوة والتمكين في الدنيا وهو نفس الطريق المطلوب من المسلم سلوكه.
قال تبارك وتعالى: (وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَيَسْتَخْلِفَنَّهُمْ فِي الْأَرْضِ كَمَا اسْتَخْلَفَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ وَلَيُمَكِّنَنَّ لَهُمْ دِينَهُمُ الَّذِي ارْتَضَى لَهُمْ وَلَيُبَدِّلَنَّهُمْ مِنْ بَعْدِ خَوْفِهِمْ أَمْناً يَعْبُدُونَنِي لا يُشْرِكُونَ بِي شَيْئاً وَمَنْ كَفَرَ بَعْدَ ذَلِكَ فَأُولَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ) (النور:55).
فالوعد بالتمكين والاستخلاف لمن قبلهم في الأرض، وتبديل الخوف أمناً، هو لمن عبد الله ولم يشرك به شيئا، ومعنى ذلك أنه قام بطاعة الله تبارك وتعالى، وسار على شرعه الذي بلغه نبيه.
جاء عن ابن عُمَرَ قَالَ: سَمِعْتُ رَسُولَ الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ: "إِذَا تبَايَعْتُمْ بِالْعِينَةِ, وأخَذْتُمْ أذْنابَ الْبَقَرِ, وَرَضِيتُمْ بِالزَّرْع, وترَكْتُمْ الْجِهَادَ؛ سَلَّطَ الله عَلَيْكُمْ ذُلاًّ لا يَنْزِعُهُ حَتَّى ترْجِعُوا إِلَى دِينِكُمْ"([7]).
فهذا هو سبب ما أصاب أمة الإسلام من الذل والهوان.
و لا سبيل لها إلى العز والتمكين إلا برجوعها إلى الدين.
فنحن [قوم أعزنا الله بالإسلام مهما ابتغينا العزة بدونه أذلنا الله].
فإذا رجعنا إلى الدين حققنا المقصود من خلقنا، الذي أراده الله منا،( وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْأِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ) (الذريات:56) .
وعندها إذا جاءت الحضارة والمدنية المادية فإنها تأتي عرضاً لا غرضاً.
ولا طريق للناس إلَى الرجوع إلَى الدِّين إلا بالعلماء, فإذا أضاعوا حَقَّ العلماء, وما عَادُوا يَعرفُونَهُم, وزهدوا فيهم, واتَّخَذُوا رءوسًا ُجهَّالاً؛ كيف يرجعون إلَى الدين؟!
والدِّين هو ما جاء فِي حديث جبريل لَمَّا ذكر الإسلام, والإيْمَان, والإحسان, وأشراط الساعة، ثُمَّ قال فِي آخره: "ثُمَّ انْطَلَقَ -يعنِي: السائل الذي جاء يسأل على تلك الْهَيئة العجيبة- فَلَبِثْتُ مَلِيًّا, ثُمَّ قَالَ لِي: يَا عُمَرُ, أتدْرِي مَن السَّائِلُ؟ قُلْتُ: الله وَرَسُولُهُ أعْلَمُ. قَالَ: فإنه جِبْرِيلُ, أَتاكُمْ يُعَلِّمُكُمْ دِينَكُمْ"([8]).
فإذا أسقط العلماء, واتَّخَذَ الناس رءوسًا جُهَّالاً؛ مَنْ يعود بالناس إلَى دينهم؟!
كيف يَخرجون من حال الذُّلِّ والْهَوَان بدون العلماء؟
وهذه قصة من قصص الرعيل الأول في مواجهتهم مع أصحاب المدنية والحضارة في عصرهم، وذلك في قصة معركة القادسية، التي أذل الله تعالى فيها الفرس سنة ست عشرة، لمّا واجه المسلمون بقيادة سعد بن أبي وقاص، جيش الفرس بقيادة رستم.
قال سيف عن شيوخه: ولما تواجه الجيشان بعث رستم إلى سعد أن يبعث إليه برجل عاقل عالم بما أسأله عنه.
فبعث إليه المغيرة بن شعبة رضي الله عنه.
فلما قدم عليه جعل رستم يقول له: إنكم جيراننا وكنا نحسن إليكم ونكف الأذى عنكم، فارجعوا إلى بلادكم ولا نمنع تجارتكم من الدخول إلى بلادنا.
فقال له المغيرة: إنا ليس طلبنا الدنيا، وإنما همنا وطلبنا الآخرة، وقد بعث الله إلينا رسولا قال له: إني قد سلطت هذه الطائفة على من لم يدن بديني فأنا منتقم بهم منهم، وأجعل لهم الغلبة ما داموا مقرين به، وهو دين الحق، لا يرغب عنه أحد إلا ذل، ولا يعتصم به إلا عز.
فقال له رستم: فما هو ؟
فقال : أما عموده الذي لا يصلح شيء منه إلا به فشهادة أن لا إله إلا الله وأن محمدا رسول الله، والإقرار بما جاء من عند الله.
فقال : ما أحسن هذا ؟ ! وأي شئ أيضا ؟
قال : وإخراج العباد من عبادة العباد إلى عبادة الله.
قال: وحسن أيضا، وأي شئ أيضا ؟
قال: والناس بنو آدم [وحواء]، فهم أخوة لأب وأم.
قال : وحسن أيضا.
ثم قال رستم: أرأيت إن دخلنا في دينكم أترجعون عن بلادنا؟
قال: إي والله ثم لا نقرب بلادكم إلا في تجارة أو حاجة.
قال: وحسن أيضا.
قال: ولما خرج المغيرة من عنده ذاكر رستم رؤساء قومه في الإسلام فأنفوا ذلك وأبوا أن يدخلوا فيه قبحهم الله وأخزاهم وقد فعل.
قالوا: ثم بعث إليه سعد رسولا آخر بطلبه وهو ربعي بن عامر، فدخل عليه وقد زينوا مجلسه بالنمارق المذهبة والزرابي الحرير، وأظهر اليواقيت واللآلئ الثمينة، والزينة العظيمة، وعليه تاجه وغير ذلك من الأمتعة الثمينة، وقد جلس على سرير من ذهب.
ودخل ربعي بثياب صفيقة وسيف وترس وفرس قصيرة، ولم يزل راكبها حتى داس بها على طرف البساط، ثم نزل وربطها ببعض تلك الوسائد، وأقبل وعليه سلاحه ودرعه وبيضته على رأسه.
فقالوا له: ضع سلاحك.
فقال: إني لم آتكم، وإنما جئتكم حين دعوتموني فإن تركتموني هكذا وإلا رجعت.
فقال رستم: إئذنوا له، فأقبل يتوكأ على رمحه فوق النمارق فخرق عامتها، فقالوا له: ما جاء بكم ؟
فقال : الله ابتعثنا لنخرج من شاء من عبادة العباد إلى عبادة الله، ومن ضيق الدنيا إلى سعتها، ومن جور الأديان إلى عدل الإسلام، فأرسلنا بدينه إلى خلقه لندعوهم إليه، فمن قبل ذلك قبلنا منه ورجعنا عنه، ومن أبى قاتلناه أبدا حتى نفضي إلى موعود الله.
قالوا: وما موعود الله ؟
قال: الجنة لمن مات على قتال من أبى، والظفر لمن بقي.
فقال رستم: قد سمعت مقالتكم فهل لكم أن تؤخروا هذا الأمر حتى ننظر فيه وتنظروا ؟
قال : نعم ! كم أحب إليكم؟ يوما أو يومين؟ قال: لا، بل حتى نكاتب أهل رأينا ورؤساء قومنا.
فقال: ما سن لنا رسول الله صلى الله عليه وسلم أن نؤخر الأعداء عند اللقاء أكثر من ثلاث، فانظر في أمرك وأمرهم واختر واحدة من ثلاث بعد الأجل.
فقال: أسيدهم أنت ؟
قال : لا، ولكن المسلمون كالجسد الواحد يجير أدناهم على أعلاهم.
فاجتمع رستم برؤوساء قومه فقال: هل رأيتم قط أعز وأرجح من كلام هذا الرجل ؟
فقالوا : معاذ الله أن تميل إلى شيء من هذا وتدع دينك إلى هذا الكلب، أما ترى إلى ثيابه؟
فقال: ويلكم لا تنظروا إلى الثياب، وانظروا إلى الرأي والكلام والسيرة. إن العرب يستخفون بالثياب والمأكل، ويصونون الأحساب.
ثم بعثوا يطلبون في اليوم الثاني رجلا فبعث إليهم حذيفة بن محصن فتكلم نحو ما قال ربعي."([9]).
فإذا جاءت الحضارة والمدنية بدون أن تتعارض مع ديننا وطاعة ربنا فالحمد لله.
وإذا جاءت بنبذ الدين والخروج عن طاعة ربنا فهذا سبيل الضلالة، وطلاب الدنيا لا طلاب الآخرة.
فإلى الذين يطلبون الحقيقة.
إلى الذين بهرتهم المدنية الغربية فظنوا أن فيها سبيل التقدم والسعادة والفلاح.
إلى من أغرتهم المدنية والحضارة أسوق هذه المقالة، وأقول: "إنا ليس طلبنا الدنيا، وإنما همنا وطلبنا الآخرة.
وقد بعث الله إلينا رسولا قال له: إني قد سلطت هذه الطائفة على من لم يدن بديني فأنا منتقم بهم منهم، وأجعل لهم الغلبة ما داموا مقرين به.
وهو دين الحق، لا يرغب عنه أحد إلا ذل، ولا يعتصم به إلا عز"([10]).
______________________
([1]) تفسير البغوي / دار طيبة (6/221).
([2]) أخرجه البخاري في كتاب الرقاق، باب قول النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : "كن في الدنيا..."، حديث رقم (6416).
([3]) أخرجه مسلم في كتاب الزهد والرقائق، باب، حديث رقم (2957).
([4]) أخرجه الترمذي في كتاب الزهد، باب ما جاء في أخذ المال بحقه، حديث رقم (2377)، وابن ماجه في كتاب الزهد، باب مثل الدنيا، حديث رقم (4109). قال الترمذي: "هَذَا حَدِيثٌ حَسَنٌ صَحِيحٌ"اهـ
([5]) أخرجه البخاري في كتاب المظالم والغصب، باب الغرفة والعلية المشرفة، حديث رقم (246، ومسلم في كتاب الطلاق، باب في الإيلاء واعتزال النساء، حديث رقم (1479).
([6]) أخرجه مسلم في كتاب الجنة وصفة نعيمها، باب الصفات التي يعرف بها في الدنيا أهل الجنة، حديث رقم (2865).
([7]) أخرجه أحْمَد فِي الْمُسند - الرسالة (8/440)، تَحت رقم (4825)، (9/51)، تَحت رقم (5007)، (9/395)، تَحت رقم (5562)، وأبو داود فِي كتاب البيع, باب: فِي النهي عن العينة، حديث رقم (3462)، وأبو يعلى فِي الْمُسند (10/29)، تَحت رقم (5659)، والبيهقي فِي السنن الكبرى (5/316). والْحَديث ضعفه مُحَققو الْمُسند. وأشار إلَى حُسنه مُحَقق مسند أبي يعلى، وصَحَّحَه الألباني بِمَجموع طرقه, فقد أورده فِي السلسلة الصحيحة حديث رقم (11). وللحديث شاهد عن ابن مسعود مرفوعًا: "لا تتخذوا الضيعة؛ فترغبوا فِي الدنيا". أخرجه أحْمَد (الرسالة 6/54)، تَحت رقم (3579)، والترمذي, والْحَاكم، وأورده الألباني فِي السلسلة الصحيحة تَحت رقم (13). فالحديث حسن لغيره.
([8]) أخرجه مسلم فِي كتاب الإيْمَان, باب: بيان الإسلام, والإيْمَان, والإحسان، حديث رقم (, عن عمر بن الْخَطَّاب رضي الله عنه.
([9]) البداية والنهاية / الشاملة (7/46- 47).
([10]) وقرأت كلمة أعجبتني للكاتب إبراهيم السكران، في كتابه "مآلات الخطاب الديني" نسخة من الشبكة الضوئية، في الفصل الذي عقده بعنوان موقف النبوات من الحضارات، ورأيت نقلها على طولها، إذ يقول وفقه الله: "الحقيقة أن من تأمل وتدبر صادقاً متجرداً تعامل الأنبياء مع المنجزات الحضارية ومخزون العلوم والفنون المدنية في عصورهم انكشف له منهج التعامل الذي يرضاه الله سبحانه وتعالى لنا في موقفنا تجاه الحضارة المعاصرة, وهذا الموضع تسكب عنده العبرات, وهو كافٍ بذاته للدلالة على المقصود, ويغني عن كل تفاصيل هذه المقالة برمتها. فالنبي صلى الله عليه وسلم بعث إلى الناس وفي عصره أربع إمبراطوريات اقتسمت العالم: الرومانية والفارسية والهندية والصينية, فالأولى امتدت لأوروبا والثانية حاضرة في الشرق الأدنى, والأخريان شبه معزولتين, وكانت معاهد العلوم فيها شامخة, فضلاً عن مخزون حضاري متراكم من الحضارة الإغريقية والمصرية. بل إن العلوم المدنية قبيل مبعثه صلى الله عليه وسلم بلغت شأواً عالياً في دقائق المعقولات كقوانين العقل الجوهرية كقانون الهوية والتناقض والثالث المرفوع, ونظرية الدولة وتقسيم أشكال اسناد السلطة, ودقائق الهندسة وحساب الدوال الرياضية, وفنون العمارة والمسرح والشعر والأدب, وأصول الطب, والمسافات الفلكية, وغيرها كثير وإنما هذه نماذج تكشف مستويات البحث المدني. ومع ذلك كله فإن الله سبحانه وتعالى لما بعث نبيه في جزيرة العرب لم يبعثه ليقول للناس: يا معشر العرب أنتم تعانون من التخلف المدني ويجب عليكم أن تتجاوزوا جفوة عروبتكم وتتعلموا من الأمم المتقدمة, ولم يقل لهم: يجب عليكم أولاً أن تقفوا موقف التلميذ أمام علوم المنطق والطب والفلك والفلسفة ونحوها ثم تدعوا الناس, ولم يقل لهم: اعرفوا قدر أنفسكم أمام الحضارات الأخرى, ولم يقل لهم: يجب أن تشاركوا الأسرة الدولية في سعادة الجنس الإنساني عبر الإبداع الابستمولوجي! بل إن الله أخبر نبيه بعكس ذلك تماماً, فقد أخبر نبيه عن القيمة المنحطة في ميزان الله لكل تلك المدنيات التي عاصرت بعثة النبي صلى الله عليه وسلم, ووصفها القرآن بالضلال بكل ماتضمنته قوتهم وعلومهم وفنونهم ومدنيتهم, بل وأخبرنا تعالى أنه يبغضهم ويمقتهم ويكرههم سبحانه وتعالى, سواء كانوا أدباء العرب, أم فلاسفة أثينا, أم أطباء الصين, أم حكماء الهند, أم غيرهم. كما روى الإمام مسلم في صحيحه من حديث عياض المجاشعي أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال ذات يوم في خطبته:، « إن الله نظر إلى أهل الأرض فمقتهم, عربهم وعجمهم, إلا بقايا من أهل الكتاب, وقال: إنما بعثتك لأبتليك وأبتلى بك »، فمع كل مايوجد على هذه الأرض من العلوم المدنية والفلاسفة والأدباء فإنهم لا وزن لهم في ميزان الله سبحانه وتعالى سواء في ذلك عربهم وعجمهم, ولم يستثن إلا طائفة قليلة من الناس بسبب ما كان لديهم من بقايا النبوات وبعض من أثارة الوحي, فبقايا النبوات وما تضمنته من العلوم والمعارف الإلهية هي نوافذ التنوير الحقيقي في الأرض, وليس التنوير هو الإغراق الفلسفي والمدني, وشاهدُ هذه الخطبة النبوية في كتاب الله قوله تعالى: {كِتَابٌ أَنزلْنَاهُ إِلَيْكَ لِتُخْرِجَ النَّاسَ مِنَ الظُّلُمَاتِ إلى النُّورِ بِإِذْنِ رَبِّهِمْ} [إبراهيم:1]، فحَكم الله تعالى على كل البشرية قبيل مبعثه صلى الله عليه وسلم بأنها في "ظلمات" وأن التنوير الذي تحتاجه هو "نور الوحي" كما يقول تعالى في موضع آخر: {هُوَ الَّذِي يُنزلُ عَلَى عَبْدِهِ آيَاتٍ بَيِّنَاتٍ لِيُخْرِجَكُمْ مِنَ الظُّلُمَاتِ إلى النُّورِ} [الحديد:9]، وأكد تعالى في موضع آخر أن التوير الحقيقي هو نور الوحي كما قال تعالى: { يَهْدِي بِهِ اللَّهُ مَنِ اتَّبَعَ رِضْوَانَهُ سُبُلَ السَّلامِ وَيُخْرِجُهُمْ مِنَ الظُّلُمَاتِ إلى النُّورِ بِإِذْنِهِ} [المائدة:16] ، وسيبقى من أعرض عن هذا الوحي مرتكساً في ظلماته مهما أوتي من العلوم المدنية, كما قال تعالى: {وَالَّذِينَ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا صُمٌّ وَبُكْمٌ فِي الظُّلُمَاتِ} [الأنعام:39]، والى هذا التنوير المستمد من الوحي أشار الامام ابن تيمية في قوله: (وعند المسلمين من "العلوم الإلهية" الموروثة عن خاتم المرسلين ماملأ العالم نورا وهدى) الفتاوى (2/84)، فتأمل في خطبة النبي صلى الله عليه وسلم السابقة كيف نفخ في أصحابه الشموخ بـ"العلوم الإلهية" فوق المدنيات الصغيرة بالنسبة لجلال المعرفة الإلهية, ونبه أصحابه إلى التنوير الحقيقي وهو نور الوحي, وربى أصحابه على أن تلك المجتمعات المتمدنة يحتاجونكم أضعاف ما تحتاجونهم, فهم إنما يملكون الوسائل وأنتم تعرفون الغايات, وشتان بين منزلة الوسيلة والغاية. بل إن من طالع موسوعة "المفصل في تاريخ العرب قبل الإسلام" للمؤرخ العراقي الشهير جواد علي(1987م) والتي صنفها في زهاء عشرة مجلدات, ورأى ما كان في الجزيرة العربية من ألوان الآداب والفنون والحكمة العقلية ثم قارنها بتقييم القرآن لهذه "الحالة العربية" قبل البعثة فسيعلم يقيناً منزلة مظاهر الدنيا وعلومها وفنونها ومدنيتها في ميزان الله, فمع كل ما كشفته تلك الموسوعة التاريخية المذهلة من إبداع عقلي وأدبي عند العرب فإن الله سبحانه وتعالى يصف الواقع العربي بالضلال المبين كما يقول تعالى: {هُوَ الَّذِي بَعَثَ فِي الأمِّيِّينَ رَسُولا مِنْهُمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِهِ وَيُزَكِّيهِمْ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَإِنْ كَانُوا مِنْ قَبْلُ لَفِي ضَلالٍ مُبِينٍ} [الجمعة:2] ، يصفهم بذلك برغم أن فيهم الأدباء والشعراء والخطباء والفروسية وأخلاقيات المروءة وكرم الضيافة, بل كان فيهم حكماء تناقل الناس حكمتهم إلى يومنا هذا كقس بن ساعدة وأكثم بن صيفي وغيرهم. بل إن ما يراه العرب قامة الإبداع الفني وصاحب أهم الروائع الأدبية يصفه صلى الله عليه وسلم بقوله: « امرؤ القيس صاحب لواء الشعراء إلى النار » خرجه أحمد من حديث أبي هريرة. وهذا الانتقاص والاستعلاء الشرعي على المنجزات الحضارية والفنية قبيل مبعثه صلى الله عليه وسلم ليس ذماً لتلك المنجزات لذاتها, وإنما لأن أصحابها لم يتزكوا ويتنوروا بالوحي والعلوم الإلهية, فلم يصلوا إلى الرقي والسمو الحقيقي وهو مرتبة العبودية, وإنما بقوا في حضيض المنافسة الدنيوية. فيالله العجب.. ما أتفه علوم الدنيا وقوتها في ميزان الله سبحانه وتعالى بالنسبة لمضامين الوحي. والحقيقة أن هذا الموقف النبوي من أدق ما يبين أن الانتفاع بما لدى الغير لا يقتضي الانبهار بهم, وأن الذم لواقعهم لا يتعارض مع الاستفادة من الحكمة التي هي ضالة المؤمن, وسنحاول إيضاح ذلك في فقرة لاحقة. والمقصود هاهنا أن من تأمل هذا الموضع ونظائره انكشف له منهج التعامل الذي يحبه الله ويريده من المسلم إزاء الحضارات الأخرى, وهذا المنهج بكل اختصار هو: أن ينتفع بما لديها مما يعزز غايته كما انتفع النبي وأصحابه, لكن لا يقع في تعظيمها والانبهار بها مع ضلالها عن الإسلام بل يعي تخلفها وانحطاطها وظلاميتها كما وعى ذلك النبي وأصحابه, وحاجتها للتنوير الحقيقي الذي لا يكون إلا بانشراح الصدر بهذا الإسلام كما قال تعالى: {أَفَمَنْ شَرَحَ اللَّهُ صَدْرَهُ للإسلام فَهُوَ عَلَى نُورٍ مِنْ رَبِّهِ} [الزمر:22] ، بل إنه لاتخلو أمة من الأمم التي بعث الله إليها رسله من الإبداع الدنيوي في أحد فنون المدنية, ومع ذلك كله فقد بعث الله الأنبياء ليخرجوهم من الظلمات إلى النور, والقارئ للحظات النبوات في القرآن يشاهد دوماً كيف أن القرآن يصور الأمم بأنهم في الضلال والظلمات والانحطاط برغم قوتهم وإمكانياتهم ومظاهر المادية التي بيدهم, ويؤكد أنبياؤهم لهم حاجتهم إلى أنوار الوحي. ومن دقق النظر في لحظات ومشاهد بعث الرسل والأنبياء إلى الأمم فإنه سيتضح له لازم خطير يلزم الرؤية التي أخذ بها غلاة الخطاب المدني, فإذا كانت "المدنية المادية" هي الأولوية الراقية فإن هذا يلزم عليه أن الله سبحانه وتعالى أرسل الرسل والأنبياء بالقضايا الهامشية والثانوية ولم يرسلهم بالشؤون العظيمة! فأي إزراء بالرسل أكثر من ذلك؟! والواقع أنه إذا كان أحكم الحاكمين إنما اصطفى هؤلاء الرسل والأنبياء وفضلهم على العالمين وجعلهم نماذج السمو والشرف فوق الإنسانية جمعاء فإن هذا يقتضي أنه أرسلهم بأهم المطالب, وأن أهم المطالب إنما تستخلص من مشروعاتهم التغييرية. وهذا اللازم الخطير يتفاوت غلاة المدنية في موقفهم تجاهه, فبعضهم لايتفطن له أصلاً, وهذا كثير في من يطلق أقوالاً لايتفطن للوازمها, وقد أشار المحققون إلى كثير من ذلك, كما قال الإمام ابن تيمية: (الشعور مراتب, وقد يشعر الإنسان بالشيء ولا يشعر بغالب لوازمه, ثم قد يشعر ببعض اللوازم دون بعض) درء التعارض (10/121) ، وبعضهم قد يتفطن لهذا اللازم لكنه يتأوله ويحاول أن يجد له المخارج, كما قال الإمام ابن تيمية: (يجوز أن يلزم قوله لوازم لا يتفطن للزومها, ولو تفطن لكان إما أن يلتزمها, أو لا يلتزمها بل يرجع عن الملزوم, أو لا يرجع عنه ويعتقد أنها غير لوازم) الفتاوى 35/288، فبعضهم إذا تفطن لهذا اللازم يتأوله فيقول إن الأنبياء "حالة خاصة" لايجوز القياس عليها, أو أن الأنبياء مسددون من الله بخلافنا نحن, أو أن الأنبياء لهم ظروفهم التاريخية ونحو هذه التسويغات, فهذا يسد باب الاقتداء من أصله, ويلغي وظيفة النبوة أصلاً, بل مؤداه أنه لامعنى لقراءة سيرة النبي صلى الله عليه وسلم ولاثمرة من تتبع أحواله, مع أن الله تعالى يقول عن الأنبياء: {أُولَئِكَ الَّذِينَ هَدَى اللَّهُ فَبِهُدَاهُمُ اقْتَدِهِ} [الأنعام:90] وبعض غلاة المدنية يتفطن لهذا اللازم ويلتزمه –نسأل الله العافية- فيشير في ثنايا عباراته إلى أن البشرية لم تأت بشئ قبل هذه الحضارة المعاصرة, وأن الناس كانوا في ظلام وتخلف وانحطاط وهمجية وأساطير قبل هذا النموذج الإنساني الفريد, وأن المصلحين قبل هذه المعجزة الحضارية المعاصرة لم ينجحوا في صناعة الحياة الراقية المستنيرة كما نشاهد اليوم. ومن تأمل أمثال هذه المقالات والأفكار تأكد له أن "الغلو المدني ينبوع الانحراف الثقافي", وأن المغالاة في قضية الحضارة المادية هي المسؤول الأول عن هذا الخلل الكارثي"اهـ.