خذ العبر ممن تعلم وساد بعد الكبر
هذه الكلمة الطيبة المباركة الجامعة الفاذة فيها نقد ونقض لمقولة دارجة على الألسن:( إن التعلم في الكبر كالنقش على الماء )، أي هو ذاهب لا جدوى منه ولا فيه لأنه سريع الزوال وقليل البقاء والنوال.
ولربما كانت هذه الكلمة عائقا وصادا عن طلب العلم والانقطاع له بعد فوات طلبه في أول العمر وهو الوقت الذي له نصيب كبير من فحوى الكلمة الثانية من إن:( التعلم في الصغر كالنقش على الحجر ).فاعلموا رحمكم الله تعالى إن التعلم في الكبر ليس كالنقش على الماء فهو ليس على إطلاقه فقد يرسخ في العلم ويفوق أقرانه من تعلم بعد كبره وذهاب أطيب عمره وأكثره مع كثرة مشاغله وهمومه في الدنيا، فعندما قال الصادق المصدوق -صلى الله عليه وسلم-( إنما العلم بالتعلم)، بين لنا إن العلم ينال ويحصل بغض النظر عن عمر طالبه!! نعم بالتعلم والهمة العالية والرغبة في نيل المعالي بالعلم يسهل هذا الأمر ويذلل الصعب وتزال العوائق وتكسر السدود والحدود وطالبه يسود، وكذلك وجهنا الحبيب وجلب انتباهنا وحفز اذهننا وحرك هممنا إلى إن العلم والتعلم صفتان محمودتان مرغوب فيهما من كل الناس وهما متلازمتان إذا أردت العلم ما عليك إلا إن تجد وتجتهد في التعلم والطلب ولا يعيقك عائق من كبر سن أو قلة حفظ وفهم أو شيء غير ذلك فان هذا شيء تتغلب عليه بكثرة التكرار مع الاستمرار فيوما قيل للأصمعي كيف حفظت ونسي أصحابك؟؟ قال درست وتركوا، وكان أبو إسحاق الشيرازي يعيد الدرس مائة مرة، وكان الكيا ألهراسي يعيد سبعين مرة، والحسن بن أبي بكر النيسابوري الفقيه لا يحصل الحفظ له حتى يعاد خمسين مرة، وحكي إن فقيها أعاد الدرس في بيته مرارا كثيرة فقالت له عجوز في بيته قد والله حفظته أنا فقال أعيديه فأعادته فلما كان بعد أيام قال للعجوز أعيديه قالت لا احفظه قال أني اكرر عند الحفظ لئلا يصيبني ما أصابك.-رحم الله الجميع-
قال أبو الدرداء-رضي الله عنه-( الناس عالم ومتعلم ولا خير فيما بين ذلك )، فاحرص أخي المسلم إن تكون عالما أو متعلما في كل سني عمرك مع المحبرة حتى المقبرة.
وها أنا ذا اذكر لك أخي طالب العلم كبيرا كنت أم صغيرا قدواة في هذا الميدان لعله يكون بها تحفيزا لهمتك في التعلم وطلب المعالي فخذ غير مأمور العبر ممن تعلم وساد وجاد وأفاد بعد الكبر.
ومن هؤلاء القدواة أئمة كبار وشيوخ إجلاء سلم الناس أليهم أزمة القيادة والريادة وحكموهم في مهمات العبادة والعادة، بما رزقوا من علم وفضل مدوا إليه أيديهم بعد الكبر والضرب في العمر، حتى إن بعضهم كان في بداية أمره بعيدا عن العلم وطلبه.
قال بن حجر-رحمه الله- في تهذيب التهذيب ج4 \366:عن الإمام التابعي الثقة صالح بن كيسان-رحمه الله-اثبت أصحاب الزهري فيه بعد الإمام مالك-رحمهم الله-قال بن حجر:( ابتدئ بالتعلم وهو ابن سبعين سنة )، ويقرب من هذا ما كان من أمر الإمام الفقيه محمد بن عبد الرحمن بن أبي ذئب-رحمه الله-قال الذهبي في السير ج7\148 (انه ما طلب الحديث حتى كبر).
وهذا الإمام القاريء النحوي المشهور علي بن حمزة ألكسائي-رحمه الله-قال عنه القفطي في أنباه الرواة ج2\271:(إنما تعلم ألكسائي النحو بعد الكبر فلم يمنعه ذلك من إن برع فيه ولقي الإعراب وكثر سماعه منهم وقرا القران وبرع فيه حتى قوي عليه وعرف إعرابه واختار حرفا قرأ به)، وكان سبب توجهه إلى الطلب ما ذكر الفراء كما في تاريخ بغداد ج11\404 (انه جلس يوما إلى قوم وقد تعب من المشي فقال:عييت، فقالوا له:تجالسنا وأنت تلحن!!إذا أردت التعب فقل:أعييت، وإذا أردت انقطاع الحيلة فقل:عييت:فانف من هذه الكلمة ولزم الشيوخ حتى ملاء علمه وذكره الدنيا وشغل الناس).
وقال القاضي عياض في ترتيب المدارك ج3\248 في ترجمة إمام المالكية عبد الرحمن بن القاسم ألعتقي-رحمه الله-اثبت من اخذ عن الإمام مالك-رحمه الله-وأوثق الناس فيه والمقدم في رواته حتى قيل في معنى ((المشهور))عند المالكية:انه رواية ابن القاسم في المدونة قال القاضي:( قال ابن وضاح سمع ابن القاسم من المصريين والشاميين، وإنما طلب وهو كبير).
وممن تعلم بعد كبره شيخ أهل اللغة والعربية بالقيروان وراوي القوم ومقدمهم ورئيسهم الإمام عبد الملك ابن قطن ألمهري القيرواني-رحمه الله-ترجمة له القفطي في أنباه الرواة ج2\209 وأطال في ذكر فضله ورسوخ قدمه ثم أورد انه تعلم بعد كبره وسبب ذلك:انه دخل على أخيه إبراهيم وكان عالما بالعربية فمد يده إلى كتاب لينظر فيه ولم يكن عنده علم فنهره أخوه ووبخه بالجهل فذهب وطلب العلم حتى اشتهر على أخيه وعلى أهل زمانه وخمل ذكر أخيه إبراهيم حتى جهله الناس لشهرة عبد الملك!!!!!.
ذكر صاحب كتاب شذرات الذهب ج3\207 عن الإمام عبد الله بن احمد بن عبد الله القفال المروزي-رحمه الله- انه كان قفالا صنع قفلا وزنه اربع حبات من حديد وكان مصابا بإحدى عينيهوابتدأ التعلم وهو ابن ثلاثين سنة)-وهو يعرف بالقفال الصغير العالم الزاهد وهو أكثر ذكرا في كتب الفقه من القفال الكبير والكبير أكثر ذكرا في كتب الأصول والتفسير فإذا أطلقت كلمة القفال أريد الصغير وإذا أريد الكبير قيدت بالشاشي.
وذكر القفطي في أنباه الرواة ج2\70 عن المفسر الأديب الشافعي سليم بن أيوب الرازي-رحمه الله-(انه تفقه بعد الأربعين من عمره..وكان يحاسب نفسه على الأوقات ولا يترك وقتا يمضي من غير فائدة).
وهذا العز بن عبد السلام-رحمه الله-ذكر انه لم يهتم بالعلم إلا على كبر فاقبل عليه ورسخ فيه حتى لقبه تلميذه ابن دقيق العيد:سلطان العلماء!!!!وقد اشتهر بهذا اللقب.
فأخي طالب العلم هؤلاء العلماء كما ترى اخذوا في طلب العلم بعد كبر سنهم ولم يمنعهم ذلك التأخر الزمني من التقدم المعنوي فاخذ العبر من خبر من طلب العلم فساد بعد الكبر.
أخوكم:أبو عبد الله الحديدي
تعليق