أيها الشباباربعوا بأنفسكم
فهذه الآيات وغيرها تحذر من ( التقول على الله بلا علم ) .فكما ترى كيف إن الله تعالى ذم القول عليه بلا حجة، والفتوى فيشرعه بلا دليل ولا برهان، وما ذاك إلا لأنه كذب على الله تعالى يؤدي إلى إضلال العباد وإفساد دينهم ودنياهم، وقد قال عز وجل: {وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ تَرَى الَّذِينَ كَذَبُواْ عَلَى اللَّهِ وُجُوهُهُم مُّسْوَدَّةٌ أَلَيْسَ فِي جَهَنَّمَ مَثْوًى لِّلْمُتَكَبِّرِينَ }الزمر60.
وكذلك الكذب على النبي-صلى الله عليه وسلم- فانه كذب على الله تعالى لأنه هو المبلغ لشرعه ووصيه وامينه على وحيه وقد جاءف الصحيحين عنه-صلى الله عليه وسلم-( إن كذبا علي ليس ككذب على غيري ومن كذب علي متعمدا فليتبواء مقعده من النار ).
قال العلامة ابن القيم-رحمه الله-ف مدارج السالكين ج1 ص372 ( وإما القول على الله بلا علم فهو اشد هذه المحرمات تحريما وأعظمها إثما ).
ثم قال مبينا مفاسد القول على الله بلا علم:( فانه يتضمن الكذب على الله ونسبته إلى ما لا يليق وتغيير دينه وتبديله ونفي ما أثبته واثبات ما نفاه وتحقيق ما أبطله وأبطال ما حققه وعداوة من والاه ومولاة من عاداه وحب ما ابغضه وبغض ما أحبه ووصفه بما لايليق به فيذاته وصفاته وأقواله فليس ف أجناس المحرمات أعظم عند الله منه ولا اشد إثما وهو اصل الشرك والكفر وعليه أسست البدع والضلالات فكل بدعة مضلة في الدين أساسها القول على الله بلا علم ).
اخرج ابن أبي حاتم ف التفسير ج7 ص12678 عن أبي نضرة قال:( قرأت هذه الآية{وَلاَ تَقُولُواْ لِمَا تَصِفُ أَلْسِنَتُكُمُ الْكَذِبَ هَـذَا حَلاَلٌ وَهَـذَا حَرَامٌ لِّتَفْتَرُواْ عَلَى اللّهِ الْكَذِبَ إِنَّ الَّذِينَ يَفْتَرُونَ عَلَى اللّهِ الْكَذِبَ لاَ يُفْلِحُونَ }النحل116 فلم أزل أخاف الفتيا إلى يومي هذا ).وقال ابن العربي ف إحكام القران ج3 ص166 ( قال وهب:قال لي مالك:لم يكن فتيا المسلمين إن يقولوا هذا حرام وهذا حلال ولكن يقولون:أنا نكره هذا)-هذا من ورعهم-، وعلى هذا جرى عمل أئمة المسلمين وعلماؤهم من السلف الصالحين-رحم الله الجميع-من التحرز من الفتوى عموما-وهم علماء فقهاء فما بال شباب اليوم أغمار جهال مجهولين يفتون للأمة بأهوائهم-إما إذا كان احدهم لايعلم عما يسال فما أسهل إن يقول لا ادري فهذا ابن عمر-رضي الله عنهما-جاءه أعرابي يسأله:أترث العمة؟؟فقال:لا ادري قال:لا تدري؟؟؟قال:نعم اذهب وأسال العلماء، فلما أدبر الرجل قال:خالد ابن اسلم اخو زيد-رحمهم الله-وكان حاضرا:نعما ما قال أبو عبد الرحمن سال عما لا يدري فقال:لا ادري.
وهذا القاسم بن محمد بن أبي بكر-رحمه الله ورضي عن إبائه-سئل عن شيء فقال:لا أحسنه فقال السائل:أني أليك لا اعرف غيرك فقال القاسم:لا تنظر إلى طول لحيتي وكثرة الناس حولي والله ما أحسنه فقال شيخ من قريش جالس إلى جنبه:يا ابن أخي الزمها فوالله ما رايتك فيمجلس أنبل منك اليوم فقال القاسم والله لان يقطع لساني أحب إلي من إن أتكلم بما لا علم لي.
وهذا الإمام الشعبي-رحمه الله-سئل عن شيء فقال لا ادري فقيل:إلا تستحي من قولك لا ادري وأنت فقيه أهل العراق؟؟فقال: لكن الملائكة لم تستح حيث قالت:( لا علم لنا إلا ما علمتنا ).
وهذا الإمام مالك-رحمه الله- سئل عن مسالة فقال:لا ادري فقيل له:أنها مسالة خفيفة سهلة فغضب وقال:ليس فيالعلم خفيف إما سمعت قوله تعالى: {إِنَّا سَنُلْقِي عَلَيْكَ قَوْلاً ثَقِيلاً }المزمل5.فالعلم كله ثقيل وخاصة ما يسال عنه يوم القيامة.
لهذا كان شعارهم ف حالة عدم العلم [ لا ادري ] خشية الوقوع ف الخطر العظيم والإثم الكبير فيهلكوا لهذا قال محمد بن عجلان-رحمه الله-:(إذا اغفل العالم لا ادري أصيبت مقاتله).قال العلماء: نصف العلم لا ادري، من قال لا ادري فقد أفتى.
إما عندما يسالون عما يعلمون قال مالك-رحمه الله-( إذا كان أصحاب رسول الله-صلى الله عليه وسلم-تصعب عليهم المسائل ولا يجيب احدهم في مسالة حتى يأخذ رأي صاحبه مع ما رزقوا من السداد والتوفيق مع الطهارة فكيف بنا الذين غطت الخطايا والذنوب قلوبنا).فانظر إلى ورعهم وتقواهم لربهم وكيف يتثبتون قبل الكلام ولا يجيب احدهم حتى يأخذ رأي أصحابه.
فهذا الإمام الزهري-رحمه الله- روى إن أبا بكر-رضي الله عنه-حدث رجلا بحديث فاستفهمه الرجل فقال الصديق:( هو كما حدثتك أي سماء تضلني وأي ارض تقلني إن أنا قلت بما لا اعلم). وروي عن أبي موسى الأشعري-رضي الله عنه-انه قال:( من علمه الله علما فليعلمه الناس وإياه إن يقول ما لا علم له به فيصير من المتكلفين ويمرق من الدين ).
لهذا كانوا يقدرون عظم المسؤولية ف الفتوى ويحتاطون كثير بل يتهربون منها خشية الخطأ الذي يجعلهم فيدائرة المؤاخذة.فهذا ابن أبي ليلى-رحمه الله-يقول:أدركت عشرين ومئة من الأنصار من أصحاب رسول الله-صلى الله عليه وسلم-يسال احدهم عن المسالة فيردها هذا إلى هذا وهذا إلى هذا حتى ترجع إلى الأول.وف رواية:ما منهم من احد يحدث بحديث إلا ود إن أخاه كفاه إياه ولا يستفتي عن شيء إلا ود إن أخاه كفاه الفتيا).
وقال الصحابيان الجليلان ابن مسعود وابن عباس-رضوان الله على الجميع-( من أفتى الناس في كل ما يسألونه عنه فهو مجنون ).
وقال سفيان بن عيينة-رحمه الله- اعلم الناس بالفتيا أسكتهم عنها، واجهلهم بها أنطقهم فيها، وقال أدركت العلماء والفقهاء يترادون المسائل يكرهون إن يجيبوا فيها فإذا اعفوا منها كان أحب أليهم.
وقال عطاء بن السائب التابعي-رحمه الله-:( أدركت أقواما يسال احدهم عن الشيء فيتكلم وهو يرعد)، وكان الإمام مالك-رحمه الله-يقول( من أجاب ف مسالة فينبغي-قبل إن يجيب-إن يعرض نفسه على الجنة والنار وكيف خلاصه ف الآخرة وكيف يجيب فيها).وقال ابن المنكدر-رحمه الله-( العالم بين الله وخلقه فلينظر كيف يدخل بينهم).قالوا:( كثرة الفتوى من قلة التقوى ).
كل هذا التحري من هؤلاء الجهابذة ورهبتهم من الإقدام على الفتوى!!! لأنها من القول على الله تعالى والتوقيع عنه.قال الإمام النووي-رحمه الله-:( اعلم إن الإفتاء عظيم الخطر كبير الموقع كثير الفضل لان المفتي وارث الأنبياء-صلوات الله وسلامه عليهم-وقائم بفرض الكفاية لكنه معرض للخطأ ولهذا قالوا:المفتي موقع عن الله تعالى ).
ومن أعاجيب هذا الزمان أحوال وأقوال الذين تزببوا قبل إن يتحصرموا وتصدروا قبل إن يتأهلوا، قال الإمام الشافعي-رحمه الله-( إذا تصدر الحدث فاته خير كثير ) هؤلاء الصغار الاصاغر ضنوا أنفسهم بعد قراة شيء من كتب العلم أنهم صاروا علماء يحق لهم إن يفتوا الناس في الدماء والفروج وف الحلال والحرام ف الموجود والمفقود لا يسلم منهم شيء فضلوا وأضلوا بجهلهم وجنونهم.
قال أبو حصين الاسدي-رحمه الله-:(إن احدهم ليفتي فيالمسالة لو وردت على عمر بن الخطاب-رضي الله عنه-لجمع لها أهل بدر ). ويوما بكى ربيعة-رحمه الله-بكاءا شديدا فقيل له:أمصيبة نزلت بك؟؟؟فقال:( لا ولكن استفتي من لا علم عنده وظهر ف الإسلام أمر عظيم ).
بعد هذا يجب إن لا يتساهلفي أمر الفتوى خصوصا الذي لا تتوفر فيه هذه الشروط التي ذكرها ابن السمعاني-رحمه الله-وهي إن:( المفتي من استكمل ثلاثة شروط:الاجتهاد والعدالة والكف عن الترخيص والتساهل ).
وليحذر كذلك مما حذر منه الإمام سحنون-رحمه الله- حين قال:( أشقى الناس من باع أخرته بدنياه وأشقى منه من باع أخرته بدنيا غيره ). وهذا حال المجانين المتسرعين يأتيهم الحانث في يمينه والمطلق لزوجته والسارق لمال العامة والمرابي والذي لا يتحرج من إهدار دم المعصوم وغيرهم الكثير فيفتونهم بغير علم أو تثبت أو ورع بأهوائهم فيوبقوا دنياهم وأخرتهم ليبقوا دنيا غيرهم.
سال يوما الإمام سحنون مسالة فتردد إليه فيها ثلاثة أيام فقال وما اصنع لك يا خليلي ومسألتك هذه معضلة وفيها أقاويل وأنا متردد ف ذلك؟؟؟ فقال له: وأنت أصلحك الله لكل معضلة!!!فقال له سحنون: ( هيهات يا ابن أخي ليس بقولك هذا ابذل لك لحمي ودمي إلى النار ).وقيل له أيضا: انك تسال عن مسالة لو سئل عنها بعض أصحابك أجاب فتتوقف فيها؟؟ فقال:( فتنة الجواب بالصواب اشد من فتنة المال ).
إذا التسرع ف الفتوى من قلة التقوى وهي سبيل للخطأ والوقوع فيالزلل وبتسرعه يكون من المجانين بل من أشقى الناس وتصاب مقاتله ويكون على شفا المروق من الدين، لذلك قال الخليل بن احمد-رحمه الله-:( إن الرجل ليسال عن المسالة ويعجل ف الجواب فيصيب فأذمه ويسال عن مسالة فيتثبت ف الجواب فيخطيء فاحمده ).
وقال الخطيب البغدادي-رحمه الله- وقارن قوله بأحوال رويبضة هذا الزمان وفتاويهم النارية التي تحرق كل شيء تمر عليه علمنا إن هؤلاء ليسوا من أهل العلم بل حالهم مجهول قال ابن، بدران-رحمه الله-( ويمنع عندنا وعند الأكثر من الإفتاء من لم يعرف بعلم أو كان حاله مجهول ويلزم ولي الأمر منعه )وقال ربيعة-رحمه الله-( بعض من يفتي أحق بالسجن من السراق )(وهذا الضرب إنما يستفتون بالشكل لا بالفضل وبالمناصب لا بالأهلية قد نحرهم عكوف من لا علم عنده عليهم،ومسارعة اجهل منهم أليهم تعج منهم الحقوق إلى الله عجيجا وتضج منهم الأحكام إلى من انزلها ضجيجا فمن أقدم بالجرأة على ما ليس له بأهل استحق اسم الذم ولم يحل قبول فتياه ولا قضائه هذا حكم دين الإسلام )ابن القيم في الأعلام ج5 ص188 .وقارن قوله أيضا بأحوال وأقوال طلبة العلم الثابتين المتثبتين ترى انه كأنما يخاطب الفريقين قال قل من حرص على الفتوى وسابق إليها وثابر عليها إلا قل توفيقه واضطرب في أمر، وإذاا كان كارها لذلك غير مختار له ماوجد مندوحة عنه وقدر إن يحيل بالأمر فيه على غيره كانت المعونة له من الله أكثر والصلاح في جوابه وفتياه اغلب).
كتب سلمان إلى أخيه أبي الدرداء-رضي الله عنهما-موصيا ومحذرا ومذكرا وناصحا له قائلا:( بلغني انك قعدت طبيبا –أي مفتيا وهو من هو-فاحذر إن تقتل مسلما )فكم قتلوا هؤلاء المجانين من المسلمين الأبرياء بفتاوهم الدموية وتقولهم على الله بلا علمية.
فحينما أفتى بعض الصحابة-رضي الله عنهم-رجلا أصابه حجر فشج رأسه بان لا يترخص بالتيمم فاغتسل فمات فلما قدموا إلى النبي-صلى الله عليه وسلم-اخبروه بذلك فقال ( قتلوه قتلهم الله الاسالوا إذ لم يعلموا إنما شفاء العي السؤال )، فقد وضح لنا الخطابي-رحمه الله-دلالة هذا الحديث بقوله:( ف هذا الحديث من العلم:انه عابهم بالفتوى بغير علم والحق بهم الوعيد بان دعا عليهم وجعلهمفي الإثم قتلة له )معالم السنن ج1 ص89.
علما إن الذي أفتاه صحابة وليس من الاصاغر الصغار.
فدرءا للفتنة -ونحن ف هذا الزمن الصعب قلة علم وورع وحلم مع تكالب أعداء وكبير كيدهم ومكرهم بالأمة-الأولى إن يتولى الحكماء الربانيين المناصب الهامة لإدارة أمور المسلمين، ليخرجوا بها إلى شاطيء الأمن والأمان والهدى والخير ويقودوها إلى ميادين العز والتمكين ف الأرض اخذين العبرة من قصة يوسف حين قال: {قَالَ اجْعَلْنِي عَلَى خَزَآئِنِ الأَرْضِ إِنِّي حَفِيظٌ عَلِيمٌ }.فأنقذ امة كافرة من محنة الجوع والهلاك.
مستنيرين بهدي قوله تعالى: {وَإِذَا جَاءهُمْ أَمْرٌ مِّنَ الأَمْنِ أَوِ الْخَوْفِ أَذَاعُواْ بِهِ وَلَوْ رَدُّوهُ إِلَى الرَّسُولِ وَإِلَى أُوْلِي الأَمْرِ مِنْهُمْ لَعَلِمَهُ الَّذِينَ يَسْتَنبِطُونَهُ مِنْهُمْ وَلَوْلاَ فَضْلُ اللّهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ لاَتَّبَعْتُمُ الشَّيْطَانَ إِلاَّ قَلِيلاً }النساء83.
فقد بين المولى سبيل النجاة من المهالك بإرجاع أمور المسلمين فيالأمن والخوف إلى أهل العلم والفقه فالبركة فيهم والخير فيهم وهم القادة كما قال ابن مسعود-رضي الله عنه-( الفقهاء قادة ).وقال النبي-صلى الله عليه وسلم-( البركة مع أكابرهم )علما وسنا، والشر مع وعند ومن الاصاغر قال عمر-رضي الله عنه-( فساد الدين إذا جاء العلم من قبل الصغير استعصى عليه الكبير وصلاح الناس إذا جاء العلم من قبل الكبير تابعه عليه الصغير).
أخوكم: أبو عبد الله الحديدي
تعليق