ما بين الدعوة إلى العصيان المدني إلى التفجير في كنيسة الأسكندرية
بسم الله والحمد الله، والصلاة والسلام على رسول الله وعلى آله ومن اتَّبع هداه،
أما بعد، فمنذ أن كثُرت الدندنة في الآونة الأخيرة في بلدنا مصر –حماها الله سبحانه من كيد الأعداء- إلى ما يُسمَّى بـ: "العصيان المدني" و"الإضراب العام"؛ ازددت يقينًا أن أعداء الله من الكفَّار والمنافقين وأهل الأهواء لن يهدأ لهم بالاً إلا إذا حوَّلوا مصر إلى برك من الدماء، أو على أقل تقدير زرعوا الفتن في وسط أهلها؛ ليشغلوهم بأنفسهم، أو كي يفتتوهم إلى دويلات متناحرة يأكل بعضها بعضًا؛ ردَّ الله كيدهم جميعًا في نحورهم.
{وَالَّذِينَ يَمْكُرُونَ السَّيِّئَاتِ لَهُمْ عَذَابٌ شَدِيدٌ وَمَكْرُ أُولَئِكَ هُوَ يَبُورُ}.
وقد جاء في الموسوعة العربية في بيان معنى "العصيان المدني" و"الإضراب العام" ما يلي:
"الإضراب strike: لُغةً هو الكف والإعراض والانصراف عن عمل أو أمر أو رأي. وفي أصله: الضرب بمعنى الشدة، تستعمل لصرف المضروب عن وجهته أو إجباره على العدول عنها، ولا يبعد معناه الاصطلاحي كثيراً عن هذا الأصل.
وفي المصطلح القانوني والسياسي هو توقف العاملين أو أرباب العمل، أو توقفهم مجتمعين عن أعمالهم، وكذلك امتناع الأفراد عن الطعام في حالات مخصوصة، احتجاجًا على إجراءات أو قوانين تمس مصالحهم الخاصة أو قيمهم أو تبخس حقوقهم المدنية أو السياسية أو الاقتصادية، أو تمس المصلحة العامة أو المصلحة الوطنية والقومية العليا، وهو إلى ذلك، وسيلة من وسائل الضغط في سبيل الحصول على مطالب محددة، مادية أو معنوية أو قانونية. ويدخل فيه التباطؤ في العمل والتلكؤ فيه والمبالغة في مراعاة الشكليات بغية إرباكه أو عرقلته. ويسمى في هذه الحال إضراباً مقنَّعًا.
والأصل في الإضراب ألاّ يتعدى حدود التوقف عن العمل والامتناع عن مواصلته قبل التوصل إلى تسوية بالتفاوض أو بالتحكيم، إلا أنه قد يتجاوز هذا الحد فيرافقه التظاهر وأعمال العنف، أو يكون حلقة في سلسلة أعمال مختلفة ينظمها تصور استراتيجي لتغيير النظام الاجتماعي أو نظام الحكم، كالإضراب العام الذي قام به عمال بتروغراد في 25 شباط من عام 1917، وكان بداية سلسلة من الأعمال التي وجهها الحزب البلشفي بقيادة لينين، وانتهت بسقوط النظام القيصري. وفي مثل هذه الحال يتحول الإضراب إلى نوع من العصيان المدني تتسع دائرته حتى تشمل معظم فئات المجتمع، ويكون لمثل هذا الإضراب أهداف عامة يغلب أن تكون أهدافاً سياسية... وقد يتخذ الإضراب صيغة الانقطاع عن العمل والاعتصام في الأماكن العامة أو الجلوس في الشوارع والساحات العامة لعرقلة حركة المرور...".
وينقسم الإضراب من حيث شمول الإضرابات إلى الأنماط الآتية:
ـ الإضراب العام: وهو توقف جميع العاملين عن أعمالهم توقفاً جماعيًّا في سائر مجالات العمل، ويشمل هذا النوع فئات اجتماعية واسعة، ويهدف إلى الحصول على مكاسب سياسية أو اقتصادية عامة.
ـ الإضراب الخاص: وهو بعكس الإضراب العام، يقوم به سكان منطقة أو عمال شركة أو مؤسسة أو العاملون في صناعة معينة أو قطاع إنتاجي أو خدمي بعينه، ويمكن أن يتحول إلى إضراب عام.
ـ الإضراب المتناوب أو الشطرنجي: هو توقف العاملين عن أعمالهم في قطاع معين أو على مستوى البلاد بأسرها ولكن بالتناوب وفق خطة مدروسة، إذ يضرب العاملون في شركة أو مؤسسة أو في جزء منها، في حين يستمر بقية العاملين في مزاولة أعمالهم، ثم يعود هؤلاء إلى عملهم ويضرب آخرون وهكذا. ويكون هذا النوع من الإضرابات فاعلاً ومربكاً للجهات المعنية وللسلطات السياسية، ولاسيما حين تُعتمد السرية في تنفيذه، فلا تتمكن السلطات المعنية من تحديد الجهة التي يمكن أن تقوم بالإضراب.
وهناك إضراب يصاحبه اعتصام في مكان العمل، يسمى إضراب الأيدي المتصالبة. وهناك الإضراب الرسمي الذي تقرره النقابة المعنية، والإضراب غير الرسمي الذي يقوم بمبادرة من العاملين أنفسهم من دون أن تقرر نقابتهم ذلك".اهـ
قلت: فالإضراب والعصيان المدني ما هما إلا صورة من صور الخروج المحدثة التي ابتدعها الكفَّار الثوريون.
إن الأمن والأمان نعمة عظيمة لا تقدر بأموال الدنيا جميعًا لمن يعقل، لذلك أنا أسأل الدعاة إلى هذا الإضراب العام والعصيان المدني أسئلة أرجو أن يجيبوا عنها بصراحة إن كانوا عقلاء ليسوا سفهاء، ألا وهي:
1. ماذا يصنع المريض الذي على شفا الهلاك إذا امتنع الأطباء عن ممارسة مهنتهم؟!
2. ماذا يصنع الأطفال إذا لم يجدوا ما يسد جوعهم إذا نفذت الأزواد بعد أن تغلق المخابز ويمتنع الباعة عن بيع الطعام، أو يشتد الغلاء مما لا يمكِّن الآلاف من إمكانية الحصول عليه؟!
3. كم من الأموال سوف تهدر عبثًا في كبح جماع هذه الفوضى؟!
4. كم من الأرواح قد تزهق إذا ساد الهرج والمرج ربوع البلاد؟!
5. كم من الأعراض سوف تنتهك، وكم من الأموال سوف تغتصب في ظل غياب النظام وإضعاف شوكة السلطان؟!
إن دعاة الإضراب والعصيان فقدوا عقولهم، وأطاعوا شياطينهم، وعصوا ربَّهم الذي لا يحب هذه الفساد، وصدق سبحانه حيث قال في محكم كتابه: {وَمِنَ النَّاسِ مَن يُعْجِبُكَ قَوْلُهُ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَيُشْهِدُ اللهَ عَلَى مَا فِي قَلْبِهِ وَهُوَ أَلَدُّ الْخِصَامِ .وَإِذَا تَوَلَّى سَعَى فِي الأَرْضِ لِيُفْسِدَ فِيِهَا وَيُهْلِكَ الْحَرْثَ وَالنَّسْلَ وَاللهُ لاَ يُحِبُّ الْفَسَادَ .وَإِذَا قِيلَ لَهُ اتَّقِ اللهَ أَخَذَتْهُ الْعِزَّةُ بِالإِثْمِ فَحَسْبُهُ جَهَنَّمُ وَلَبِئْسَ الْمِهَادُ}.
وأذكِّر إخواني في "مصرنا العزيزة" أنهم سيعضون الأنامل من الغيظ ويتقطعون من الحسرة إذا هم استجابوا لهذه الدعوات الثورية التي تؤزهم على الخروج أزًّا، بعد أن تضيع نعمة الأمن والأمان التي يعيشون فيها، ولهم العبرة فيمن حولهم، فيما حلَّ ببلادهم من الفتن التي يتخطف فيها الناس من حولهم، بسبب الانسياق الأعمى وراء الشعارات الكاذبة المناقضة لشريعتنا المطهرة.
ولنا العظة والعبرة في قول إلهنا سبحانه في امتنانه على أهل الحرم: {وَقَالُوا إِن نَّتَّبِعِ الْهُدَى مَعَكَ نُتَخَطَّفْ مِنْ أَرْضِنَا أَوَ لَمْ نُمَكِّن لَّهُمْ حَرَمًا آمِنًا يُجْبَى إِلَيْهِ ثَمَرَاتُ كُلِّ شَيْءٍ رِّزْقًا مِّن لَّدُنَّا وَلَكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لاَ يَعْلَمُونَ}.
وقال الله سبحانه: {سَلْ بَنِي إِسْرَائِيلَ كَمْ آتَيْنَاهُم مِّنْ آيَةٍ بَيِّنَةٍ وَمَن يُبَدِّلْ نِعْمَةَ اللهِ مِن بَعْدِ مَا جَاءَتْهُ فَإِنَّ اللهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ}.
فالحذر الحذر!! بعد أن جاءتنا البينات الشرعية والقدرية أن نبدل نعمة الله؛ فيحل بنا عقابه سبحانه الذي لا مرد له.
ومن العقوبات القدرية والآيات الكونية حادث كنيسة الأسكندرية، والذي حدث في التوقيت نفسه الذي تعالت فيه أصوات السفهاء المطالبين بهذا الإضراب العام، لعلَّهم أن يعودوا إلى رشدهم ويرحموا أنفسهم قبل أن يرحموا غيرهم.
فإن كان مقتل عشرين وإصابة عشرات في هذا الحيز الضيق أمام الكنيسة سبَّب هذا الذعر وفقدان الأمن عند فئام من الناس، فكيف إذا خرجت هذه الملايين من الهمج الرِّعاع أتباع كل ناعق تنهب وتخرب وتدمر الأخضر واليابس بحجة المطالبة بالحقوق المهضومة، وهم مضيعو الحقوق إن كانوا يعلمون !
واقرأ ما سطره العلامة المحدِّث أحمد شاكر المصري رحمه الله في حادثة حريق القاهرة المشهور حيث قال: "إن حوادث القاهرة في يوم السبت 26 يناير سنة 1952 لا تكاد تنسى؛ فهي أشد ما رأينا من الفظائع والإجرام بما كان فيها من عدوان وبغي وسرقة وتدمير، دون أن يردع المجرمين رادع ...إلخ". [جمهرة مقالات العلامة أحمد شاكر (1/47].
وسواء كان فاعل هذه الجريمة النكراء منسوبًا إلى المسلمين –أي من الخوارج- أو من الكفَّار المعادين، فإن القصد واحد، وهو زعزعة الأمن وإشعال الفتنة.
وإن كنت لا أستبعد أن يكون القائم بهذه الجريمة خارجيًّا مدفوعًا من قبَل اليهود أو الروافض الشيعة المجرمين، ولا ننسى محاولات حسن نصر الرافضي في النَّيْل من أمن هذه البلاد عدة مرات.
وحسن نصر طالب من قبل العسكريين المصريين والشعب بأكمله إعلان العصيان العام، وأن يخرجوا –بزعمه- بصدورهم ليفتحوا معابر غزة.
فلما فشل في خطته البائسة، لا يبعد أن يكون استخدم هذه الطريقة الخسيسة؛ لتحقيق بعض مآربه الخبيثة، لا مكَّنه الله.
لكن المشكلة لا تكمن في هذا المجرم بقدر ما هي تكمن فيمَن نصره وأيَّده على هذه السفاهة من رجال الأزهر وبعض الشخصيات المشار إليها بالبنان، مِمَّن يحسبون على العلم والفتوى؛ فصدرت الفتاوى الموقعة من قبل كذا وكذا من أدعياء العلم، بتكفير الرئيس المصري؛ لرفضه فتح المعابر.
وقد تناسى دعاة فتح المعابر وتهييج الشعب، أنهم بهذه السفاهة يمهدون السبيل ويفتحون الثغرة لليهود المجرمين وأعوانهم من الروافض المتسترين بالإسلام لنهب هذه البلاد، وتحويلها إلى عراق أخرى –أو قل: أفغانستان أخرى-، وتكون المحصِّلة في نهاية الأمر بعد أن يسود الهرج ويساق هذا الشعب سياق النعاج إلى حتفه: أن تهدم المساجد وتحرق المصاحف وكتب السنة، وتنتهك الحرمات، وهذه هي الغاية العظمى للباطنية المتسترين بالإسلام في هذه الدولة الإيرانية الفاجرة، وما بغداد منا بعيد؛ حيث لم يرقب فيلق المهدي الرافضي الإيراني إلاًّ ولا ذمَّة في المصاحف وكتب السنن ودماء المسلمين، فداسوها بأقدامهم النجسة، وكان جنود حزب حسن نصر هم المدد الأعظم لهذا الفيلق.
وأنبه إخواننا أيضًا إلى أن شريعتنا الغرَّاء تحتوى على نصوص محكمة في تحريم انتهاك دماء وأعراض أهل الذمة والمستأمنين من النصارى واليهود الذين يعيشون في بلاد المسلمين بعهد وذمة وأمان، ومن هذه النصوص:
قول الله سبحانه: {لاَ يَنْهَاكُمُ اللهُ عَنِ الَّذِينَ لَمْ يُقَاتِلُوكُمْ فِي الدِّينِ وَلَمْ يُخْرِجُوكُم مِّن دِيَارِكُمْ أَن تَبَرُّوهُمْ وَتُقْسِطُوا إِلَيْهِمْ إِنَّ اللهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ}.
وأخرج البخاري في صحيحه كتاب (الجزية) باب: (إِثْمِ مَنْ قَتَلَ مُعَاهَدًا بِغَيْرِ جُرْمٍ) عن عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرٍو - رضى الله عنهما - عَنِ النَّبِىِّ - صلى الله عليه وسلم - قَالَ «مَنْ قَتَلَ مُعَاهَدًا لَمْ يَرَحْ رَائِحَةَ الْجَنَّةِ، وَإِنَّ رِيحَهَا تُوجَدُ مِنْ مَسِيرَةِ أَرْبَعِينَ عَامًا».
لكن في الوقت نفسه الذي أمرنا فيه الله سبحانه بالبر والقسط مع أهل الذمة من الكفَّار –الذين لا يقاتلوننا-، وحرَّم علينا استباحة دمائهم، أمرنا أيضًا سبحانه بعدم موالاتهم في دينهم، وحرَّم علينا مودتهم، فقال سبحانه: { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لاَ تَتَّخِذُوا الْيَهُودَ وَالنَّصَارَى أَوْلِيَاءَ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ وَمَن يَتَوَلَّهُم مِّنْكُمْ فَإِنَّهُ مِنْهُمْ إِنَّ اللهَ لاَ يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ}، وقال سبحانه: {لاَ تَجِدُ قَوْمًا يُؤْمِنُونَ بِاللهِ وَالْيَوْمِ الآَخِرِ يُوَادُّونَ مَنْ حَادَّ اللهَ وَرَسُولَهُ وَلَوْ كَانُوا آبَاءَهُمْ أَوْ أَبْنَاءَهُمْ أَوْ إِخْوَانَهُمْ أَوْ عَشِيرَتَهُمْ أُولَئِكَ كَتَبَ فِي قُلُوبِهِمُ الإِيمَانَ وَأَيَّدَهُمْ بِرُوحٍ مِّنْهُ وَيُدْخِلُهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الأنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا رَضِيَ اللهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ أُولَئِكَ حِزْبُ اللهِ أَلاَ إِنَّ حِزْبَ اللهِ هُمُ الْمُفْلِحُونَ}.
أذكر هذا؛ لأنه بعد الحادث تغلَّبت العاطفة على فئات مختلفة من المسلمين المصريين فخرجوا في هذا المظاهرات الفاشلة مع النصارى يرفعون المصحف مع الصليب، أو الهلال مع الصليب، منادين بالوحدة الوطنية، وهذا مِمَّا لا يجوز بحال أن يوضع كتاب الله العزيز بجانب الصليب –رمز الشرك والوثنية عند النصارى-.
ألم يقل ربنا سبحانه في محكم كتابه: {لَقَدْ كَفَرَ الَّذِينَ قَالُوا إِنَّ اللهَ هُوَ الْمَسِيحُ ابْنُ مَرْيَمَ قُلْ فَمَن يَمْلِكُ مِنَ اللهِ شَيْئًا إِنْ أَرَادَ أَن يُهْلِكَ الْمَسِيحَ ابْنَ مَرْيَمَ وَأُمَّهُ وَمَن فِي الأَرْضِ جَمِيعًا وَللهِ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا يَخْلُقُ مَا يَشَاءُ وَاللهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ}.
وقال سبحانه: {لَقَدْ كَفَرَ الَّذِينَ قَالُوا إِنَّ اللهَ هُوَ الْمَسِيحُ ابْنُ مَرْيَمَ وَقَالَ الْمَسِيحُ يَا بَنِي إِسْرَائِيلَ اعْبُدُوا اللهَ رَبِّي وَرَبَّكُمْ إِنَّهُ مَن يُشْرِكْ بِاللهِ فَقَدْ حَرَّمَ اللهُ عَلَيْهِ الْجَنَّةَ وَمَأْوَاهُ النَّارُ وَمَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ أَنْصَارٍ}.
وقال سبحانه: {لَقَدْ كَفَرَ الَّذِينَ قَالُوا إِنَّ اللهَ ثَالِثُ ثَلاَثَةٍ وَمَا مِنْ إِلَهٍ إِلاَّ إِلَهٌ وَاحِدٌ وَإِن لَّمْ يَنتَهُوا عَمَّا يَقُولُونَ لَيَمَسَّنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ}.
أتريدون أن تَحُكُّوا هذه الآيات من المصاحف أم أن تمحوها من القلوب ؟!!!
فلذلك فأنا أعجب أشد العجب من بعض المشايخ والأساتذة في الأزهر وخطباء ودعاة وزارة الأوقاف المصرية حين يخرجون بهذه التصريحات المريبة في وسائل الإعلام والتي تتضمن تصحيح ملة النصارى، وإثبات الأخوة لهم، وادعاء مشاركتهم للمسلمين في عبادة الله وحده لا شريك له، فأوهموا المسلمين أن هذه الملة الكافرة دين سماوي معترفٌ به من قبل الربِّ سبحانه، وأنه من شاء صار نصرانيًّا –أو مسيحيًّا على حدِّ تعبيرهم-، ومن شاء صار مسلمًا، وظنوا بهذا أنهم سيقضون على الاحتكاكات بين المسلمين والنصارى !
وإذا سئلوا عن حجتهم احتجوا بالقرآن، بنحو قوله تعالى: {لا إكراه في الدين}، وقوله: {لكم دينكم ولي دين}، فصاروا كحال من احتَّج على عذاب المصلِّي ونجاة تارك الصلاة بقوله تعالى: {ويلٌ للمصلين} !!
[فقد فُتح القرآن، فأخذته الألسنة كلها من مؤمن ومنافق، ومن صغير وكبير، وكل يقول برأية لا يخشى ولا يرهب ولا يتقي ..ثم يعود من نحسه وشؤمه يجمع كل خسيسة من البدع التي تميل إليها نفوس الجاهلين الغافلين، وتهوي إليها أفئدة الذاهلين المفتونين بالحب لكلِّ جديد مبتدع...!!
وعندئذ يتم تبديل معنى الإسلام في الناس، ويتم للدجال أن يبتدع بهواه إلى طب في أهوائهم كتابًا غير كتاب الله، ولولا أن الله قد ضمن لنا حفظ نصِّ كتابه، وحفظ نصِّ البيان عنه في سنة رسوله صلى الله عليه وسلم؛ لفعل هذا وأشياعه ما فعل أسلافهم مِمَّن بدلوا كتب الله وحرَّفوها، ومحوا منها وأثبتوا، ونقصوا فيها وزادوا] [بتصرف يسير من مقال "باطل مشرق" جمهرة مقالات العلامة الأديب السلفي محمود بن محمد بن شاكر –رحمه الله تعالى- (1/596-597)].
وما أروع ما سطره العلامة الأديب السلفي المصري محمود بن محمد بن شاكر –رحمه الله تعالى- في كتابه "أباطيل وأسمار" (ص538-546) حول الفرق بين معنى الدين والملة، حيث قال: "فإن الله سبحانه حين أرسل رسوله بالهدى، وأوحى إليه هذا القرآن العظيم، أرسله على حين فترة من الرسل، أي على انقطاع في رسالة الرسل، وقد انطمست معالم الرسالة التي أُرسلوا بها، وتحول الناس إلى غير العبادة التي أمرتهم بها رسل الله، فكانوا جميعهم: عربَهم وعجمهم، في جاهلية مصداق ذلك ما جاء في الحديث الذي رواه مسلم في صحيحه من حديث عياضٍ المجاشعي عن رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إن الله نظر إلى أهل الأرض فمَقَتَهم عربَهم وعجمهم إلا بقايا من أهل الكتاب (أي عدد قليل فروا إلى الصوامع بعد الاختلاف في كتابهم، وبذلك خرج عامة أهل الكتابين)، وقال الله لرسوله: إنما بعثتك لأبتليك وأبتلي بك، وأنزلت عليك كتابًا لا يغسله الماء تقرؤه نائمًا ويقظانَ".
فكان أهل الكتاب يومئذ على ملة مبدَّلة من دين موسى وعيسى عليهما السلام، وكان العرب يومئذ خاصة على إرث مبدل من الحنيفية ملة إبراهيم عليه السلام غلب عليهم الشرك بالله، وعبادة الأوثان، اتخذوها أندادًا يتقربون بعبادتها إلى الله زلفى، فيما كانوا يتوهمون، وبُعِث رسول الله صلى الله عليه وسلم والعرب واليهود والنصارى جميعًا في ملة جاهلية، فجاء بإبطال ما تَدِين به العرب وغير العرب من أصحاب الملل، فلم أجده سبحانه وتعالى سَمَّى شيئًا من هذه الملل الجاهلية دينًا في شيء من كتابه، مع أنه جاء بمحاجتهم وإبطال دعواهم في آياته المكية والمدنية جميعًا، وفي المكي من التنزيل خاصة، لم يسمِّ ما جاء به من عند الله (دينًا)، بالمعنى الذي يفهمه الناس اليوم، ولا بالمعنى الذي سوف يأتي ظاهرًا في بعض آياته المدنية.
وقد وجدت أن الله سبحانه قد أنزل في كتابه لفظ "الدين" معرَّفًا مضافًا إلى (يوم) في اثنتي عشرة آية من القرآن المنزَّل بمكة ...وذلك كقوله تعالى في سورة المدثر {وكنا نكذب بيوم الدين}، وهو يوم المجازاة والحساب والثواب والعذاب، بعد البعث من الموت، وأفرده معرَّفًا غير مضاف بهذا المعنى نفسه في سورة الماعون، وسورة التين، وسورة الانفطار كقوله في سورة الماعون: {أرأيت الذي يكذب بالدين}، أي بثواب الله وعقابه يوم القيامة، فهذا هو المعنى الأول الذي يُراد من لفظ الدين في أول تنزيل القرآن، وكان هذا مطابقًا للحال التي كان العرب عليها يومئذ، وكان عليها غير العرب أيضًا من اليهود والنصارى وسائر الملل من إنكار البعث بعد الموت، وإنكار ما يتبع ذلك من الثواب والعقاب والحساب والمجازاة.
ثم رأيت لفظ الدين معرَّفًا مقرونًا بذكر الإخلاص ...كقوله في سورة الأعراف: {قل أمر ربي بالقسط وأقيموا وجوهكم عند كل مسجد وادعوه مخلصين له الدين}، وقوله في سورة الزمَر: {إلا لله الدين الخاص}، أي نفرده بالألوهة، ولا نشرك به أحدًا من خلقه، بل نطيعه وحده سبحانه، كما أمر على لسان رسله، وقد رأيت أن ذلك إنما جاء حيث ذكر الله الشرك، واتخاذ الأولياء من دون الله، واعتقاد الشفعاء والأنداد.
وجاء أيضًا معرَّفًا غير مقرون بالإخلاص في معرض اتخاذ إلهين اثنين، وهو الضلال الموبق، ووصفه بصفة أخرى، وذلك قوله تعالى في سورة النحل: {وله الدين واصبًا}، أي: له الطاعة دائمة ثابتة واجبة لازمة لكل خلقه أن يطيعوه ويخضعوا له، مع تمام الرعاية في إفراده بالألوهة أمرًا لازمًا من الله، يقول الله تعالى: {وقال الله لا تتخذوا إلهين اثنين إنما هو إله واحد فإياي فارهبون، وله ما في السماوات والأرض وله الدين واصبًا أفغير الله تتقون}، فهذا هو المعنى الثاني.
ثم وجدت سورًا من القرآن جاء فيها ذكر الشرك بالله، واتخاذ الشفعاء، وقول الكافرين {اتخذ الله ولدًا}، وذكر اختلاف أهل الكتابين من بعد ما جاءهم العلم بغيًّا بينهم، وذكر اتباعهم أهواءهم بغير علم، وذكر الذين اتخذوا كتاب الله الذي أنزل إليهم قراطيس يبدونها ويخفون كثيرًا، فرأيت لفظ الدين قد جاء معرَّفًا وموصوفًا حالُ صاحبه بأنه "حنيف" ، و"الدين" نفسه موصوف بأنه قيِّم ... وذلك كقوله تعالى في سورة يونس: {فأقم وجهك للدين حنيفًا ولا تكونَّن من المشركين}، وقوله تعالى في سورة الروم: {فأقم وجهك للدين حنيفًا فطرة الله التي فطر الناس عليها لا تبديل لخلق الله ذلك الدين القيم ولكن أكثر الناس لا يعلمون}، ولما كان ذلك قد جاء في صدد البراءة من الشرك، واتخاذ الأنداد والشفعاء، واعتقاد الولد لله سبحانه، واتباع الهوى بغير علم= دل ذلك على أنه أراد إقامة المطيع وجهه خاشعًا خاضعًا لله وحده مستقيمًا على ذلك غير معوَج إلى طاعة معوَّجة في يهودية أو نصرانية أو عبادة وثن.
ولما أخلاه من التعريف وأضافه إلى ياء المتكلم في الآية التي قبل الآية التي ذكرتها آنفًا في سورة يونس (104)، جاء أيضًا بهذا المعنى، وذلك قوله تعالى: {قُلْ يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِن كُنْتُمْ فِي شَكٍّ مِّن دِينِي فَلاَ أَعْبُدُ الَّذِينَ تَعْبُدُونَ مِن دُونِ اللهِ وَلَكِنْ أَعْبُدُ اللهَ الَّذِي يَتَوَفَّاكُمْ وَأُمِرْتُ أَنْ أَكُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ}، أي: إن كنتم في شك من طاعتي وخضوعي في العبادة، فإني أفرد الله وحده بالعبادة دون ما تطيعونه في عبادتكم من الأوثان والأنداد والشركاء، ودون ما يتوجه له بالطاعة والعبادة، القومُ الذين قالوا: اتخذ الله ولدًا من أهل الكتاب، فهذا فرعٌ فيه زيادة على المعنى الثاني.
ثم جاء "الدين" معرَّفًا غير موصوف في موضعين من سورة الشورى، وذلك في قوله تعالى: {شَرَعَ لَكُم مِّنَ الدِّينِ مَا وَصَّى بِهِ نُوحًا وَالَّذِي أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ وَمَا وَصَّيْنَا بِهِ إِبْرَاهِيمَ وَمُوسَى وَعِيسَى أَنْ أَقِيمُوا الدِّينَ وَلاَ تَتَفَرَّقُوا فِيهِ كَبُرَ عَلَى الْمُشْرِكِينَ مَا تَدْعُوهُمْ إِلَيْهِ اللهُ يَجْتَبِي إِلَيْهِ مَن يَشَاءُ وَيَهْدِي إِلَيْهِ مَن يُنِيبُ}، ثم ذكر سبحانه بعقِب هذه الآية تفرُّق الناس عن "الدين"، الذي وصَّى به إبراهيم وموسى وعيسى واتباعهم أهواءهم، ومحاجَّتهم في الله بحجة داحضة عند ربهم، وتماريهم في الساعة والبعث، ثم قال: { أَمْ لَهُمْ شُرَكَاءُ شَرَعُوا لَهُم مِّنَ الدِّينِ مَا لَمْ يَأْذَن بِهِ اللهُ}، فدل هذا السياق على أنه أراد به الطاعة والخضوع لله سبحانه على وجه واحد من الطاعة والخضوع، أمرهم أن يقيموا وجوههم عليه غير معوَّجين عنه، ولا متفرقين فيه، فهذا حدٌّ لمعنى "الدين"، الذي هو الطاعة والخضوع، وأنه واحد لم يختلف عليه الأنبياء جميعًا، كما جاء في الحديث الصحيح أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "أنا أولى الناس بعيسى بن مريم في الأولى والآخرة، قالوا: كيف يا رسول الله؟ قال: الأنبياء إخوة من علاَّتٍ، (العلاَّت: هم إخوة لأب من أمهات شتى) وأمهاتهم شتى، ودينهم واحد فليس بيننا نبيٌّ"، ومرادٌ بالدين في ذلك كله: هذه الطاعة المعروفة في عبادة الله وحده، على الوجه الذي وصَّى الله به أنبياءه جميعًا، فهذا فرع على المعنى الثاني، مع تحديد واضح.
ثم جاء الدين في سورة الأعراف:51، وفي سورة الأنعام في ثلاثة مواضع: 7-137-159، وفي سورة الروم:32 مضافًا، كالذي جاء في ذكر المشركين في سورة الأنعام { وَذَرِ الَّذِينَ اتَّخَذُوا دِينَهُمْ لَعِبًا وَلَهْوًا وَغَرَّتْهُمُ الْحَيَاةُ الدُّنْيَا}، والذي جاء في ذكر اليهود والنصارى في سورة الأنعام: { إِنَّ الَّذِينَ فَرَّقُوا دِينَهُمْ وَكَانُوا شِيَعًا لَّسْتَ مِنْهُمْ فِي شَيْءٍ}، وذكر المشركين في سورة الروم بعد قوله: { فَأَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ حَنِيفًا} الآية بقوله تعالى: { مُنِيبِينَ إِلَيْهِ وَاتَّقُوهُ وَأَقِيمُوا الصَّلاَةَ وَلاَ تَكُونُوا مِنَ الْمُشْرِكِينَ . مِنَ الَّذِينَ فَرَّقُوا دِينَهُمْ وَكَانُوا شِيَعًا كُلُّ حِزْبٍ بِمَا لَدَيْهِمْ فَرِحُونَ}، فدل ذلك على أنه أراد المعنى السالف قبله، وهو "الدين" الواحد في عبادة الله على الوجه الذي أمر به أنبياءه، فتفرق فيه الناس، فهذا أيضًا فرع على المعنى الثاني.
وأما ما جاء مضافًا في سورة غافر على لسان فرعونن وذلك قوله: { وَقَالَ فِرْعَوْنُ ذَرُونِي أَقْتُلْ مُوسَى وَلْيَدْعُ رَبَّهُ إِنِّي أَخَافُ أَن يُبَدِّلَ دِينَكُمْ أَوْ أَن يُظْهِرَ فِي الأَرْضِ الْفَسَادَ}، فإن سياق الآيات يدل على أنه أراد بالدين هنا الخضوع والطاعة في العبادة، ولأنه هو الذي كذَّب موسى وعصى: { ثُمَّ أَدْبَرَ يَسْعَى .فَحَشَرَ فَنَادَى.فَقَالَ أَنَا رَبُّكُمُ الأعْلَى.فَأَخَذَهُ اللهُ نَكَالَ الآَخِرَةِ وَالأُولَى.إِنَّ فِي ذَلِكَ لَعِبْرَةً لِّمَن يَّخْشَى}، كما جاء في سورة النازعات (22-26) فهذا أيضًا فرعٌ على المعنى الثاني من وجه مخالف.
وأما ما جاء في سورة يوسف في قوله تعالى عند ذكر خبر يوسف وأخيه: { مَا كَانَ لِيَأْخُذَ أَخَاهُ فِي دِينِ الْمَلِكِ إِلاَّ أَن يَشَاءَ اللهُ} ، فمن البيِّن الواضح أنه أراد سلطان فرعون وقضاءه في السارقين، لا شكَّ فيه؛ لأن يوسف كان نبيًّا على ما عليه آباؤه من الأنبياء لا على ملة فرعون وقومه، فمحالٌ أن يكون أراد بالدين الطاعة في العبادة.
وأما قوله تعالى في سورة الكافرين وهي السورة الثالثة فيما نزل بمكة من القرآن: { لَكُمْ دِينُكُمْ وَلِيَ دِينِ}، فإنه مِمَّا يشكل على بعض من لا يتوقف ويتأنَّى، فبيقين لا يسمِّي الله تعالى ما كان عليه المشركون من عبادة الأوثان "دينًا" بالمعنى الجامع الذي كانوا عليه في ملتهم، هذه واحدة، وبيقين أيضًا لم يكن الأمر يومئذ قد اكتمل بيانه لرسول الله صلى الله عليه وسلم، بل كان في أوله، ليس عنده من الأمر شيء إلا أمر التوجه بالعبادة والخضوع والطاعة لله الواحد القهار دون الأصنام والأوثان التي جعلوها لله شركاء، وتعبَّدوا لها لتقربهم إلى الله زلفى، والسورة كلها في معنى العبادة لا غير، أي في معنى الطاعة والخضوع، دون سائر التفاصيل التي تتصل بالطاعة والخضوع من تكاليف وعقائد وأعمال، وهو صلى الله عليه وسلم لم يَدْعُهم إلى المتاركة فيَدَع لهم ملتَّهم التي هم عليها، ويدعوا له ملته التي هو عليها، ولو كان الأمر أمر متاركة، لكان ضربًا من الإقرار لِمَا هم عليه، ولم يكن لدعوته إياهم إلى اتباعه معنًى يُعقل، وإنما أُمر أن يقول للكافرين: { يَا أَيُّهَا الْكَافِرُونَ. لاَ أَعْبُدُ مَا تَعْبُدُونَ. وَلاَ أَنْتُمْ عَابِدُونَ مَا أَعْبُدُ. وَلاَ أَنَا عَابِدٌ مَّا عَبَدتُّمْ} فهو بهذه الآيات يبرأن أن يكون متوَّجهًا بطاعته وخضوعه إلى ما يتوَّجهون له بالطاعة والخضوع، فهما ليسا سواءً، فهو يقيم وجهه بالطاعة والخضوع لله وحده سبحانه، وهم يتوّجهون إلى ما لا يعقل من أصنامهم وأوثانهم، وإن زعموا أنهم إنما يتوَّجهون إليها؛ ليتقربوا بها إلى الله، فأُمِر صلى الله عليه وسلم أن يقول لهم: لكم سيرتكم التي سرتم عليها في التوجه للأصنام مع زعمكم أنهما تقربكم إلى الله زلفى؛ ولي سيرتي في التوجه إلى الله سبحانه، فأنتم بريئون بشرككن مما أعبد، وأنا بريء مما تعبدون.
فالدين في هذا الموضع قريب المعنى من السيرة والطريق، وهو أخص في المعنى مما مضى كله، وكأنه معنًى رابع.
وإذن فلفظ الدين فيما نزل من القرآن بمكة لا يحتمل غير هذه المعاني، فلم يسمِّ الله تعالى شيئًا من عبادة المشركين وأهل الكتاب "دينًا" بالمعنى الجامع الذي أشرنا إليه، ولم يسمِّ "الإسلام" نفسه فيما نزل بمكة "دينًا" بهذا المعنى الجامع؛ لأن جميع شرائع الإسلام لم يتم نزولها وقضاؤها إلا في المدينة بعد زمان طويل ....
أما إذا جاء ذكر ما كان عليه أهل الكتاب وغيرهم من الأمم، فإن الله سبحانه لم يذكره حين ذكرهم بلفظ "الدين" بل بلفظ "الملة"، وذلك كالذي في سورة ص وذلك حين ذكر الذين كفروا وتعجبهم من أن يجيئهم منذر منهم وقالوا هذا ساحر كذاب، قال الله تعلى بعد ذلك، يذكر مقالة الكافرين: { أَجَعَلَ الآلِهَةَ إِلَهًا وَاحِدًا إِنَّ هَذَا لَشَيْءٌ عُجَابٌ.وَانطَلَقَ الْمَلأُ مِنْهُمْ أَنِ امْشُوا وَاصْبِرُوا عَلَى آلِهَتِكُمْ إِنَّ هَذَا لَشَيْءٌ يُرَادُ.مَا سَمِعْنَا بِهَذَا فِي الْمِلَّةِ الآَخِرَةِ إِنْ هَذَا إِلاَّ اخْتِلاَقٌ}، فالملة الآخرة في النصرانية وهي لا تأبى أن تجعل لله ولدًا...
وسمى الله تعالى ما كان عليه قوم شعيب من الشرك: ملة في سورة الأعراف، وكذلك سمى كل ضلالة كان عليها قوم: ملة، في سورة يوسف (37-3 وفي سورة الكهف (20) وفي سورة إبراهيم (13)، مما نزل بمكة، بل سمى الذي كان عليه إبراهيم وولده من الحق الذي لا اختلاف فيه ملة، كقوله في سورة يوسف: {إِنِّي تَرَكْتُ مِلَّةَ قَوْمٍ لاَّ يُؤْمِنُونَ بِاللهِ وَهُمْ بِالآَخِرَةِ هُمْ كَافِرُونَ .وَاتَّبَعْتُ مِلَّةَ آبَائِي إِبْرَاهِيمَ وَإِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ مَا كَانَ لَنَا أَن نُّشْرِكَ بِاللهِ مِن شَيْءٍ}...".
إلى أن قال في (ص550): "فصار بيِّنًا بعد هذا أن الله سبحانه لا يرضى لنا أن نسمي شيئًا من الملل: نصرانية ويهودية وغيرهما: "دينًا"، سوى ملة أبينا إبراهيم عليه السلام، وملة أنبيائه جميعًا، وهي "الإسلام" دين الله الذي لا يقبل من عباده دينًا سواه، والذي أرسل به رسوله محمدًا صلى الله عليه وسلم ليُبطل الملل كلَّها، ولا يكون شيء منها يسمَّى دينًا سوى الإٍسلام، وإذن فقول المسلم مثلاً: "الأديان السماوية، قول مخالف لعقيدة أهل الإسلام في حقيقة هذه الملل التي عليها الناس أحمرهم وأسودهم، فإن الله لم يرسل نبيًّا من أنبيائه بدين غير الإسلام، وكل ما خالف الإسلام من الملل: في عقائدها وعباداتها وآدابها وأصول تفكيرها ونظرها، فالمهيمن على صحته أو بطلانه: هو القرآن كتاب الله، والحديث: حديث رسول الله، والدين القيِّم هو ما جاء به رسول الله صلى الله عليه وسلم، وما كان عليه هو أصحابه والتابعون لهم بإحسان إلى يوم الدين، وكلُّ مَن فارق دينه الذي بُعث به صلى الله عليه وسلم من مشرك ووثني ويهودي ونصراني ومتحنِّف ومن ابتدع في الدين ما ضلَّ به عن الصراط المستقيم، فداخلٌ في قوله تعالى في سورة الأنعام: { إِنَّ الَّذِينَ فَرَّقُوا دِينَهُمْ وَكَانُوا شِيَعًا لَّسْتَ مِنْهُمْ فِي شَيْءٍ}".اهـ
قلت: فهذه الدعوة إلى الوطنية معلوم فشلها عند العقلاء، وليست هي الحل لغلو الخوارج، فمنذ أمد بعيد يعيش النصارى واليهود في بلاد المسلمين مصونة دماءهم وأموالهم دون هذه الشعارات الوطنية الكاذبة، بل كانوا في أمن وأمان أكثر بشهادة المنصفين منهم، وكان إنصاف حكَّام المسلمين معهم –كما أمر ربُّهم- سببًا في دخول العديد منهم في الإسلام.
فليست الوطنية هي الحل –كما يدَّعي العلمانيون-، بل إن الحلَّ الناجح هو تربية العامة على هذه النصوص الشرعية المشار إليها آنفًا؛ لأنها أوقع في النفوس من هذه الشعارت الغربية المحدثة، فإن المسلم يتأثر بهذه النصوص الشرعية ويلتزم بها تدينًا وخضوعًا لله عز وجل، لا يفعلها رياء ومداهنة للنصارى، فالذين يدَّعون أنهم إخوان للنصارى وأنه لا فرق بين مسلم ومسيحي –على حدِّ تعبيرهم-، يخدعون أنفسهم، ويعلمون أن الأغلبية العظمى من عامة المسلمين لا يرفعون رأسًا لكلامهم وشعاراتهم الكاذبة؛ فيسخرون منها، وبالتالي يظل أصل المرض موجودًا عند بعضهم، فلا يجد غضاضة بعد ذلك في المشاركة في التهجم على النصارى بالقتل أو الضرب والنهب إذا وجد فرصة؛ لأنه لا رادع شرعي يمنعه، فهو لم يقتنع بشعارات دعاة الوطنية ووحدة الأديان؛ لأنها تناقض فطرته.
وكنا نود من مشاهير القنوات الفضائية الذي استنكروا هذا الحادث المؤسف واستشهدوا بهذه النصوص، أن يردفوا هذا بتحذير عامة المسلمين من رءوس هذا المنهج الخارجي في زماننا، مِمَّن يغلب الظن أن يكونوا خلف هذه الجريمة، أعني: رأس تنظيم القاعدة: أسامة بن لادن، وساعده الأيمن: أيمن الظواهري المصري.
لكن للأسف بعض هؤلاء المشاهير ما زالت كلماتهم تتردد في آذان الشباب المخدوع في تزكية هذه الرموز الخارجية، كما وسم أحدهم –وهو الداعية محمد بن حسَّان-: أسامة بن لادن بـ: "البطل"، حيث قال في شريط له بعنوان "لك الله يا أفغانستان÷: "وأمريكا ما تدخلت الآن بذريعة القبض على أسامة أو قتل أسامة هذا البطل، أسأل الله أن يحفظه بحفظه وإخوانه جميعًا الذين ردوا شيئًا من الكرامة المسلوبة لهذه الأمة".
فكيف يقبل الشباب منهم استنكارهم لهذه الجريمة وفي الوقت نفسه هم يمدحون أربابها؟!
وفي الوقت نفسه يستنكر محمد بن حسَّان هذا التفجير الذي تَمَّ ليس لذاته، وإنما لوقوعه في بلاد الإسلام، أما أصل تفجير الشباب لأنفسهم بهذه الطريقة البشعة، فإنه يقره في بلاد الكفر، بل يدَّعي أن الذي يفتي بانتحار هؤلاء وعدم استشهادهم بأنه يكذب على الله سبحانه، كما قال في شريط: : "بشائر من القدس÷ المسجَّل بتاريخ (20/8/2003م)، وما زال على موقعه الرسمي على الإنترنت، حيث قال: "...ومع ذلك ترى ابنًا من أبنائنا، من أبناء الإسلام وأبناء المسلمين لم يبلغ الخامسة والعشرين من عمره، شايف الفخر والشرف!! يُقَدِّم نفسه لله، كذَّاب من يقول بأنه منتحر، والله يكذب على الله، أي انتحار؟!÷.
قلت: فهل الأئمة: الألباني وابن باز وابن عثيمين والفوزان والنجمي يكذبون على الله؟!!
أيها العقلاء: إن أرباب معاقل الشرك والوثنية المتمثلة في الأضرحة والمقامات، وأرباب الأهواء والبدع، وأرباب تجارة المسكرات والمخدرات، وأرباب الرشاوي والاختلاسات المالية، وأرباب الفجور والزنا، ونحوهم من أهل البغي والفساد أفسدوا الدين والدنيا، وبسببهم تُسلط الفتن علينا، كما قال سبحانه: {وَاتَّقُوا فِتْنَةً لاَ تُصِيبَنَّ الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْكُمْ خَاصَّةً وَاعْلَمُوا أَنَّ اللهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ}.
فإن لم يتكاتف العلماء والعقلاء وأهل الشوكة والسلطان لكبح جماح هذه الفئات، وردعها، فإن الأمر سيزداد سوءًا إلى سوء، وليس لنا إلا رحمة أرحم الراحمين، أن يسلِّمنا من هذه الشرور، وإن أراد بقومنا فتنة أن يقبضنا إليه غير مفتونين.
اللهم بلَّغت، اللهم فاشهد.
وصلِّ اللهم على محمد وعلى آله وأزواجه ومن اتبعه بإحسان إلى يوم الدين، وسلِّم تسليمًا كثيرًا.
أما بعد، فمنذ أن كثُرت الدندنة في الآونة الأخيرة في بلدنا مصر –حماها الله سبحانه من كيد الأعداء- إلى ما يُسمَّى بـ: "العصيان المدني" و"الإضراب العام"؛ ازددت يقينًا أن أعداء الله من الكفَّار والمنافقين وأهل الأهواء لن يهدأ لهم بالاً إلا إذا حوَّلوا مصر إلى برك من الدماء، أو على أقل تقدير زرعوا الفتن في وسط أهلها؛ ليشغلوهم بأنفسهم، أو كي يفتتوهم إلى دويلات متناحرة يأكل بعضها بعضًا؛ ردَّ الله كيدهم جميعًا في نحورهم.
{وَالَّذِينَ يَمْكُرُونَ السَّيِّئَاتِ لَهُمْ عَذَابٌ شَدِيدٌ وَمَكْرُ أُولَئِكَ هُوَ يَبُورُ}.
وقد جاء في الموسوعة العربية في بيان معنى "العصيان المدني" و"الإضراب العام" ما يلي:
"الإضراب strike: لُغةً هو الكف والإعراض والانصراف عن عمل أو أمر أو رأي. وفي أصله: الضرب بمعنى الشدة، تستعمل لصرف المضروب عن وجهته أو إجباره على العدول عنها، ولا يبعد معناه الاصطلاحي كثيراً عن هذا الأصل.
وفي المصطلح القانوني والسياسي هو توقف العاملين أو أرباب العمل، أو توقفهم مجتمعين عن أعمالهم، وكذلك امتناع الأفراد عن الطعام في حالات مخصوصة، احتجاجًا على إجراءات أو قوانين تمس مصالحهم الخاصة أو قيمهم أو تبخس حقوقهم المدنية أو السياسية أو الاقتصادية، أو تمس المصلحة العامة أو المصلحة الوطنية والقومية العليا، وهو إلى ذلك، وسيلة من وسائل الضغط في سبيل الحصول على مطالب محددة، مادية أو معنوية أو قانونية. ويدخل فيه التباطؤ في العمل والتلكؤ فيه والمبالغة في مراعاة الشكليات بغية إرباكه أو عرقلته. ويسمى في هذه الحال إضراباً مقنَّعًا.
والأصل في الإضراب ألاّ يتعدى حدود التوقف عن العمل والامتناع عن مواصلته قبل التوصل إلى تسوية بالتفاوض أو بالتحكيم، إلا أنه قد يتجاوز هذا الحد فيرافقه التظاهر وأعمال العنف، أو يكون حلقة في سلسلة أعمال مختلفة ينظمها تصور استراتيجي لتغيير النظام الاجتماعي أو نظام الحكم، كالإضراب العام الذي قام به عمال بتروغراد في 25 شباط من عام 1917، وكان بداية سلسلة من الأعمال التي وجهها الحزب البلشفي بقيادة لينين، وانتهت بسقوط النظام القيصري. وفي مثل هذه الحال يتحول الإضراب إلى نوع من العصيان المدني تتسع دائرته حتى تشمل معظم فئات المجتمع، ويكون لمثل هذا الإضراب أهداف عامة يغلب أن تكون أهدافاً سياسية... وقد يتخذ الإضراب صيغة الانقطاع عن العمل والاعتصام في الأماكن العامة أو الجلوس في الشوارع والساحات العامة لعرقلة حركة المرور...".
وينقسم الإضراب من حيث شمول الإضرابات إلى الأنماط الآتية:
ـ الإضراب العام: وهو توقف جميع العاملين عن أعمالهم توقفاً جماعيًّا في سائر مجالات العمل، ويشمل هذا النوع فئات اجتماعية واسعة، ويهدف إلى الحصول على مكاسب سياسية أو اقتصادية عامة.
ـ الإضراب الخاص: وهو بعكس الإضراب العام، يقوم به سكان منطقة أو عمال شركة أو مؤسسة أو العاملون في صناعة معينة أو قطاع إنتاجي أو خدمي بعينه، ويمكن أن يتحول إلى إضراب عام.
ـ الإضراب المتناوب أو الشطرنجي: هو توقف العاملين عن أعمالهم في قطاع معين أو على مستوى البلاد بأسرها ولكن بالتناوب وفق خطة مدروسة، إذ يضرب العاملون في شركة أو مؤسسة أو في جزء منها، في حين يستمر بقية العاملين في مزاولة أعمالهم، ثم يعود هؤلاء إلى عملهم ويضرب آخرون وهكذا. ويكون هذا النوع من الإضرابات فاعلاً ومربكاً للجهات المعنية وللسلطات السياسية، ولاسيما حين تُعتمد السرية في تنفيذه، فلا تتمكن السلطات المعنية من تحديد الجهة التي يمكن أن تقوم بالإضراب.
وهناك إضراب يصاحبه اعتصام في مكان العمل، يسمى إضراب الأيدي المتصالبة. وهناك الإضراب الرسمي الذي تقرره النقابة المعنية، والإضراب غير الرسمي الذي يقوم بمبادرة من العاملين أنفسهم من دون أن تقرر نقابتهم ذلك".اهـ
قلت: فالإضراب والعصيان المدني ما هما إلا صورة من صور الخروج المحدثة التي ابتدعها الكفَّار الثوريون.
إن الأمن والأمان نعمة عظيمة لا تقدر بأموال الدنيا جميعًا لمن يعقل، لذلك أنا أسأل الدعاة إلى هذا الإضراب العام والعصيان المدني أسئلة أرجو أن يجيبوا عنها بصراحة إن كانوا عقلاء ليسوا سفهاء، ألا وهي:
1. ماذا يصنع المريض الذي على شفا الهلاك إذا امتنع الأطباء عن ممارسة مهنتهم؟!
2. ماذا يصنع الأطفال إذا لم يجدوا ما يسد جوعهم إذا نفذت الأزواد بعد أن تغلق المخابز ويمتنع الباعة عن بيع الطعام، أو يشتد الغلاء مما لا يمكِّن الآلاف من إمكانية الحصول عليه؟!
3. كم من الأموال سوف تهدر عبثًا في كبح جماع هذه الفوضى؟!
4. كم من الأرواح قد تزهق إذا ساد الهرج والمرج ربوع البلاد؟!
5. كم من الأعراض سوف تنتهك، وكم من الأموال سوف تغتصب في ظل غياب النظام وإضعاف شوكة السلطان؟!
إن دعاة الإضراب والعصيان فقدوا عقولهم، وأطاعوا شياطينهم، وعصوا ربَّهم الذي لا يحب هذه الفساد، وصدق سبحانه حيث قال في محكم كتابه: {وَمِنَ النَّاسِ مَن يُعْجِبُكَ قَوْلُهُ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَيُشْهِدُ اللهَ عَلَى مَا فِي قَلْبِهِ وَهُوَ أَلَدُّ الْخِصَامِ .وَإِذَا تَوَلَّى سَعَى فِي الأَرْضِ لِيُفْسِدَ فِيِهَا وَيُهْلِكَ الْحَرْثَ وَالنَّسْلَ وَاللهُ لاَ يُحِبُّ الْفَسَادَ .وَإِذَا قِيلَ لَهُ اتَّقِ اللهَ أَخَذَتْهُ الْعِزَّةُ بِالإِثْمِ فَحَسْبُهُ جَهَنَّمُ وَلَبِئْسَ الْمِهَادُ}.
وأذكِّر إخواني في "مصرنا العزيزة" أنهم سيعضون الأنامل من الغيظ ويتقطعون من الحسرة إذا هم استجابوا لهذه الدعوات الثورية التي تؤزهم على الخروج أزًّا، بعد أن تضيع نعمة الأمن والأمان التي يعيشون فيها، ولهم العبرة فيمن حولهم، فيما حلَّ ببلادهم من الفتن التي يتخطف فيها الناس من حولهم، بسبب الانسياق الأعمى وراء الشعارات الكاذبة المناقضة لشريعتنا المطهرة.
ولنا العظة والعبرة في قول إلهنا سبحانه في امتنانه على أهل الحرم: {وَقَالُوا إِن نَّتَّبِعِ الْهُدَى مَعَكَ نُتَخَطَّفْ مِنْ أَرْضِنَا أَوَ لَمْ نُمَكِّن لَّهُمْ حَرَمًا آمِنًا يُجْبَى إِلَيْهِ ثَمَرَاتُ كُلِّ شَيْءٍ رِّزْقًا مِّن لَّدُنَّا وَلَكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لاَ يَعْلَمُونَ}.
وقال الله سبحانه: {سَلْ بَنِي إِسْرَائِيلَ كَمْ آتَيْنَاهُم مِّنْ آيَةٍ بَيِّنَةٍ وَمَن يُبَدِّلْ نِعْمَةَ اللهِ مِن بَعْدِ مَا جَاءَتْهُ فَإِنَّ اللهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ}.
فالحذر الحذر!! بعد أن جاءتنا البينات الشرعية والقدرية أن نبدل نعمة الله؛ فيحل بنا عقابه سبحانه الذي لا مرد له.
ومن العقوبات القدرية والآيات الكونية حادث كنيسة الأسكندرية، والذي حدث في التوقيت نفسه الذي تعالت فيه أصوات السفهاء المطالبين بهذا الإضراب العام، لعلَّهم أن يعودوا إلى رشدهم ويرحموا أنفسهم قبل أن يرحموا غيرهم.
فإن كان مقتل عشرين وإصابة عشرات في هذا الحيز الضيق أمام الكنيسة سبَّب هذا الذعر وفقدان الأمن عند فئام من الناس، فكيف إذا خرجت هذه الملايين من الهمج الرِّعاع أتباع كل ناعق تنهب وتخرب وتدمر الأخضر واليابس بحجة المطالبة بالحقوق المهضومة، وهم مضيعو الحقوق إن كانوا يعلمون !
واقرأ ما سطره العلامة المحدِّث أحمد شاكر المصري رحمه الله في حادثة حريق القاهرة المشهور حيث قال: "إن حوادث القاهرة في يوم السبت 26 يناير سنة 1952 لا تكاد تنسى؛ فهي أشد ما رأينا من الفظائع والإجرام بما كان فيها من عدوان وبغي وسرقة وتدمير، دون أن يردع المجرمين رادع ...إلخ". [جمهرة مقالات العلامة أحمد شاكر (1/47].
وسواء كان فاعل هذه الجريمة النكراء منسوبًا إلى المسلمين –أي من الخوارج- أو من الكفَّار المعادين، فإن القصد واحد، وهو زعزعة الأمن وإشعال الفتنة.
وإن كنت لا أستبعد أن يكون القائم بهذه الجريمة خارجيًّا مدفوعًا من قبَل اليهود أو الروافض الشيعة المجرمين، ولا ننسى محاولات حسن نصر الرافضي في النَّيْل من أمن هذه البلاد عدة مرات.
وحسن نصر طالب من قبل العسكريين المصريين والشعب بأكمله إعلان العصيان العام، وأن يخرجوا –بزعمه- بصدورهم ليفتحوا معابر غزة.
فلما فشل في خطته البائسة، لا يبعد أن يكون استخدم هذه الطريقة الخسيسة؛ لتحقيق بعض مآربه الخبيثة، لا مكَّنه الله.
لكن المشكلة لا تكمن في هذا المجرم بقدر ما هي تكمن فيمَن نصره وأيَّده على هذه السفاهة من رجال الأزهر وبعض الشخصيات المشار إليها بالبنان، مِمَّن يحسبون على العلم والفتوى؛ فصدرت الفتاوى الموقعة من قبل كذا وكذا من أدعياء العلم، بتكفير الرئيس المصري؛ لرفضه فتح المعابر.
وقد تناسى دعاة فتح المعابر وتهييج الشعب، أنهم بهذه السفاهة يمهدون السبيل ويفتحون الثغرة لليهود المجرمين وأعوانهم من الروافض المتسترين بالإسلام لنهب هذه البلاد، وتحويلها إلى عراق أخرى –أو قل: أفغانستان أخرى-، وتكون المحصِّلة في نهاية الأمر بعد أن يسود الهرج ويساق هذا الشعب سياق النعاج إلى حتفه: أن تهدم المساجد وتحرق المصاحف وكتب السنة، وتنتهك الحرمات، وهذه هي الغاية العظمى للباطنية المتسترين بالإسلام في هذه الدولة الإيرانية الفاجرة، وما بغداد منا بعيد؛ حيث لم يرقب فيلق المهدي الرافضي الإيراني إلاًّ ولا ذمَّة في المصاحف وكتب السنن ودماء المسلمين، فداسوها بأقدامهم النجسة، وكان جنود حزب حسن نصر هم المدد الأعظم لهذا الفيلق.
وأنبه إخواننا أيضًا إلى أن شريعتنا الغرَّاء تحتوى على نصوص محكمة في تحريم انتهاك دماء وأعراض أهل الذمة والمستأمنين من النصارى واليهود الذين يعيشون في بلاد المسلمين بعهد وذمة وأمان، ومن هذه النصوص:
قول الله سبحانه: {لاَ يَنْهَاكُمُ اللهُ عَنِ الَّذِينَ لَمْ يُقَاتِلُوكُمْ فِي الدِّينِ وَلَمْ يُخْرِجُوكُم مِّن دِيَارِكُمْ أَن تَبَرُّوهُمْ وَتُقْسِطُوا إِلَيْهِمْ إِنَّ اللهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ}.
وأخرج البخاري في صحيحه كتاب (الجزية) باب: (إِثْمِ مَنْ قَتَلَ مُعَاهَدًا بِغَيْرِ جُرْمٍ) عن عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرٍو - رضى الله عنهما - عَنِ النَّبِىِّ - صلى الله عليه وسلم - قَالَ «مَنْ قَتَلَ مُعَاهَدًا لَمْ يَرَحْ رَائِحَةَ الْجَنَّةِ، وَإِنَّ رِيحَهَا تُوجَدُ مِنْ مَسِيرَةِ أَرْبَعِينَ عَامًا».
لكن في الوقت نفسه الذي أمرنا فيه الله سبحانه بالبر والقسط مع أهل الذمة من الكفَّار –الذين لا يقاتلوننا-، وحرَّم علينا استباحة دمائهم، أمرنا أيضًا سبحانه بعدم موالاتهم في دينهم، وحرَّم علينا مودتهم، فقال سبحانه: { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لاَ تَتَّخِذُوا الْيَهُودَ وَالنَّصَارَى أَوْلِيَاءَ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ وَمَن يَتَوَلَّهُم مِّنْكُمْ فَإِنَّهُ مِنْهُمْ إِنَّ اللهَ لاَ يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ}، وقال سبحانه: {لاَ تَجِدُ قَوْمًا يُؤْمِنُونَ بِاللهِ وَالْيَوْمِ الآَخِرِ يُوَادُّونَ مَنْ حَادَّ اللهَ وَرَسُولَهُ وَلَوْ كَانُوا آبَاءَهُمْ أَوْ أَبْنَاءَهُمْ أَوْ إِخْوَانَهُمْ أَوْ عَشِيرَتَهُمْ أُولَئِكَ كَتَبَ فِي قُلُوبِهِمُ الإِيمَانَ وَأَيَّدَهُمْ بِرُوحٍ مِّنْهُ وَيُدْخِلُهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الأنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا رَضِيَ اللهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ أُولَئِكَ حِزْبُ اللهِ أَلاَ إِنَّ حِزْبَ اللهِ هُمُ الْمُفْلِحُونَ}.
أذكر هذا؛ لأنه بعد الحادث تغلَّبت العاطفة على فئات مختلفة من المسلمين المصريين فخرجوا في هذا المظاهرات الفاشلة مع النصارى يرفعون المصحف مع الصليب، أو الهلال مع الصليب، منادين بالوحدة الوطنية، وهذا مِمَّا لا يجوز بحال أن يوضع كتاب الله العزيز بجانب الصليب –رمز الشرك والوثنية عند النصارى-.
ألم يقل ربنا سبحانه في محكم كتابه: {لَقَدْ كَفَرَ الَّذِينَ قَالُوا إِنَّ اللهَ هُوَ الْمَسِيحُ ابْنُ مَرْيَمَ قُلْ فَمَن يَمْلِكُ مِنَ اللهِ شَيْئًا إِنْ أَرَادَ أَن يُهْلِكَ الْمَسِيحَ ابْنَ مَرْيَمَ وَأُمَّهُ وَمَن فِي الأَرْضِ جَمِيعًا وَللهِ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا يَخْلُقُ مَا يَشَاءُ وَاللهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ}.
وقال سبحانه: {لَقَدْ كَفَرَ الَّذِينَ قَالُوا إِنَّ اللهَ هُوَ الْمَسِيحُ ابْنُ مَرْيَمَ وَقَالَ الْمَسِيحُ يَا بَنِي إِسْرَائِيلَ اعْبُدُوا اللهَ رَبِّي وَرَبَّكُمْ إِنَّهُ مَن يُشْرِكْ بِاللهِ فَقَدْ حَرَّمَ اللهُ عَلَيْهِ الْجَنَّةَ وَمَأْوَاهُ النَّارُ وَمَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ أَنْصَارٍ}.
وقال سبحانه: {لَقَدْ كَفَرَ الَّذِينَ قَالُوا إِنَّ اللهَ ثَالِثُ ثَلاَثَةٍ وَمَا مِنْ إِلَهٍ إِلاَّ إِلَهٌ وَاحِدٌ وَإِن لَّمْ يَنتَهُوا عَمَّا يَقُولُونَ لَيَمَسَّنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ}.
أتريدون أن تَحُكُّوا هذه الآيات من المصاحف أم أن تمحوها من القلوب ؟!!!
فلذلك فأنا أعجب أشد العجب من بعض المشايخ والأساتذة في الأزهر وخطباء ودعاة وزارة الأوقاف المصرية حين يخرجون بهذه التصريحات المريبة في وسائل الإعلام والتي تتضمن تصحيح ملة النصارى، وإثبات الأخوة لهم، وادعاء مشاركتهم للمسلمين في عبادة الله وحده لا شريك له، فأوهموا المسلمين أن هذه الملة الكافرة دين سماوي معترفٌ به من قبل الربِّ سبحانه، وأنه من شاء صار نصرانيًّا –أو مسيحيًّا على حدِّ تعبيرهم-، ومن شاء صار مسلمًا، وظنوا بهذا أنهم سيقضون على الاحتكاكات بين المسلمين والنصارى !
وإذا سئلوا عن حجتهم احتجوا بالقرآن، بنحو قوله تعالى: {لا إكراه في الدين}، وقوله: {لكم دينكم ولي دين}، فصاروا كحال من احتَّج على عذاب المصلِّي ونجاة تارك الصلاة بقوله تعالى: {ويلٌ للمصلين} !!
[فقد فُتح القرآن، فأخذته الألسنة كلها من مؤمن ومنافق، ومن صغير وكبير، وكل يقول برأية لا يخشى ولا يرهب ولا يتقي ..ثم يعود من نحسه وشؤمه يجمع كل خسيسة من البدع التي تميل إليها نفوس الجاهلين الغافلين، وتهوي إليها أفئدة الذاهلين المفتونين بالحب لكلِّ جديد مبتدع...!!
وعندئذ يتم تبديل معنى الإسلام في الناس، ويتم للدجال أن يبتدع بهواه إلى طب في أهوائهم كتابًا غير كتاب الله، ولولا أن الله قد ضمن لنا حفظ نصِّ كتابه، وحفظ نصِّ البيان عنه في سنة رسوله صلى الله عليه وسلم؛ لفعل هذا وأشياعه ما فعل أسلافهم مِمَّن بدلوا كتب الله وحرَّفوها، ومحوا منها وأثبتوا، ونقصوا فيها وزادوا] [بتصرف يسير من مقال "باطل مشرق" جمهرة مقالات العلامة الأديب السلفي محمود بن محمد بن شاكر –رحمه الله تعالى- (1/596-597)].
وما أروع ما سطره العلامة الأديب السلفي المصري محمود بن محمد بن شاكر –رحمه الله تعالى- في كتابه "أباطيل وأسمار" (ص538-546) حول الفرق بين معنى الدين والملة، حيث قال: "فإن الله سبحانه حين أرسل رسوله بالهدى، وأوحى إليه هذا القرآن العظيم، أرسله على حين فترة من الرسل، أي على انقطاع في رسالة الرسل، وقد انطمست معالم الرسالة التي أُرسلوا بها، وتحول الناس إلى غير العبادة التي أمرتهم بها رسل الله، فكانوا جميعهم: عربَهم وعجمهم، في جاهلية مصداق ذلك ما جاء في الحديث الذي رواه مسلم في صحيحه من حديث عياضٍ المجاشعي عن رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إن الله نظر إلى أهل الأرض فمَقَتَهم عربَهم وعجمهم إلا بقايا من أهل الكتاب (أي عدد قليل فروا إلى الصوامع بعد الاختلاف في كتابهم، وبذلك خرج عامة أهل الكتابين)، وقال الله لرسوله: إنما بعثتك لأبتليك وأبتلي بك، وأنزلت عليك كتابًا لا يغسله الماء تقرؤه نائمًا ويقظانَ".
فكان أهل الكتاب يومئذ على ملة مبدَّلة من دين موسى وعيسى عليهما السلام، وكان العرب يومئذ خاصة على إرث مبدل من الحنيفية ملة إبراهيم عليه السلام غلب عليهم الشرك بالله، وعبادة الأوثان، اتخذوها أندادًا يتقربون بعبادتها إلى الله زلفى، فيما كانوا يتوهمون، وبُعِث رسول الله صلى الله عليه وسلم والعرب واليهود والنصارى جميعًا في ملة جاهلية، فجاء بإبطال ما تَدِين به العرب وغير العرب من أصحاب الملل، فلم أجده سبحانه وتعالى سَمَّى شيئًا من هذه الملل الجاهلية دينًا في شيء من كتابه، مع أنه جاء بمحاجتهم وإبطال دعواهم في آياته المكية والمدنية جميعًا، وفي المكي من التنزيل خاصة، لم يسمِّ ما جاء به من عند الله (دينًا)، بالمعنى الذي يفهمه الناس اليوم، ولا بالمعنى الذي سوف يأتي ظاهرًا في بعض آياته المدنية.
وقد وجدت أن الله سبحانه قد أنزل في كتابه لفظ "الدين" معرَّفًا مضافًا إلى (يوم) في اثنتي عشرة آية من القرآن المنزَّل بمكة ...وذلك كقوله تعالى في سورة المدثر {وكنا نكذب بيوم الدين}، وهو يوم المجازاة والحساب والثواب والعذاب، بعد البعث من الموت، وأفرده معرَّفًا غير مضاف بهذا المعنى نفسه في سورة الماعون، وسورة التين، وسورة الانفطار كقوله في سورة الماعون: {أرأيت الذي يكذب بالدين}، أي بثواب الله وعقابه يوم القيامة، فهذا هو المعنى الأول الذي يُراد من لفظ الدين في أول تنزيل القرآن، وكان هذا مطابقًا للحال التي كان العرب عليها يومئذ، وكان عليها غير العرب أيضًا من اليهود والنصارى وسائر الملل من إنكار البعث بعد الموت، وإنكار ما يتبع ذلك من الثواب والعقاب والحساب والمجازاة.
ثم رأيت لفظ الدين معرَّفًا مقرونًا بذكر الإخلاص ...كقوله في سورة الأعراف: {قل أمر ربي بالقسط وأقيموا وجوهكم عند كل مسجد وادعوه مخلصين له الدين}، وقوله في سورة الزمَر: {إلا لله الدين الخاص}، أي نفرده بالألوهة، ولا نشرك به أحدًا من خلقه، بل نطيعه وحده سبحانه، كما أمر على لسان رسله، وقد رأيت أن ذلك إنما جاء حيث ذكر الله الشرك، واتخاذ الأولياء من دون الله، واعتقاد الشفعاء والأنداد.
وجاء أيضًا معرَّفًا غير مقرون بالإخلاص في معرض اتخاذ إلهين اثنين، وهو الضلال الموبق، ووصفه بصفة أخرى، وذلك قوله تعالى في سورة النحل: {وله الدين واصبًا}، أي: له الطاعة دائمة ثابتة واجبة لازمة لكل خلقه أن يطيعوه ويخضعوا له، مع تمام الرعاية في إفراده بالألوهة أمرًا لازمًا من الله، يقول الله تعالى: {وقال الله لا تتخذوا إلهين اثنين إنما هو إله واحد فإياي فارهبون، وله ما في السماوات والأرض وله الدين واصبًا أفغير الله تتقون}، فهذا هو المعنى الثاني.
ثم وجدت سورًا من القرآن جاء فيها ذكر الشرك بالله، واتخاذ الشفعاء، وقول الكافرين {اتخذ الله ولدًا}، وذكر اختلاف أهل الكتابين من بعد ما جاءهم العلم بغيًّا بينهم، وذكر اتباعهم أهواءهم بغير علم، وذكر الذين اتخذوا كتاب الله الذي أنزل إليهم قراطيس يبدونها ويخفون كثيرًا، فرأيت لفظ الدين قد جاء معرَّفًا وموصوفًا حالُ صاحبه بأنه "حنيف" ، و"الدين" نفسه موصوف بأنه قيِّم ... وذلك كقوله تعالى في سورة يونس: {فأقم وجهك للدين حنيفًا ولا تكونَّن من المشركين}، وقوله تعالى في سورة الروم: {فأقم وجهك للدين حنيفًا فطرة الله التي فطر الناس عليها لا تبديل لخلق الله ذلك الدين القيم ولكن أكثر الناس لا يعلمون}، ولما كان ذلك قد جاء في صدد البراءة من الشرك، واتخاذ الأنداد والشفعاء، واعتقاد الولد لله سبحانه، واتباع الهوى بغير علم= دل ذلك على أنه أراد إقامة المطيع وجهه خاشعًا خاضعًا لله وحده مستقيمًا على ذلك غير معوَج إلى طاعة معوَّجة في يهودية أو نصرانية أو عبادة وثن.
ولما أخلاه من التعريف وأضافه إلى ياء المتكلم في الآية التي قبل الآية التي ذكرتها آنفًا في سورة يونس (104)، جاء أيضًا بهذا المعنى، وذلك قوله تعالى: {قُلْ يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِن كُنْتُمْ فِي شَكٍّ مِّن دِينِي فَلاَ أَعْبُدُ الَّذِينَ تَعْبُدُونَ مِن دُونِ اللهِ وَلَكِنْ أَعْبُدُ اللهَ الَّذِي يَتَوَفَّاكُمْ وَأُمِرْتُ أَنْ أَكُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ}، أي: إن كنتم في شك من طاعتي وخضوعي في العبادة، فإني أفرد الله وحده بالعبادة دون ما تطيعونه في عبادتكم من الأوثان والأنداد والشركاء، ودون ما يتوجه له بالطاعة والعبادة، القومُ الذين قالوا: اتخذ الله ولدًا من أهل الكتاب، فهذا فرعٌ فيه زيادة على المعنى الثاني.
ثم جاء "الدين" معرَّفًا غير موصوف في موضعين من سورة الشورى، وذلك في قوله تعالى: {شَرَعَ لَكُم مِّنَ الدِّينِ مَا وَصَّى بِهِ نُوحًا وَالَّذِي أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ وَمَا وَصَّيْنَا بِهِ إِبْرَاهِيمَ وَمُوسَى وَعِيسَى أَنْ أَقِيمُوا الدِّينَ وَلاَ تَتَفَرَّقُوا فِيهِ كَبُرَ عَلَى الْمُشْرِكِينَ مَا تَدْعُوهُمْ إِلَيْهِ اللهُ يَجْتَبِي إِلَيْهِ مَن يَشَاءُ وَيَهْدِي إِلَيْهِ مَن يُنِيبُ}، ثم ذكر سبحانه بعقِب هذه الآية تفرُّق الناس عن "الدين"، الذي وصَّى به إبراهيم وموسى وعيسى واتباعهم أهواءهم، ومحاجَّتهم في الله بحجة داحضة عند ربهم، وتماريهم في الساعة والبعث، ثم قال: { أَمْ لَهُمْ شُرَكَاءُ شَرَعُوا لَهُم مِّنَ الدِّينِ مَا لَمْ يَأْذَن بِهِ اللهُ}، فدل هذا السياق على أنه أراد به الطاعة والخضوع لله سبحانه على وجه واحد من الطاعة والخضوع، أمرهم أن يقيموا وجوههم عليه غير معوَّجين عنه، ولا متفرقين فيه، فهذا حدٌّ لمعنى "الدين"، الذي هو الطاعة والخضوع، وأنه واحد لم يختلف عليه الأنبياء جميعًا، كما جاء في الحديث الصحيح أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "أنا أولى الناس بعيسى بن مريم في الأولى والآخرة، قالوا: كيف يا رسول الله؟ قال: الأنبياء إخوة من علاَّتٍ، (العلاَّت: هم إخوة لأب من أمهات شتى) وأمهاتهم شتى، ودينهم واحد فليس بيننا نبيٌّ"، ومرادٌ بالدين في ذلك كله: هذه الطاعة المعروفة في عبادة الله وحده، على الوجه الذي وصَّى الله به أنبياءه جميعًا، فهذا فرع على المعنى الثاني، مع تحديد واضح.
ثم جاء الدين في سورة الأعراف:51، وفي سورة الأنعام في ثلاثة مواضع: 7-137-159، وفي سورة الروم:32 مضافًا، كالذي جاء في ذكر المشركين في سورة الأنعام { وَذَرِ الَّذِينَ اتَّخَذُوا دِينَهُمْ لَعِبًا وَلَهْوًا وَغَرَّتْهُمُ الْحَيَاةُ الدُّنْيَا}، والذي جاء في ذكر اليهود والنصارى في سورة الأنعام: { إِنَّ الَّذِينَ فَرَّقُوا دِينَهُمْ وَكَانُوا شِيَعًا لَّسْتَ مِنْهُمْ فِي شَيْءٍ}، وذكر المشركين في سورة الروم بعد قوله: { فَأَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ حَنِيفًا} الآية بقوله تعالى: { مُنِيبِينَ إِلَيْهِ وَاتَّقُوهُ وَأَقِيمُوا الصَّلاَةَ وَلاَ تَكُونُوا مِنَ الْمُشْرِكِينَ . مِنَ الَّذِينَ فَرَّقُوا دِينَهُمْ وَكَانُوا شِيَعًا كُلُّ حِزْبٍ بِمَا لَدَيْهِمْ فَرِحُونَ}، فدل ذلك على أنه أراد المعنى السالف قبله، وهو "الدين" الواحد في عبادة الله على الوجه الذي أمر به أنبياءه، فتفرق فيه الناس، فهذا أيضًا فرع على المعنى الثاني.
وأما ما جاء مضافًا في سورة غافر على لسان فرعونن وذلك قوله: { وَقَالَ فِرْعَوْنُ ذَرُونِي أَقْتُلْ مُوسَى وَلْيَدْعُ رَبَّهُ إِنِّي أَخَافُ أَن يُبَدِّلَ دِينَكُمْ أَوْ أَن يُظْهِرَ فِي الأَرْضِ الْفَسَادَ}، فإن سياق الآيات يدل على أنه أراد بالدين هنا الخضوع والطاعة في العبادة، ولأنه هو الذي كذَّب موسى وعصى: { ثُمَّ أَدْبَرَ يَسْعَى .فَحَشَرَ فَنَادَى.فَقَالَ أَنَا رَبُّكُمُ الأعْلَى.فَأَخَذَهُ اللهُ نَكَالَ الآَخِرَةِ وَالأُولَى.إِنَّ فِي ذَلِكَ لَعِبْرَةً لِّمَن يَّخْشَى}، كما جاء في سورة النازعات (22-26) فهذا أيضًا فرعٌ على المعنى الثاني من وجه مخالف.
وأما ما جاء في سورة يوسف في قوله تعالى عند ذكر خبر يوسف وأخيه: { مَا كَانَ لِيَأْخُذَ أَخَاهُ فِي دِينِ الْمَلِكِ إِلاَّ أَن يَشَاءَ اللهُ} ، فمن البيِّن الواضح أنه أراد سلطان فرعون وقضاءه في السارقين، لا شكَّ فيه؛ لأن يوسف كان نبيًّا على ما عليه آباؤه من الأنبياء لا على ملة فرعون وقومه، فمحالٌ أن يكون أراد بالدين الطاعة في العبادة.
وأما قوله تعالى في سورة الكافرين وهي السورة الثالثة فيما نزل بمكة من القرآن: { لَكُمْ دِينُكُمْ وَلِيَ دِينِ}، فإنه مِمَّا يشكل على بعض من لا يتوقف ويتأنَّى، فبيقين لا يسمِّي الله تعالى ما كان عليه المشركون من عبادة الأوثان "دينًا" بالمعنى الجامع الذي كانوا عليه في ملتهم، هذه واحدة، وبيقين أيضًا لم يكن الأمر يومئذ قد اكتمل بيانه لرسول الله صلى الله عليه وسلم، بل كان في أوله، ليس عنده من الأمر شيء إلا أمر التوجه بالعبادة والخضوع والطاعة لله الواحد القهار دون الأصنام والأوثان التي جعلوها لله شركاء، وتعبَّدوا لها لتقربهم إلى الله زلفى، والسورة كلها في معنى العبادة لا غير، أي في معنى الطاعة والخضوع، دون سائر التفاصيل التي تتصل بالطاعة والخضوع من تكاليف وعقائد وأعمال، وهو صلى الله عليه وسلم لم يَدْعُهم إلى المتاركة فيَدَع لهم ملتَّهم التي هم عليها، ويدعوا له ملته التي هو عليها، ولو كان الأمر أمر متاركة، لكان ضربًا من الإقرار لِمَا هم عليه، ولم يكن لدعوته إياهم إلى اتباعه معنًى يُعقل، وإنما أُمر أن يقول للكافرين: { يَا أَيُّهَا الْكَافِرُونَ. لاَ أَعْبُدُ مَا تَعْبُدُونَ. وَلاَ أَنْتُمْ عَابِدُونَ مَا أَعْبُدُ. وَلاَ أَنَا عَابِدٌ مَّا عَبَدتُّمْ} فهو بهذه الآيات يبرأن أن يكون متوَّجهًا بطاعته وخضوعه إلى ما يتوَّجهون له بالطاعة والخضوع، فهما ليسا سواءً، فهو يقيم وجهه بالطاعة والخضوع لله وحده سبحانه، وهم يتوّجهون إلى ما لا يعقل من أصنامهم وأوثانهم، وإن زعموا أنهم إنما يتوَّجهون إليها؛ ليتقربوا بها إلى الله، فأُمِر صلى الله عليه وسلم أن يقول لهم: لكم سيرتكم التي سرتم عليها في التوجه للأصنام مع زعمكم أنهما تقربكم إلى الله زلفى؛ ولي سيرتي في التوجه إلى الله سبحانه، فأنتم بريئون بشرككن مما أعبد، وأنا بريء مما تعبدون.
فالدين في هذا الموضع قريب المعنى من السيرة والطريق، وهو أخص في المعنى مما مضى كله، وكأنه معنًى رابع.
وإذن فلفظ الدين فيما نزل من القرآن بمكة لا يحتمل غير هذه المعاني، فلم يسمِّ الله تعالى شيئًا من عبادة المشركين وأهل الكتاب "دينًا" بالمعنى الجامع الذي أشرنا إليه، ولم يسمِّ "الإسلام" نفسه فيما نزل بمكة "دينًا" بهذا المعنى الجامع؛ لأن جميع شرائع الإسلام لم يتم نزولها وقضاؤها إلا في المدينة بعد زمان طويل ....
أما إذا جاء ذكر ما كان عليه أهل الكتاب وغيرهم من الأمم، فإن الله سبحانه لم يذكره حين ذكرهم بلفظ "الدين" بل بلفظ "الملة"، وذلك كالذي في سورة ص وذلك حين ذكر الذين كفروا وتعجبهم من أن يجيئهم منذر منهم وقالوا هذا ساحر كذاب، قال الله تعلى بعد ذلك، يذكر مقالة الكافرين: { أَجَعَلَ الآلِهَةَ إِلَهًا وَاحِدًا إِنَّ هَذَا لَشَيْءٌ عُجَابٌ.وَانطَلَقَ الْمَلأُ مِنْهُمْ أَنِ امْشُوا وَاصْبِرُوا عَلَى آلِهَتِكُمْ إِنَّ هَذَا لَشَيْءٌ يُرَادُ.مَا سَمِعْنَا بِهَذَا فِي الْمِلَّةِ الآَخِرَةِ إِنْ هَذَا إِلاَّ اخْتِلاَقٌ}، فالملة الآخرة في النصرانية وهي لا تأبى أن تجعل لله ولدًا...
وسمى الله تعالى ما كان عليه قوم شعيب من الشرك: ملة في سورة الأعراف، وكذلك سمى كل ضلالة كان عليها قوم: ملة، في سورة يوسف (37-3 وفي سورة الكهف (20) وفي سورة إبراهيم (13)، مما نزل بمكة، بل سمى الذي كان عليه إبراهيم وولده من الحق الذي لا اختلاف فيه ملة، كقوله في سورة يوسف: {إِنِّي تَرَكْتُ مِلَّةَ قَوْمٍ لاَّ يُؤْمِنُونَ بِاللهِ وَهُمْ بِالآَخِرَةِ هُمْ كَافِرُونَ .وَاتَّبَعْتُ مِلَّةَ آبَائِي إِبْرَاهِيمَ وَإِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ مَا كَانَ لَنَا أَن نُّشْرِكَ بِاللهِ مِن شَيْءٍ}...".
إلى أن قال في (ص550): "فصار بيِّنًا بعد هذا أن الله سبحانه لا يرضى لنا أن نسمي شيئًا من الملل: نصرانية ويهودية وغيرهما: "دينًا"، سوى ملة أبينا إبراهيم عليه السلام، وملة أنبيائه جميعًا، وهي "الإسلام" دين الله الذي لا يقبل من عباده دينًا سواه، والذي أرسل به رسوله محمدًا صلى الله عليه وسلم ليُبطل الملل كلَّها، ولا يكون شيء منها يسمَّى دينًا سوى الإٍسلام، وإذن فقول المسلم مثلاً: "الأديان السماوية، قول مخالف لعقيدة أهل الإسلام في حقيقة هذه الملل التي عليها الناس أحمرهم وأسودهم، فإن الله لم يرسل نبيًّا من أنبيائه بدين غير الإسلام، وكل ما خالف الإسلام من الملل: في عقائدها وعباداتها وآدابها وأصول تفكيرها ونظرها، فالمهيمن على صحته أو بطلانه: هو القرآن كتاب الله، والحديث: حديث رسول الله، والدين القيِّم هو ما جاء به رسول الله صلى الله عليه وسلم، وما كان عليه هو أصحابه والتابعون لهم بإحسان إلى يوم الدين، وكلُّ مَن فارق دينه الذي بُعث به صلى الله عليه وسلم من مشرك ووثني ويهودي ونصراني ومتحنِّف ومن ابتدع في الدين ما ضلَّ به عن الصراط المستقيم، فداخلٌ في قوله تعالى في سورة الأنعام: { إِنَّ الَّذِينَ فَرَّقُوا دِينَهُمْ وَكَانُوا شِيَعًا لَّسْتَ مِنْهُمْ فِي شَيْءٍ}".اهـ
قلت: فهذه الدعوة إلى الوطنية معلوم فشلها عند العقلاء، وليست هي الحل لغلو الخوارج، فمنذ أمد بعيد يعيش النصارى واليهود في بلاد المسلمين مصونة دماءهم وأموالهم دون هذه الشعارات الوطنية الكاذبة، بل كانوا في أمن وأمان أكثر بشهادة المنصفين منهم، وكان إنصاف حكَّام المسلمين معهم –كما أمر ربُّهم- سببًا في دخول العديد منهم في الإسلام.
فليست الوطنية هي الحل –كما يدَّعي العلمانيون-، بل إن الحلَّ الناجح هو تربية العامة على هذه النصوص الشرعية المشار إليها آنفًا؛ لأنها أوقع في النفوس من هذه الشعارت الغربية المحدثة، فإن المسلم يتأثر بهذه النصوص الشرعية ويلتزم بها تدينًا وخضوعًا لله عز وجل، لا يفعلها رياء ومداهنة للنصارى، فالذين يدَّعون أنهم إخوان للنصارى وأنه لا فرق بين مسلم ومسيحي –على حدِّ تعبيرهم-، يخدعون أنفسهم، ويعلمون أن الأغلبية العظمى من عامة المسلمين لا يرفعون رأسًا لكلامهم وشعاراتهم الكاذبة؛ فيسخرون منها، وبالتالي يظل أصل المرض موجودًا عند بعضهم، فلا يجد غضاضة بعد ذلك في المشاركة في التهجم على النصارى بالقتل أو الضرب والنهب إذا وجد فرصة؛ لأنه لا رادع شرعي يمنعه، فهو لم يقتنع بشعارات دعاة الوطنية ووحدة الأديان؛ لأنها تناقض فطرته.
وكنا نود من مشاهير القنوات الفضائية الذي استنكروا هذا الحادث المؤسف واستشهدوا بهذه النصوص، أن يردفوا هذا بتحذير عامة المسلمين من رءوس هذا المنهج الخارجي في زماننا، مِمَّن يغلب الظن أن يكونوا خلف هذه الجريمة، أعني: رأس تنظيم القاعدة: أسامة بن لادن، وساعده الأيمن: أيمن الظواهري المصري.
لكن للأسف بعض هؤلاء المشاهير ما زالت كلماتهم تتردد في آذان الشباب المخدوع في تزكية هذه الرموز الخارجية، كما وسم أحدهم –وهو الداعية محمد بن حسَّان-: أسامة بن لادن بـ: "البطل"، حيث قال في شريط له بعنوان "لك الله يا أفغانستان÷: "وأمريكا ما تدخلت الآن بذريعة القبض على أسامة أو قتل أسامة هذا البطل، أسأل الله أن يحفظه بحفظه وإخوانه جميعًا الذين ردوا شيئًا من الكرامة المسلوبة لهذه الأمة".
فكيف يقبل الشباب منهم استنكارهم لهذه الجريمة وفي الوقت نفسه هم يمدحون أربابها؟!
وفي الوقت نفسه يستنكر محمد بن حسَّان هذا التفجير الذي تَمَّ ليس لذاته، وإنما لوقوعه في بلاد الإسلام، أما أصل تفجير الشباب لأنفسهم بهذه الطريقة البشعة، فإنه يقره في بلاد الكفر، بل يدَّعي أن الذي يفتي بانتحار هؤلاء وعدم استشهادهم بأنه يكذب على الله سبحانه، كما قال في شريط: : "بشائر من القدس÷ المسجَّل بتاريخ (20/8/2003م)، وما زال على موقعه الرسمي على الإنترنت، حيث قال: "...ومع ذلك ترى ابنًا من أبنائنا، من أبناء الإسلام وأبناء المسلمين لم يبلغ الخامسة والعشرين من عمره، شايف الفخر والشرف!! يُقَدِّم نفسه لله، كذَّاب من يقول بأنه منتحر، والله يكذب على الله، أي انتحار؟!÷.
قلت: فهل الأئمة: الألباني وابن باز وابن عثيمين والفوزان والنجمي يكذبون على الله؟!!
أيها العقلاء: إن أرباب معاقل الشرك والوثنية المتمثلة في الأضرحة والمقامات، وأرباب الأهواء والبدع، وأرباب تجارة المسكرات والمخدرات، وأرباب الرشاوي والاختلاسات المالية، وأرباب الفجور والزنا، ونحوهم من أهل البغي والفساد أفسدوا الدين والدنيا، وبسببهم تُسلط الفتن علينا، كما قال سبحانه: {وَاتَّقُوا فِتْنَةً لاَ تُصِيبَنَّ الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْكُمْ خَاصَّةً وَاعْلَمُوا أَنَّ اللهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ}.
فإن لم يتكاتف العلماء والعقلاء وأهل الشوكة والسلطان لكبح جماح هذه الفئات، وردعها، فإن الأمر سيزداد سوءًا إلى سوء، وليس لنا إلا رحمة أرحم الراحمين، أن يسلِّمنا من هذه الشرور، وإن أراد بقومنا فتنة أن يقبضنا إليه غير مفتونين.
اللهم بلَّغت، اللهم فاشهد.
وصلِّ اللهم على محمد وعلى آله وأزواجه ومن اتبعه بإحسان إلى يوم الدين، وسلِّم تسليمًا كثيرًا.
وكتب
أبو عبد الأعلى خالد بن محمد بن عثمان
ليلة الجمعة الثالث من صفر 1432هـ
http://www.sahab.net/forums/showthread.php?t=385179