الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وعلى آله وصحبه ومن والاه
أما بعد :
فإننا في عصر العبث بالثوابت ، من قبل الأغرار والنوابت ، مما يدفع السني الغيور ، إلى وضع إصبعيه في أذنيه ، وإغماض عينيه .
من تلك الأصوات النشاز التي تنطلق هنا وهناك ، بالتزهيد في السنن النبوية ، فتارةً يجعلونها قشوراً ، وأخرى يقولون لا وقت للكلام بهذا ، وتارةً يقولون إن الله لن يسألك في قبرك عن كذا وكذا .
وقد علت هذه الأيام إلى عدٍ مزعج ، لا أجد بداً من فعلٍ للتخفيف من حدة تلك الأصوات المزعجة ، وقبل أن نقبل نصوص الوحيين لنقتبس شيئاً من نورها ، لنبدد ظلمات الجهل والفجور ننبه عدة تنبيهات .
التنبيه الأول : أن من السنن ما تركه [ أحياناً ] سنة إما لعدم مداومة النبي - صلى الله عليه وسلم عليه - وإما لاقترانه بمفسدة أعظم من فعل المصلحة المترتبة على فعل السنة كما في بناء على قواعد إبراهيم ، ولكنه منضبطٌ بضوابط لا يراعيها كثيرٌ متكلم هذا الباب .
وقد شرح هذا شرحاً وافياً العلامة ربيع المدخلي في ردوده على فالح الحربي في مسألة التنازل عن الواجبات .
التنبيه الثاني : أننا لا نعني بالسنن الإصطلاح الفقهي الذي يحصرها بـ[ المستحبات ] وإنما نعني الإصطلاح السلفي الواسع للفظة [ السنة ] ، إذا عرفت هذا فاعلم بأن المرء لا يلحقه الذم بترك المستحبات ابتداءً ولكن يلحقه الذم إذا زهد فيها أو أصر على تركها مع وجود القدرة وطول الزمان ولكن هذا الذم ليس كالذم الذي يلحقه بترك الواجبات ، ويلاحظ على بعض الإخوة أنه إذا بحث أمراً من السنة يريد معرفة ما إذا كان واجباً أو مستحباً فإنه بمجرد ن يثبت عنده الإستحباب ترك العمل بذلك وكأنه ترجح عنده تحريمه !
والله المستعان .
والآن مع النصوص :
النص الأول : قال تعالى :{ وَمِنَ الَّذِينَ قَالُوا إِنَّا نَصَارَى أَخَذْنَا مِيثَاقَهُمْ فَنَسُوا حَظًّا مِمَّا ذُكِّرُوا بِهِ فَأَغْرَيْنَا بَيْنَهُمُ الْعَدَاوَةَ وَالْبَغْضَاءَ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ وَسَوْفَ يُنَبِّئُهُمُ اللَّهُ بِمَا كَانُوا يَصْنَعُونَ }
قال شيخ الإسلام كما في مجموع الفتاوى [20/10] : "
{ وَمِنَ الَّذِينَ قَالُواْ إِنَّا نَصَارَى أَخَذْنَا مِيثَاقَهُمْ فَنَسُواْ حَظًّا مِّمَّا ذُكِّرُواْ بِهِ فَأَغْرَيْنَا بَيْنَهُمُ الْعَدَاوَةَ وَالْبَغْضَاء إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ } [المائدة: 14] فهذا نص في أنهم تركوا بعض ما أمروا به فكان تركه سببا لوقوع العداوة والبغضاء المحرمين وكان هذا دليلا على أن ترك الواجب يكون سببا لفعل المحرم كالعداوة والبغضاء والسبب أقوى من المسبب " .
أقول : فمن ترك السنن النبوية في الهدي الظاهر كإطلاق اللحية ، وتقصير الثياب وغيرها من السنن وأصر على ذلك ، فإنه تاركٌ لحظٍ مما ذكر به .
وأشد من هذا من زهد في هذه السنن ، فهذا الذي يوقع العداوة والبغضاء في الأمة .
وأعظم من ذلك ترك إنكار البدع ، فهذا هو الذي يحدث الفرقة في الأمة بنص الآية ، فإن البدع من عموم المنكرات التي يجب إنكارها ، بل هي من أعظم المنكرات ، وشرح قبحها في الشرع يطول ولا يخفى على عامة القراء إن شاء الله .
ويكفي من ذلك قول النبي صلى الله عليه وسلم :" وشر الأمور محدثاتها "
فالسكوت عن أهل الأهواء بحجة :" نتعاون فيما اتفقنا عليه ويعذ بعضنا بعضاً فيما اختلفنا فيه "
أو :" اختلافنا في غيرنا لا يوجب خلافاً بيننا "
هو الذي يحدث فرقةً وشتاتاً في الأمة ، على عكس ما يتصور واضعوا هذه القواعد الردية .
واعلم - رحمك الله - أنهم وسعوا في دعوى الإنكار في مسائل الخلاف ما لم يوسع الأوائل فنهوا عن الإنكار في مسائل كان ينكر فيها السلف الصالح فقال قائلهم :
:" لا إنكار في مسائل الخلاف " ، وأحسنهم طريقةً :" لا إنكار في مسائل الإجتهاد " .
وكلا العبارتين منتقدة عند أهل التحقيق .
قال العلامة عبد اللطيف آل الشيخ في كتابه النفيس [ إتمام المنة والنعمة في ذم اختلاف الأمة ص 56- 57]:
" ثم اعلم أن المحققين منعوا من قول : لا إنكار في مسائل الإجتهاد .
وأوردوا عن الصحابة فمن بعدهم ، من الأئمة وعلماء الأمة ، من الإنكار في مسائل الإجتهاد ما لا يمكن حصره .
قال شيخ الإسلام ، أبو العباس - رحمه الله - : قولهم : مسائل الإجتهاد لا إنكار فيها . ليس بصحيح ، فإن الإنكار إما أن يتوجه إلى القول بالحكم ، أو العمل . أما الأول : فإذا كان القول يخالف سنةً أو إجماعاً قديماً ، وجب إنكاره وفاقاً .
وإن لم يكن كذلك ، فإنه ينكر . بمعنى : بيان ضعفه عند من يقول : المصيب واحد . وهم عامة السلف والفقهاء .
وأما العمل إذا كان خلاف سنةٍ أو إجماع ، وجب إنكاره أيضاً : بحسب درجات الإنكار ، وكما ينقض حكم الحاكم إذا خالف السنة .
وأما إذا لم يكن في المسألة سنةٌ ولا إجماع ، وللإجتهاد فيها مساغ . فلا ينكر على من عمل بها مجتهداً أو مقلداً . انتهى[ الفتاوى (19/ 122) ]
وقال في الفروع : وفي كلام الإمام أحمد وبعض الأصحاب ما يدل على أنه إن ضعف الخلاف أنكر فيها ، وإلا فلا وللشافعية أيضاً خلاف ، ولهم وجهان في الإنكار على من كشف عن فخذيه .
وقال ابن هبيرة في قول حذيفة ، وقد رأى رجلاً لا يتم ركوعه ولا سجوده : ما صليت ، ولو مت على هذا مت على غير الفطرة التي فطر الله عليها محمداً صلى الله عليه وسلم ، : فيه أن إنكار المنكر في مثل هذا ، يغلظ له لفظ الإنكار . " انتهى كلام الشيخ عبد الطيف .
أقول : وعدم وجوب الطمأنينة في الصلاة مذهبٌ لجماعة من أهل الرأي وأئمة الفقه ، ومع ذلك فالإنكار على من فعل ذلك مشروع اقتداءً بحذيفة - رضي الله عنه -.
وقال شيخ الإسلام كما في [ الفتاوى الكبرى 2/367 ] :" فقد نقل ابن حزم في المحلي عن عطاء بن أبي رباح : أنه لا يجوز الصلاة في مسجد إلا على الأرض ، ولما قدم عبد الرحمن بن مهدي من العراق ، وفرش في المسجد .
أمر مالك بن أنس بحبسه تعزيرًا له ، حتى روجع في ذلك ، فذكر أن فعل هذا في مثل هذا المسجد بدعة يؤدب صاحبها.
وعلى الناس الإنكار على من يفعل ذلك ، والمنع منه ، لاسيما ولاة الأمر الذين لهم هنالك ولاية على المسجد، فإنه يتعين عليهم رفع هذه السجاجيد، ولو عوقب أصحابه بالصدقة بها، لكان هذا مما يسوغ في الاجتهاد ". انتهى
أقول : فانظر كيف أفتى مالك بسجن ابن مهدي في هذه المسألة ، والطريف أن عبد الرحمن بن مهدي مترجمٌ في طبقات المالكية وإن كانت هذه دعوى غير مسلمة أيضاً فقد زعم الشافعية أن شافعي لأنه سأل الشافعي تصنيف الرسالة ، وترجموا له في طبقات الحنابلة على أنه من شيوخ أحمد الذين رووا عنه ، وقد يكون على مذهب سفيان في الفقه لأنه كان لصيقاً به .
وقال أبو إسماعيل الهروي في ذم الكلام - كما في [ المنتقى لابن المقريء ص 885 ] : " أخبرنا محمد بن موسى حدثنا محمد بن يعقوب حدثنا عبد الله ابن أحمد بن حنبل سمعت أبي يقول قيل لابن أبي ذئب مالك بن أنس يقول ليس البيعان بالخيار ما لم يتفرقا فقال يستتاب مالك فإن تاب وإلا ضربت عنقه ."
وقال أيضاً : [886] " أخبرنا الحسن بن يحيى أخبرنا عبد الرحمن بن أحمد أخبرنا عبد الله بن محمد سمعت أحمد بن حنبل رحمه الله يقول : كان ابن أبي ذئب رجلا صالحا قوالا بالحق . "
وقال أيضاً : [886] " أخبرنا الحسن بن يحيى أخبرنا عبد الرحمن بن أحمد أخبرنا عبد الله بن محمد سمعت أحمد بن حنبل رحمه الله يقول : كان ابن أبي ذئب رجلا صالحا قوالا بالحق . "
أقول : وهذا وإن لم يوافق عليه ابن أبي ذئب إلى أنه يدل على أن الإنكار عندهم في هذه المسائل منتشر معروف .
ونقول للكرابيسيين ألستم تزعمون أن مشايخنا غلاة لأنهم يلزمون أسيادكم بأمور لا يصح الإلزام بها ، فهلا صنفتم ابن أبي ذئب غالياً ؟!
وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم :" إذا تبايعتم بالعينة و أخذتم أذناب البقر و رضيتم بالزرع و تركتم الجهاد سلط الله عليكم ذلا لا ينزعه حتى ترجعوا إلى دينكم "
رواه أبو داود [ رقم 3462 ] وصححه الألباني .
أقول : وبيع العينة جائزٌ في مذهب الشافعي ، فهل شعرت يا أخي أن ترك الإنكار في مسائل الخلاف قضاءٌ على الأمة بالذل ؟!
والسلف كانوا إذا انعدم الإنكار منهم في الخلاف لسبب ما ، فإنك لا تجدهم يحمدون الخلاف في نفسه ، كما قال ابن مسعود :" الخلاف شر " في خلافه مع عثمان .
رواه أبو داود [1960] وصححه الألباني .
وقال البغوي في [ الجعديات 1173 ] " - وبه - عن أيوب عن ابن سيرين عن عبيدة عن علي رضي الله عنه قال : اقضوا كما كنتم فإني أكره الخلاف حتى يكون للناس جماعة أو أموت كما مات أصحابي قال فكان ابن سيرين يرى عامة ما يروون على علي رضي الله عنه كذبا. "
أقول : فهذا ابن مسعود وهو أعلم صحابة رسول الله بكتاب الله وليس بخيرهم ، وعلي بن أبي طالب وهو أقضى الصحابة كلاهما كره الخلاف في مسائل تصنف تحت مسائل الخلاف السائغ الإجتهادي كمسألة إتمام الصلاة للمسافر غير الحال المرتحل ، وكلاهما كان قد تحمل أعباء الفقه والفتيا حتى صنف الشافعي كتاباً في ذكر خلافهما وما اتفقا عليه أكثر مما اختلفا عليه ، ومع كل هذا كرها الخلاف ، ولا ينبغي أن تعارض عبارات هؤلاء الأئمة بعبارات من هو دونهم وإن بلغ في العلم والفقه ما بلغ وإن كانت كثير من عبارات الأئمة فيها رفع الحرج في بعض الخلاف لا الثناء عليه .
وسر المسألة أن المجتهد قد يقول بقولٍ يكون هو مأجوراً في قوله هذا إذ لم يتحصل عنده في المسألة غير الذي بنى عليه حكمه ، ثم يأتي ويتابعه من وقف على أدلة لو وقف عليها المجتهد لما ساغ له القول بقوله ، فيكون الخلاف سائغاً مع شخص ، غير سائغ مع آخر .
والكلام في هذا الباب يطول ويحتاج إلى مزيد تحرير على قواعد السلف النيرة ، بعيداً عما أحدثه الإخوان المسلمون ومن تأثر بهم في هذا الباب .وسر المسألة أن المجتهد قد يقول بقولٍ يكون هو مأجوراً في قوله هذا إذ لم يتحصل عنده في المسألة غير الذي بنى عليه حكمه ، ثم يأتي ويتابعه من وقف على أدلة لو وقف عليها المجتهد لما ساغ له القول بقوله ، فيكون الخلاف سائغاً مع شخص ، غير سائغ مع آخر .
النص الثاني : قال النبي صلى الله عليه وسلم :"والله لتقيمن صفوفكم أو ليخالفن الله بين قلوبكم "
رواه أحمد [18453] وصححه ابن خزيمة والألباني .
هذه السنة يصنفها بعض الجهلة في [ القشور ] وهذه القشور [ بزعمهم ] جعلها الشارع سبباً في حصول الغاية المنشودة عندهم وهي وحدة الأمة ، غير أنهم يطلبون وحدةً كوحدة المغضوب عليهم .
{ تحسبهم جميعاً وقلوبهم شتى } ، وأما المحمودة شرعاً فهي وحدة القلوب الناشئة عن وحدة القلوب ، وقد دل هذا النص على هذا المعنى العظيم فجعل التصاق الأبدان وسيلة ، ووحدة القلوب الغاية ، والقاعدة المطردة أن الوسيلة لأسمى من الغاية .
النص الثالث : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " لا تزال أمتي بخير أو على الفطرة ما لم يؤخروا المغرب إلى أن تشتبك النجوم "
رواه أبو داود [ 403 ] وصححه الألباني .
فانظر رحمني الله وإياك كيف ربط النبي صلى الله عليه وسلم ، خيرية هذه الأمة بهذه السنة .
وهذا الحديث يشير إلى مخالفة الروافض الذين يؤخرون المغرب إلى اشتباك النجوم .
مما يدل على أن سنة التميز المفاصلة هي ركنٌ من أركان خيرية الأمة وقد سعى السلف إلى تطبيق هذه السنة سعياً حثيثاً ، فحكموا على المبتدع بالحكم الذي يستحقه .
ثم فرعوا على هذا الحكم مقتضيات المفاصلة من هجرٍ وتشهير وإذلال لأهل البدع وغيرها مما أجمعوا على أنه الأصل في التعامل مع أهل البدع .
بل إن ذلك واجبٌ ، قال شيخ الإسلام كما في [ مجموع الفتاوى 35/ 164] :" وتجب عقوبتهم جميعهم ، ومنعهم من هذا الشعار الملعون ، كما يجب ذلك في كل معلنٍ بدعة أو فجور " .
واليوم يراد الصد عن سنة [ المفاصلة ] بوسائل شتى ، فمن ذلك تنفير أهل السنة من الحكم على أهل البدع بما يستحقون ، بحجة أنك لن تسأل في قبرك عن هذا !
ويا ليت شعري ، القبر ما فيه من الغيب وباب الغيب توقيفي فلا يجوز فيه النفي أو الإثبات إلا بنص فكيف يجرؤ المختص بالعقيدة على النفي دون نص .
ثم إلا يوجد حساب إلا في القبر ؟ .
ثم هل يمكن لهذا المنكر أن يأتي بأدلة تفصيلية تبين أنك تسأل في قبرك عن دخول العمل في مسمى الإيمان وحكم الإستثناء فيه أو عن مسألة اللفظ أو عن السنن الرواتب وغيرها من المسائل التي يعتني بها المعترض
- ولا يذم بذلك بل يحمد -؟
ثم إن الحكم على المبتدع بما يستحق أمرٌ واجب على أهل العلم ، وينبغي على طلبة العلم متابعتهم ، فعقوبة المبتدع واجبةٌ كما تقدم عن شيخ الإسلام ولا تقع العقوبة إلا بالحكم عليه بالإبتداع ابتداءً وما لا يتم الواجب إلا به فهو واجب .
وقد ثبت في السنة أن المرء يعذب في قبره على النميمة ، أفلا أن يعذب على البدع ووسائلها من مخالطة أهلها ومناصرتهم أو حتى السكوت عنهم مع وجوب الكلام فيهم .
واعلم أن التحذير من المرء لا يلزم منه أن يكون مبتدعاً ، بل لو جالس المبتدعة فإنه يعاقب كما يعاقبون وإن لم يكن مظهراً لبدعتهم .
تعليق