بسم الله الرحمن الرحيم
أما بعد :
قال الله تعالى :وَاعْتَصِمُواْ بِحَبْلِ اللّهِ جَمِيعًا وَلاَ تَفَرَّقُواْ وَاذْكُرُواْ نِعْمَةَ اللّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ كُنتُمْ أَعْدَاء فَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِكُمْ فَأَصْبَحْتُم بِنِعْمَتِهِ إِخْوَانًا وَكُنتُمْ عَلَىَ شَفَا حُفْرَةٍ مِّنَ النَّارِ فَأَنقَذَكُم مِّنْهَا كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللّهُ لَكُمْ آيَاتِهِ لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ } (103) سورة آل عمران .
يأمر تعالى المؤمنين في هذه الآية المؤمنين بأن يعتصموا بحبل الله جميعا ، بعدما أمرهم في الآية التي قبلها باتقائه حق التقوى في قوله : {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ اتَّقُواْ اللّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلاَ تَمُوتُنَّ إِلاَّ وَأَنتُم مُّسْلِمُونَ } (102).
قال ابن كثير رحمه الله [ج2/ 86]: قال ابن أبي حاتم: حدثنا أحمد بن سِنان، حدثنا عبد الرحمن، عن سفيان وشُعْبَة، عن زُبَيْد الياميّ، عن مُرَّة، عن عبد الله -هو ابن مسعود-{ اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ } قال: أن يُطاع فلا يُعْصَى، وأن يُذْكَر فلا يُنْسَى، وأن يُشْكَر فلا يُكْفَر وهذا إسناد صحيح موقوف، [وقد تابع مرة عليه عمرو بن ميمون عن ابن مسعود ] . قلت: وقد رواه ابن مَرْدُويه من حديث يونس بن عبد الأعلى، عن ابن وَهْب، عن سفيان الثوري، عن زُبَيْد، عن مُرَّة، عن عبد الله قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " { اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ } أن يُطَاعَ فَلا يُعْصَى، وَيُشْكَرَ فَلا يُكْفَرَ، ويُذْكَر فَلا يُنْسَى". رواه الطبراني في المعجم الكبير (4/22، 23) من حديث أبي جمعة الأنصاري. وكذا رواه الحاكم ، من حديث مِسْعَر، عن زُبَيْد، عن مُرَّة، عن ابن مسعود، مرفوعا فذكره. ثم قال: صحيح على شرط الشيخين ولم يخرجاه. المستدرك (2/294).كذا قال. والأظهر أنه موقوف والله أعلم.
فإذا أطاعوه فلم يعصوه ، وشكروه فلم يكفروه ، وذكروه فلم ينسوه ، امتثلوا أمره بالاعتصام بحبله ، وعهده إليهم ،فلم يتفرقوا واستحضروا هذه النعمة العظيمة ، نعمة الإخاء التي ألف قلوبهم بها وجمعهم عليها بعد أن كانوا أعداء ألداء، فتركوا العداوة والبغضاء ، وانصاعوا للأمر والقضاء ، وانصهروا في بوتقة الحب في الله والإخاء، حتى صاروا إخوانا متحابين بجلال الله، متواصلين في ذات الله، متعاونين على البر والتقوى، قال الله تعالى: { هُوَ الَّذِي أَيَّدَكَ بِنَصْرِهِ وَبِالْمُؤْمِنِينَ وَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِهِمْ لَوْ أَنْفَقْتَ مَا فِي الأرْضِ جَمِيعًا مَا أَلَّفْتَ بَيْنَ قُلُوبِهِمْ وَلَكِنَّ اللَّهَ أَلَّفَ بَيْنَهُمْ [ إِنَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ] (5) } [الأنفال:62 ]
فتلاشت العداوة التي أشعل فتيلها الشيطان حتى يئس أن يعبد في أرضهم ...وضربوا أروع القصص في الأخوة وآدابها بينهم.
وقوله: { وَلا تَفَرَّقُوا } أمَرَهُم بالجماعة ونهاهم عن التفرقة، وقد وردت الأحاديثُ المتعددة بالنهي عن التفرق والأمر بالاجتماع والائتلاف كما في صحيح مسلم من حديث سُهَيل بن أبي صالح، عن أبيه، عن أبي هريرة؛ أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "إنَّ اللهَ يَرْضَى لَكُمْ ثَلاثًا، وَيَسْخَطُ لَكُمْ ثَلاثًا، يَرْضى لَكُمْ: أنْ تَعْبدُوهُ وَلا تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئًا، وأنْ تَعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللهِ جَمِيعًا وَلا تَفَرَّقُوا، وأنْ تُنَاصِحُوا مَنْ وَلاهُ اللهُ أمْرَكُمْ؛ وَيَسْخَطُ لَكُمْ ثَلاثًا: قيلَ وَقَالَ، وَكَثْرَةَ السُّؤَالِ، وإِضَاعَةَ الْمَالِ" صحيح مسلم برقم (1715).
وقد ضُمِنتْ لهم العِصْمةُ، عند اتفاقهم، من الخطأ، كما وردت بذلك الأحاديث المتعددة أيضًا، وخِيفَ عليهم الافتراق، والاختلاف، قال صلى الله عليه وسلم : <<.. تركت فيكم شيئين لن تضلوا بعدهما كتاب الله ، وسنتي ..>>رواه مالك [1395] والحاكم انظر له مشكاة المصابيح [47] والسلسلة الصحيحة [1761]وهو حدسث حسن . فالاعتصام بهما عصمة ونجاة .
قال الشيخ العلامة عبد الرحمن بن ناصر السعدي شيخ مشايخنا عند تفسير هذه الآية من سورة آل عمران : ثم أمرهم تعالى بما يعينهم على التقوى وهو الاجتماع والاعتصام بدين الله، وكون دعوى المؤمنين واحدة مؤتلفين غير مختلفين، فإن في اجتماع المسلمين على دينهم، وائتلاف قلوبهم يصلح دينهم وتصلح دنياهم وبالاجتماع يتمكنون من كل أمر من الأمور، ويحصل لهم من المصالح التي تتوقف على الائتلاف ما لا يمكن عدها، من التعاون على البر والتقوى، كما أن بالافتراق والتعادي يختل نظامهم وتنقطع روابطهم ويصير كل واحد يعمل ويسعى في شهوة نفسه، ولو أدى إلى الضرر العام، ثم ذكرهم تعالى نعمته وأمرهم بذكرها فقال: { واذكروا نعمة الله عليكم إذ كنتم أعداء } يقتل بعضكم بعضا، ويأخذ بعضكم مال بعض، حتى إن القبيلة يعادي بعضهم بعضا، وأهل البلد الواحد يقع بينهم التعادي والاقتتال، وكانوا في شر عظيم، وهذه حالة العرب قبل بعثة النبي صلى الله عليه وسلم فلما بعثه الله وآمنوا به واجتمعوا على الإسلام وتآلفت قلوبهم على الإيمان كانوا كالشخص الواحد، من تآلف قلوبهم وموالاة بعضهم لبعض، ولهذا قال: { فألف بين قلوبكم فأصبحتم بنعمته إخوانا وكنتم على شفا حفرة من النار } أي: قد استحقيتم النار ولم يبق بينكم وبينها إلا أن تموتوا فتدخلوها { فأنقذكم منها } بما مَنَّ عليكم من الإيمان ..اهـ
ولقد كانت هذه الأمة مرحومة في أول عهدها، جمعها الله على الهدى، وألف بين قلوب أفرادها، وحماها من الهوى، حيث استقامت على طاعة الله ورسوله صلى الله عليه وسلم، أولئك أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم لم يكونوا يعرفون غير اتباعه وتوقيره، واتباع النور الذي أنزل إليه، مستسلمين منقادين لما جاء به من الحق، لم يكن لهم قول مع قوله، ولا اعتراض على حكمه.
وهكذا سار على طريقهم وسلك سبيلهم أصحاب القرون المفضلة من التابعين، وأتباعهم من الأئمة المهديين رضي الله عنهم أجمعين .
ثم خلف من بعدهم خُلوف لم يقنعوا بوحي الله وشريعته، ورأوا أن هناك حاجة إلى التصحيح العقلي والتحريف ، والزيادة والحذف، فأعملوا العقول في الوحي المعصوم، واستدركوا على أحكام الحي القيوم، ففرقوا دينهم وكانوا شيعاً، بَأسهم بينهم شديد، فتشعّبت السبل بالناس، ووقع ما كان يخشاه النبيُّ صلى الله عليه وسلم على أمته من أئمة الضلالة ... فَوقعَ الاختلافُ والشّقاقُ وعَظُمَ في الأمة الإفتراقُ حتى تجاوزوا اليهودَ والنصارى، فأعرضَ أكثرُ الفرَق عن الكتاب والسنة، وضَرَبَ آخرُونَ آيات الله بَعضها ببعض، وجادلوا بالباطل ليُدحظُوا به الحقَّ، وزَينَ ذلك إبليسُ في أعينهم فرأوهُ حسنا، وحسبوه عَينَ العقل والإستقامة، ولم ينجُ من ذلك إلاَّ فرقةٌ واحدة، سلكت الصراط المستقيمَ، والمنهج القويمَ سبيلَ السلف الصالح، الذين رأوا أن النجاة في ركوب سفينة السنة مع الطائفة المنصورة والناجية وهم كما وصفهم النبيُّ صلى الله عليه وسلم بقوله ((مَن كان على ما أنا عليه وأصحابي)). جزء من حديث صحيح سيأتي .
ونهى الله هذه الأمة أن تسلك سبيل الأمم قبلها في تفريق كلمتهم والتحاسد فيما بينهم فقال : {وَلاَ تَكُونُواْ كَالَّذِينَ تَفَرَّقُواْ وَاخْتَلَفُواْ مِن بَعْدِ مَا جَاءهُمُ الْبَيِّنَاتُ وَأُوْلَئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ} (105) سورة آل عمران .
قال ابن كثير رحمه الله : ينهى هذه الأمة أن تكون كالأمم الماضية في تفرقهم واختلافهم، وتركهم الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر مع قيام الحجة عليهم.
وقد ذكر لنا سبحانه سبب اختلافهم فقال : {وَلَقَدْ بَوَّأْنَا بَنِي إِسْرَائِيلَ مُبَوَّأَ صِدْقٍ وَرَزَقْنَاهُم مِّنَ الطَّيِّبَاتِ فَمَا اخْتَلَفُواْ حَتَّى جَاءهُمُ الْعِلْمُ إِنَّ رَبَّكَ يَقْضِي بَيْنَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فِيمَا كَانُواْ فِيهِ يَخْتَلِفُونَ} (93) سورة يونس .
أي: ما اختلفوا في شيء من المسائل إلا من بعد ما جاءهم العلم، أي: ولم يكن لهم أن يختلفوا، وقد بين الله لهم وأزال عنهم اللبس. وقد ورد في الحديث: أن اليهود اختلفوا على إحدى وسبعين فرقة، وأن النصارى اختلفوا على اثنتين وسبعين فرقة، وستفترق هذه الأمة على ثلاث وسبعين فرقة، منها واحدة في الجنة، وثنتان وسبعون في النار. قيل: من هم يا رسول الله؟ قال: "ما أنا عليه وأصحابي".رواه الحاكم في مستدركه (1/129)بهذا اللفظ، وهو في السنن والمسانيد قال العراقي: "أسانيدها جياد". ولهذا قال الله تعالى: { إِنَّ رَبَّكَ يَقْضِي بَيْنَهُمْ } أي: يفصل بينهم { يَوْمَ الْقِيَامَةِ فِيمَا كَانُوا فِيهِ يَخْتَلِفُونَ }.
قلت : وسيقضي أيضا بين أهل السنة والجماعة وبين الفرق الضالة المبتدعة التي خالفت الفرقة الناجية وبغت عليها يوم القيامة كما يقضي بين أؤلئك ولاشك في ذلك ..وكذلك يقضي بيننا وبين إخواننا الذين بغوا علينا ..والموعد الله .
وقال تعالى : {وَآتَيْنَاهُم بَيِّنَاتٍ مِّنَ الْأَمْرِ فَمَا اخْتَلَفُوا إِلَّا مِن بَعْدِ مَا جَاءهُمْ الْعِلْمُ بَغْيًا بَيْنَهُمْ إِنَّ رَبَّكَ يَقْضِي بَيْنَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فِيمَا كَانُوا فِيهِ يَخْتَلِفُونَ } (17) سورة الجاثية.
قال الشيخ عبد الرحمن بن ناصر السعدي رحمه الله :{ فَمَا اخْتَلَفُوا إِلا مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَهُمُ الْعِلْمُ } أي: الموجب لعدم الاختلاف، وإنما حملهم على الاختلاف البغي من بعضهم على بعض والظلم.
قلت :فسبب الاختلاف هو البغي بعد العلم ؛ومجيء البينات الواضحات التي لاحجة لأحد في خلافها ،ومع ذلك اختلفوا عليها، وقال تعالى :{إِنَّ الدِّينَ عِندَ اللّهِ الإِسْلاَمُ وَمَا اخْتَلَفَ الَّذِينَ أُوْتُواْ الْكِتَابَ إِلاَّ مِن بَعْدِ مَا جَاءهُمُ الْعِلْمُ بَغْيًا بَيْنَهُمْ ...} (19) سورة آل عمران.
قال ابن كثير رحمه الله : أي: بغى بعضهم على بعض، فاختلفوا في الحق لتحاسدهم وتباغضهم وتدابرهم، فحمل بعضهم بُغْض البَعْض الآخر على مخالفته في جميع أقواله وأفعاله، وإن كانت حقا.
قلت: وهذه هي نفس الأسباب في اختلاف هؤلاء الفرق على الفرقة الناجية ، البغي والحسد والبغضاء داء الأمم الذي دب فينا كما أخبر به صلى الله عليه وسلم : << .. دب إليك داء الأمم قبلكم الحسد والبغضاء ؛ الحالقة ؛ لا أقول تحلق الشعر وإنما تحلق الدين ..>> رواه ابو داود وهو حديث صحيح .
وقال سبحانه {وَمَا تَفَرَّقُوا إِلَّا مِن بَعْدِ مَا جَاءهُمُ الْعِلْمُ بَغْيًا بَيْنَهُمْ ..} (14) سورة الشورى.
قال البغوي عند تفسير هذه الآية : { وَمَا تَفَرَّقُوا } يعني أهل الأديان المختلفة، وقال ابن عباس رضي الله عنهما: يعني أهل الكتاب كما ذكر في سورة المنفكين. { إِلا مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَهُمُ الْعِلْمُ } بأن الفرقة ضلالة ولكنهم فعلوا ذلك، { بَغْيًا بَيْنَهُمْ } أي: للبغي، قال عطاء: يعني بغيًا بينهم على محمد صلى الله عليه وسلم .
قال ابن كثير في آية آل عمران : وقد وقع ذلك في هذه الأمة فافترقوا على ثلاث وسبعين فرقة، منها فرقة ناجية إلى الجنة ومُسَلمة من عذاب النار، وهم الذين على ما كان عليه رسولُ الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه.
قلت : وما تفرقوا إلا من بعد ماجاءتم البينات بغيا بينهم على محمد فمن مؤمن وكافر ، ومن هذه الأمة أيضا اختلفوا عليه وتفرقوا وقد ركبوا سَنَنَ الذين من قبلهم ، فمن متبع منقاذ، ومنهم باغ مبتدع ضال ، فقد بغت الخوارج ، والقدرية ، والمرجئة والجبرية والشيعة ، والمعتزلة والجهمية والصوفية وغيرهم في القديم ، وهذه الهجرة والتكفير من خوارج خارجة وقعدية من قطبين وتحريريين حرورية وانقاذ جزائرية وإخوان مصرية وأجزاب من كل الطوائف ، وغيرهم من أفراخ تلك الفرق التي فارقت الوحي وخالفت أهل الحق ، والتاريخ يعيد نفسه ، ولايظنن ظان أنها انقرضت وذهبت بل هاهي جميع تلك الفرق الثلاث والسبعين ، تسعى بالبغي والبدعة والضلال على أهل الحق ، أتباع الفرقة الناجية والطائفة المنصورة الرضية .
وبعد هذه المقدمة المُلمة ، والكلمة الُمفهمة لتفرق الأمة ؛ يأتي السؤال الذي عنونا به هذا المقال : وهو هل الفرقة الناجية معصومة من الاختلاف ؟
وقبل الجواب عليه لا بد من معرفة أنواع الخلاف باختصار ، فأقول : المعروف عند العلماء أن الخلاف على نوعين ، خلاف تنوع ، وخلاف تضاد ، وهذا الأخير كله شر وكذلك خلاف التنوع فهو على نوعين الأول ما أدى إلى التضاد فهو شر كالقسم الثاني من التقسيم الأول، وهو الذي جاءت النصوص تترا في التحذير منه ، أما النوع الثاني من اختلاف التنوع فهو اختلاف التنوع المستساغ الذي يكون عن اجتهاد ،ولا يفسد للود قضية فهذا ليس من قبيل ما نحن بصدده ، فهو واقع حتى عند الفرقة الناجية وغير مذموم، أما في الأصول فإن الصحابة رضوان الله عليهم لم يختلفوا فيما بينهم ، بل كانوا على منهج واحد واضح وعقيدة صحيحة سليمة صريحة وكذلك التابعون لهم بإحسان ، وهم الفرقة الناجية والطائفة المنصورة الرضية .
قال تعالى : {مُّحَمَّدٌ رَّسُولُ اللَّهِ وَالَّذِينَ مَعَهُ أَشِدَّاء عَلَى الْكُفَّارِ رُحَمَاء بَيْنَهُمْ ..} (29) سورة الفتح .
فقوله {رُحَمَاءُ بَيْنَهُمْ } أي: متحابون متراحمون متعاطفون، كالجسد الواحد، يحب أحدهم لأخيه ما يحب لنفسه، هذه معاملتهم مع بعضهم البعض.
وقد وصفهم رسول الله صلى الله عليه وسلم بقوله : << مثل المؤمنين في توادهم وتراحمهم كمثل الجسد الواحد، إذا اشتكى منه عضو تداعى له سائر الجسد بالحمَّى والسَّهر>> متفق عليه ، وقال: << المؤمن للمؤمن كالبنيان يشد بعضه بعضا" وشبك بين أصابعه >> (2) البخاري برقم (481) رواه ومسلم في برقم (2585) من حديث أبي موسى .
قلت: هذه أوصافهم رضي الله عنهم مع تزكية الله لهم وثنائه عليه ، وهم أحق بكل فضيلة ومزية ثبت لهذه الأمة ، فكيف إذا ذكره بالرسالة وجعلهم معه وهو خير مرسول رحماء بينهم ، وهذه شهادة من الله ، على صفاء القلوب لبعضها البعض ، وتواددها وتراحمها ، فكيف يقال أنهم اختلفوا عليه وتفرقوا عنه قصدا وديانة وهم كما علمت؟
قال أبو العباس أحمد بن علي المقريزي رحمه الله في كتابه المواعظ والاعتبار بذكر الخطط والآثار [ج2/356] :" ذكر الحال في عقائد أهل الإسلام منذ ابتداء الملة الإسلامية إلى أن انتشر مذهب الأشعري" أنهم كانوا على عقيدة واحدة ، ومنهج واحد ، ثم سرد رحمه الله الأدلة على الاتفاق الذي كانوا عليه في الإيمان ، والتوحيد والفهم الصحيح لذلك .
وأسند اللالكائي عن محمد بن الحسن الشيباني قال : اتفق العلماء من المشرق والمغرب على الإيمان بالقرآن وبالأحاديث التي جاء بها الثقات عن رسول الله في الإيمان بصفات الباري سبحانه من غير تشبيه ولا تفسير ، فمن فسر منها شيئا وقال بقول جهم فقد حرج عما كان عليه النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه وفارق الجماعة .
وكذلك نقل الاتفاق ابن عبد البر رحمه الله في التمهيد في أكثر من موطن ، وغيره من العلماء رحمهم الله .ويؤيده قوله تعالى : {{ وَلَوْ شَاءَ رَبُّكَ لَجَعَلَ النَّاسَ أُمَّةً وَاحِدَةً وَلَا يَزَالُونَ مُخْتَلِفِينَ (11 إِلَّا مَنْ رَحِمَ رَبُّكَ وَلِذَلِكَ خَلَقَهُمْ ...}}(119) قال ابن كثير رحمه الله أي: ولا يزال الخُلْفُ بين الناس في أديانهم واعتقادات مللهم ونحلهم ومذاهبهم وآرائهم.
قلت : فالاستثناء في الآية لمن رحمهم الله من اتباع الرسل . قال ابن كثير : أي: إلا المرحومين من أتباع الرسل، الذين تمسكوا بما أمروا به من الدين الذي أخبرتهم به رسل الله إليهم، ولم يزل ذلك دأبهم، حتى كان النبي صلى الله عليه وسلم الأمي خاتم الرسل والأنبياء، فاتبعوه وصدقوه، ونصروه ووازروه، ففازوا بسعادة الدنيا والآخرة؛ لأنهم الفرقة الناجية،كما جاء في الحديث :<< ما أنا عليه وأصحابي >> .
فهؤلاء هم المرحومون استثناهم الله تعالى من الاختلاف كما استثناتهم رسوله صلى الله عليه وسلم من الفرق في قوله : :<< إلا واحدة ..>> وفي قوله صلى الله عبيه وسلم : <<.. ولا تزال طائفة من أمتي ظاهرين على الحق ...>>
ولا شك أن ظهورها على الحق بسبب تمسكها به متحدة غير مختلفة عليه ، أهل جماعة وليس أهل فرقة كما قال قتادة رحمه الله في الآية : وقال قتادة: أهلُ رحمة الله أهل الجماعة، وإن تفرقت ديارهم وأبدانهم، وأهل معصيته أهل فرقة، وإن اجتمعت ديارهم وأبدانهم.ذكره ابن كثير رحمه الله .
وهذا صحيح فهم النزاع من القبائل الذين اجتمعت قلوبهم على توحيد الله تعالى واتباع رسوله صلى الله عليه وسلم ، قبل أن تجتمع أبدانهم .
وقوله: { وَلِذَلِكَ خَلَقَهُمْ } قيل:للاختلاف ، وقيل للرحمة خلقهم. قال ابن وهب: أخبرني مسلم بن خالد، عن ابن أبي نَجِيح، عن طاوس؛ أن رجلين اختصما إليه فأكثرا (4) فقال طاوس: اختلفتما فأكثرتما, فقال أحد الرجلين: لذلك خلقنا. فقال طاوس: كذبت. فقال: أليس الله يقول: { وَلا يَزَالُونَ مُخْتَلِفِينَ إِلا مَنْ رَحِمَ رَبُّكَ وَلِذَلِكَ خَلَقَهُمْ } قال: لم يخلقهم ليختلفوا، ولكن خلقهم للجماعة والرحمة. كما قال الحكم بن أبان، عن عِكْرِمة، عن ابن عباس قال: للرحمة خلقهم ولم يخلقهم للعذاب. وكذا قال مجاهد والضحاك وقتادة.تفسير ابن كثير رحمه الله .
قلت : وبهذا يصح عود الضمير في قوله : {{ لذلك خلقهم }} إلى أقرب مذكور وهو الرحمة ، فالجماعة رحمة ، والفرقة عذاب ، وبذلك فسر النبي الفرقة الناجية فقال : هي الجماعة . وقد نصر هذا ابن حزم رحمه الله في كتابه الإحكام في أصول الأحكام.
، والشيخ عبد الرحمن بن ناصر السعدي في تفسيره عند هذه الآية .
أما بعد ظهور قرن الفتنة وظهور الفرق الضالة المبتدعة فقد حصل الخلاف والاختلاف والتفرق والشقاق ، كما أخبر صلى الله عليه وسلم :<<.. فإنه من يعش منكم بعدي فسيرى اختلافا كثيرا فعليكم بسنتي وسنة الخلفاء المهديين الراشدين تمسكوا بها وعضوا عليها بالنواجد وإياكم ومحدثات الأمور ...>> أبو داود [4607] والترمذي [2676]وقال حديث حسن صحيح ، وغيرهما وهذا لفظ أبي داود .
فالخلاف كله شر ، ولاينبغي التعويل على ما اشتهر على السنة الناس في قول بعض الفقهاء ، ومن يشتغل بالدعوة من دعاة الحزبيين وهم ينسبونه إلى النبي صلى الله عليه وسلم : << اختلاف أمتي رحمة >> فهذا من حيث الصناعة الحديثية لا أصل له ، انظر له السلسلة الضيعفة لشيخنا الألباني رحمه الله [برقم 57][ج1/ 76] فقد قال فيه : ولقد جهد المحدثون في أن يقفوا له على سند فلم يوفقوا .
وبعد ذكره لبعض أقوال العلماء حوله قال : ثم إن معنى هذا الحديث مستنكر عند المحققين من العلماء ،فقال ابن حزم رحمه الله في كتابه الإحكام [5/ 64] بعد أن أشار إلى أنه ليس بحديث :وهذا من أفسد قول يكون لأنه لو كان الاختلاف رحمة لكان الاتفاق سخطا .
إلى أن قال بعد كلام طويل جميل في ذم الاختلاف، وهنا قد يرد سؤال وهو :إن الصحابة اختلفوا وهم أفاضل الناس أفيلحقهم الذم المذكور ؟
قد أجاب عنه ابن حزم رحمه الله تعالى فقال:[67 – 68] :
كلا ما يلحق أؤلئك شيء من هذا ؛ لأن كل امريء منهم تحرى سبيل الله ، ووجهته الحق فالمخطيء منهم مأجور أجرا واحدا ؛ لنيته الجميلة في إرادة الخير ، وقد رفع عنهم الإثم في خطئهم ؛ لأنهم لم يتعمدوه ، ولا قصدوا ، ولا استهانوا بطلبهم ، والمصيب منهم مأجور أجرين وهكذا كل مسلم إلى يوم القيامة فيما خفي عليه من الدين ولم يبلغه ، وإنما الذم المذكور والوعيد المنصوص لمن ترك التعلق بحبل الله – تعالى – وهو القرآن ، وكلام النبي صلى الله عليه وسلم بعد بلوغ النص إليه ، وقيام الحجة به عليه ، وتعلق بفلان وفلان ، مقلدا عامدا للاختلاف ، داعيا إلى عصبية وحمية الجاهلية قاصدا للفرقة ، متحريا في دعواه برد القرآن والسنة إليها ؛ فإن وافقها النص أخذ بها وإن خالفها تعلق بجاهليته ، وترك القرآن وكلام النبي صلى الله عليه وسلم وسنته فهؤلاء هم المختلفون المذمومون .
قلت : إذا كان يقصد بالسؤال اختلافهم في الأصول الإيمان والعقائد فهذا بعيد ، وليس عليه أي دليل ، بل كانوا على قلب رجل واحد ومنهج سبيل المؤمنين ، أما إن كان يقصد الاختلاف في الفروع فهنا يأتي جواب ابن حزم رحمه الله .
وللشيخ صالح المقبلي في هذا الباب كلام جميل يرد به على من زعم أن جملة :<<..كلها في النار إلا ملة واحدة ..>> لاتصح في كتابه : " العلم الشماخ في إيثار الحق على الأباء والمشايخ [ص 414] جاء فيه :
ومن المعلوم أن ليس المراد من الفرقة الناجية أن لايقع منها أدنى اختلاف ؛ فإن ذلك قد كان في فضلاء الصحابة ، إنما الكلام في مخالفة تصيّر صاحبها فرقة مستقلة ابتدعها – تعرف به ، أو تنسب إليه – وإذا حققت ذلك فهذه البدع الواقعة في مهمات المسائل ؛ وفيما يترتب عليه عظائم المفاسد ، لاتكاد تنحصر ، ولكنها لم تخص معينا من هذه الفرق التي قد تحزبت والتأم بعضهم إلى قوم وخالف آخرون بحسب مسائل عديدة .
إن الناس عامة وخاصة ، فالعامة آخرهم كأولهم ؛ كالنساء والعبيد والفلاحين والسوقة ونحوهم ممن ليس من أمر الخاصة في شيء ؛ فلا شك في براءة آخرهم من الابتداع كأولهم.
أما الخاصة ؛ فمنهم مبتدع اخترع البدعة وجعلها نصب عينيه ، وبلغ في تقويتها كل مبلغ ، وجعلها أصلا يرد إليها صرائح الكتاب والسنة ، ثم تبعه أقوام من نمطه في الفقه والتعصب وربما جددوا بدعته وفرعوا عليها وحمّلوه ما لم يتحمّله ، ولكنه إمامهم المقدم ، وهؤلاء هم المبتدعة حقا ، وهو شيء كبير :{{ تكاد السموات يتفطرن منه وتنشق الأرض وتخر الجبال هدا }} كنفي حكمة الله - تعالى – ونفي إقداره المكلف ،وككونه يكلف مالا يطاق ، ويفعل سائر القبائح ولا تقبح منه ، وأخواتهن ، ومنها ماهو دون ذلك ، وحقائقها جميعا عند الله -تعالى –ولا ندري بأيها يصير صاحبها من إحدى الثلاث وسبعين فرقة .
ومن الناس [أي القسم الثاني من الخاصة ] من تبع هؤلاء وناصرهم وقوّي سوادهم بالتدريس والتصنيف ، ولكنه عند نفسه راجع إلى الحق ، وقد دسّ في تلك الأبحاث نقوضها في مواضع ، لكن على وجه خفي ؛ ولعله تخيل مصلحة دنيئة ، أو عظم عليه انحطاط نفسه وإيذاؤهم له في عرضه ، وربما بلغت الأذية إلى نفسه ، وعلى الجملة فالرجل قد عرف الحق من الباطل ، وتخبط في تصرفاته ، وحسابه على الله – سبحانه – إما أن يحشره مع من أحب بظاهر حاله ، أو يقبل عذره ، وما تكاد تجد أحدا من هؤلاء النظار إلا قد فعل ذلك ،، ولكن شرهم-والله - كثير ، فلربما لم يقع خبرهم بمكان ، وذلك لأنه لا يفطن لتلك اللمحة الخفية التي دسوها إلا الأذكياء والمحيطون بالبحث ، وقد أغناهم الله بعلمهم عن تلك اللمحة وليس بكبير فائدة أن يعلموا أن الرجل كان يعلم الحق ويخفيه . والله المستعان .
ومن الناس من ليس من أهل التحقيق ، ولا هُيء للهجوم على الحقائق ، وقد تدرب في كلام الناس ، وعرف أوائل الأبحاث ، وحفظ كثيرا من غثاء ما حصلوه ، ولكن أرواح الأبحاث بينه وبينها حائل ، وقد يكون ذلك لقصور الهمة والاكتفاء والرضى عن السلف لوقعهم في النفوس ، وهؤلاء هم الأكثرون عددا ، والراذلون قدرا ؛ فإنهم لم يحظوا بخصيصة الخاصة ، ولا أدركوا سلامة العامة ، فالقسم الأول من الخاصة مبتدعة قطعا ، والثاني ظاهره الابتداع ، والثالث له حكم الابتداع .
ومن الخاصة قسم رابع ، ثلة من الأولين وقليل من الآخرين أقبلوا على الكتاب والسنة ، وساروا بسيرها ، وسكتوا عما سكتا عنه ، وأقدموا وأحجموا بهما ، وتركوا تكلف ما لا يعنيهم ؛ وكان تهمهم السلامة ، وحياة السنة آثر عندهم من حياة نفوسهم وقرة ما عند أحدعم تلاوة كتاب الله –تعالى – وفهم معانيه على السليقة العربية والتفسيرات السلفية المروية ومعرفة ثبوت الحديث النبوي لفظا وحكما دراية ورواية ؛ فهؤلاء هم أهل السنة حقا ، وهم الفرقة الناجية صدقا ، وإليهم العامة بأسرهم النسبة تحقيقا .
فهم الذين ورثوا بالكتاب وبه يمسكون .
نسأل الله تعالى أن يوفقنا للتمسك بكتابه واتباع سنة نبيه بفهم بفهم من رضي عنهم ورضوا عنه إنه ولي ذلك والقادر عليه .
وكتب :
أبو بكر يوسف لعويسي
الجزائر 07/ 07/ 2010م
الموافق ل / 25/ 07 / 1431 هـ
تعليق