السلام عليكم ورحمة الله وبركاته
والحمد لله والصلاة والسلام على أشرف المرسلين سيدنا محمد .. وعلى آل بيته الطيبين الطاهرين .. وعلى أصحابه الغر الميامين
أما بعد ,
فقد ذكر الإمام البربهاري - رحمه الله - في كتابه " شرح السنة " :
( وإذا رأيت الرجل يجلس مع أهل الأهواء فاحذره, وعرفه, فإن جلس معه بعدما علم فَاتَّقِهِ, فإنه صاحب هوى ) .
قال فضيلة الشيخ العلامة أحمد بن يحيى النجمي - رحمه الله - في كتابه " إرشاد الساري في شرح السنة للبربهاري " :
قوله هنا : (فاحذره واعرفه) بهذه الصيغة فيما أرى أنه خطأ, لأن قوله : (فإن جلس معه بعدما علم فاتقه) دليل على أن الصيغة الصحيحة : فحذِّره وعرِّفه, أي : فحذِّره منهم وعرِّفه بهم وببدعهم التي هم واقعون بها .
قوله : (فإن جلس معهم بعدما علم فاتقه, فإنه صاحب هوى) أي صاحب بدعة, وصاحب البدعة لا حيلة فيه إلا اجتنابه والبعد عنه . اهـ
وقال فضيلة الشيخ العلامة صالح بن فوزان الفوزان - حفظه الله - في شرحه لكتاب شرح السنة للإمام البربهاري :
(أهل الأهواء): هم الذين يتبعون أهواءهم ونزعاتهم, ولا يتبعون الكتاب والسنة, وإنما يتبعون ما تهواه أنفسهم, فإذا خالف الكتاب والسنة أهواءهم, وتركوا الكتاب والسنة, وما وافق أهواءهم أخذوه لا عن إيمان به, ولكن لأنه وافق أهواءهم, وهذه طريقة اليهود, فإن اليهود إنما يطيعون الرسل فيما وافق أهواءهم, وما خالف أهواءهم خالفوا الرسل فيه, فإما أن يقتلوهم, وإما أن يكذبوهم؛ كما قال الله تعالى: { كُلَّمَا جَاءَهُمْ رَسُولٌ بِمَا لَا تَهْوَى أَنْفُسُهُمْ فَرِيقًا كَذَّبُوا وَفَرِيقًا يَقْتُلُونَ } [المائدة : 70], وقال في المنافقين من هذه الأمة: { وَإِذَا دُعُوا إِلَى اللَّهِ وَرَسُولِهِ لِيَحْكُمَ بَيْنَهُمْ إِذَا فَرِيقٌ مِنْهُمْ مُعْرِضُونَ (4 وَإِنْ يَكُنْ لَهُمُ الْحَقُّ يَأْتُوا إِلَيْهِ مُذْعِنِينَ } [النور : 48-49], هذه طريقة أهل الأهواء قديماً وحديثاً, فالمقياس للحق عندهم هو ما وافق أهواءهم, وما خالف أهواءهم فهو الباطل, ولو نزل به جبريل على محمد فإنه عندهم الباطل, هذه طريقتهم, وهذا ما عليه فِرَق الضلال من هذه الأمة, فإنهم لا يقبلون ما جاء عن الرسول صلى الله عليه وسلم, بل لا يقبلون ما جاء في القرآن, ولا يقبلون ما جاء في السُّنَّة مما يخالف نِحَلَهُمْ وأهواءهم, فإما أن يُؤَوِّلُوُه ويحرفوه, وإما أن يكذبوه, هذه طريقتهم, يقول المؤلف رحمه الله فاحذر هؤلاء أن تجلس معهم؛ لأنهم يؤثرون فيك, وربما تقتنع بطريقتهم فتكون معهم, فابتعد عنهم ولا تجالس أهل البدع, سواء كانت بِدَعاً في الاعتقاد؛ كالجهمية والمعتزلة وغيرهم من أهل البدع, أو بِدَعاً في العبادة؛ كالذين يعبدون الله على جهل وضلال, ويتزهدون ويتعبدون, ولكنهم على غير دليل, وعلى غير هدى, وهذا ينطبق على الصوفية ومن وافقهم, ممن هم مبتدعة في العبادة, أو كانت بدعتهم فيما هو دون ذلك, والبدع تختلف, وكلها شر لا يُتَسَاهلُ فيها, ولا يقال: هذه بدعة يسيرة؛ لأنها كالشرارة من النار, إذا تُركَتْ أحرقت ما حولها, وإذا بودرت وأُطفئت سَلِمَ الناس من شرها, البدع هكذا, فعلى المسلمين أن يحذروا من المبتدعة ولا يحسنوا بهم الظن, أو يغتروا بما يظهر منهم من بعض المظاهر, ويقولون: هؤلاء أهل عبادة, هؤلاء أهل توبة, هؤلاء يُرَقِّقُونَ القلوب, هؤلاء أهل الذكر هؤلاء يُتَوِّبُونَ العصاة, كما يقال في جماعة التبليغ, ما داموا مبتدعة صوفية فلا تغتر بهم.
قوله: (وإذا رأيت الرجل يجلس مع أهل الأهواء فاحذره) إذا رأيت الرجل يجلس مع المبتدعة فاحذره, لأن جلوسه معهم دليل على أنه يحبهم ويَأْلَفُهُمْ وربما أثروا فيه, والمرء من جليسه فالذي يجالس أهل الخير فهذا دليل على أنه يحب الخير وأهله, والذي يجالس أهل الشر هذا دليل على أنه يِأْلَفُ الشر ويحب أهله, والله - جل وعلا - يقول: { وَإِذَا رَأَيْتَ الَّذِينَ يَخُوضُونَ فِي آَيَاتِنَا فَأَعْرِضْ عَنْهُمْ حَتَّى يَخُوضُوا فِي حَدِيثٍ غَيْرِهِ وَإِمَّا يُنْسِيَنَّكَ الشَّيْطَانُ فَلَا تَقْعُدْ بَعْدَ الذِّكْرَى مَعَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ } [الأنعام : 68], وقال تعالى: { وَقَدْ نَزَّلَ عَلَيْكُمْ فِي الْكِتَابِ أَنْ إِذَا سَمِعْتُمْ آَيَاتِ اللَّهِ يُكْفَرُ بِهَا وَيُسْتَهْزَأُ بِهَا فَلَا تَقْعُدُوا مَعَهُمْ حَتَّى يَخُوضُوا فِي حَدِيثٍ غَيْرِهِ إِنَّكُمْ إِذًا مِثْلُهُمْ } [النساء : 140], وأمر نبيه أن يجلس مع أهل الخير فقال تعالى: { وَاصْبِرْ نَفْسَكَ مَعَ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ بِالْغَدَاةِ وَالْعَشِيِّ يُرِيدُونَ وَجْهَهُ وَلَا تَعْدُ عَيْنَاكَ عَنْهُمْ تُرِيدُ زِينَةَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا } [الكهف : 28], فأمره الله أن يجلس مع بلال وعمار وسلمان فقراء الصحابة ولا يجلس مع أكابر قريش وغيرهم, كان صلى الله عليه وسلم يجلس معهم طمعاً في إيمانهم وتأليفهم, ولكن الله نهاه عن ذلك؛ لأنهم قالوا: اطْرُد عنا هؤلاء حتى نجلس ونسمع لك. والنبي صلى الله عليه وسلم من حرصه على الخير هَمَّ أن يجعل لهؤلاء الضعفاء مجلساً آخر, استجابة لطلب الأكابر من قريش طمعاً في إسلامهم, فنهاه الله عن ذلك قبل أن يُنَفِّذَهُ, وقال: { وَلَا تُطِعْ مَنْ أَغْفَلْنَا قَلْبَهُ عَنْ ذِكْرِنَا وَاتَّبَعَ هَوَاهُ وَكَانَ أَمْرُهُ فُرُطًا } [الكهف : 28] لأن الله يعلم أن هؤلاء لا يقبلون ولا يؤمنون, فقال له: { وَلَا تَطْرُدِ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ بِالْغَدَاةِ وَالْعَشِيِّ يُرِيدُونَ وَجْهَهُ مَا عَلَيْكَ مِنْ حِسَابِهِمْ مِنْ شَيْءٍ وَمَا مِنْ حِسَابِكَ عَلَيْهِمْ مِنْ شَيْءٍ فَتَطْرُدَهُمْ فَتَكُونَ مِنَ الظَّالِمِينَ } [الأنعام : 52].
وقوله: (وَعرِّفْهُ, فإن جلس معه بعدما علم فَاتَّقِهِ, فإنه صاحب هوى) معناه أنك تناصحه البعد عن مجالسة أهل الشر, فإن لم يقبل النصح فاعتزله؛ لأنه جلس مع صاحب البدعة عن علم, لا عن جهل. اهـ
وعلق أبو محمد عبد الله بن محمد بن سعيد رسلان في كتابه " إتحاف القاري بترتيب وتهذيب شرح السنة للبربهاري " :
قال أبو داود السجستاني: (( قلت لأبي عبد الله أحمد بن حنبل: أرى رجلاً من أهل البيت مع رجل من أهل البدع, أترك كلامه؟ قال: لا, أو تُعلِمه أن الذي رأيته معه صاحب بدعة, فإن ترك كلامه وإلا فألحقه به, قال ابن مسعود (المرء بخدنه) ))؛ أي: بصاحبه.
أخرجه ابن أبي يعلى في ((طبقات الحنابلة)) (1/160) بإسناد صحيح.
وأورده ابن مفلح في ((الآداب الشرعية)) (1/263).
وقال ابن عون رحمه الله: ((من يجالس أهل البدع أشد علينا من أهل البدع)).
أخرجه ابن بطة في ((الإبانة الكبرى)) (486).
أخرجه ابن أبي يعلى في ((طبقات الحنابلة)) (1/160) بإسناد صحيح.
وأورده ابن مفلح في ((الآداب الشرعية)) (1/263).
وقال ابن عون رحمه الله: ((من يجالس أهل البدع أشد علينا من أهل البدع)).
أخرجه ابن بطة في ((الإبانة الكبرى)) (486).
وجاء في ((طبقات الحنابلة)) لابن أبي يعلى (1/233-234), في ترجمة علي بن أبي خالد: ((قال -يعني: علي بن أبي خالد-: قلت لأحمد: إن هذا الشيخ -لشيخ حضر معنا- هو جاري, وقد نهيته عن رجل, ويحب أن يسمع قولك فيه: حارث القصير -يعني: حارثاً المحاسبي- وكنت رأيتني معه منذ سنين كثيرة, فقلت لي: لا تجالسه, ولا تكلمه, فلم أكلمه حتى الساعة, وهذا الشيخ يجالسه, فما تقول فيه؟
فرأيت أحمد قد احمر لونه, وانتفخت أوداجه وعيناه, وما رأيته هكذا قط, ثم جعل ينتفض, ويقول: ذاك فعل الله به وبفعل, ليس يعرف ذاك إلا من خبره وعرفه, أوّيه, أوّيه, أوّيه.
ذاك لا يعرفه إلا من قد خبره وعرفه, ذاك جالسه المغازلي, ويعقوب, وفلان؛ فأخرجهم إلى رأي جهم, هلكوا بسببه.
فقال له الشيخ: يا أبا عبد الله, يروي الحديث, ساكن خاشع, من قصته ومن قصته؟ فغضب أبو عبد الله, وجعل يقول: لا يغرك خشوعه ولينه, ويقول: لا تغتر بتنكيس رأسه,
فإنه رجل سوء, ذاك لا يعرفه إلا من خبره, لا تكلمه, ولا كرامة له, كل من حدَّث بأحاديث رسول الله صلى الله عليه وسلم وكان مبتدعاً تجلس إليه؟! لا, ولا كرامة, ولا نُعْمَى عين, وجعل يقول: ذاك وذاك)). اهـ
فرأيت أحمد قد احمر لونه, وانتفخت أوداجه وعيناه, وما رأيته هكذا قط, ثم جعل ينتفض, ويقول: ذاك فعل الله به وبفعل, ليس يعرف ذاك إلا من خبره وعرفه, أوّيه, أوّيه, أوّيه.
ذاك لا يعرفه إلا من قد خبره وعرفه, ذاك جالسه المغازلي, ويعقوب, وفلان؛ فأخرجهم إلى رأي جهم, هلكوا بسببه.
فقال له الشيخ: يا أبا عبد الله, يروي الحديث, ساكن خاشع, من قصته ومن قصته؟ فغضب أبو عبد الله, وجعل يقول: لا يغرك خشوعه ولينه, ويقول: لا تغتر بتنكيس رأسه,
فإنه رجل سوء, ذاك لا يعرفه إلا من خبره, لا تكلمه, ولا كرامة له, كل من حدَّث بأحاديث رسول الله صلى الله عليه وسلم وكان مبتدعاً تجلس إليه؟! لا, ولا كرامة, ولا نُعْمَى عين, وجعل يقول: ذاك وذاك)). اهـ
جمع وترتيب
هيثم أبو عبد الله - عفا الله عنه