قول عمر بن الخطاب – رضي الله عنه-: ( يا ساريةُ الجبلَ ، يا ساريةُ الجبلَ ) هو إلهام من الله تعالى له وليس هو من الكشف الصوفي المبتدع !
قال العلامة الشيخ ناصر الدين الألباني – رحمه الله تعالى - في " السلسلة الصحيحة " ( 3 / 101 ) :
رواه أبو بكر بن خلاد في " الفوائد " ( 1 / 215 / 2 ) : حدثنا محمد بن عثمان بن أبي شيبة ، ثنا أحمد بن يونس ، ثنا أيوب بن خوط ، عن عبد الرحمن السراج عن نافع أن عمر بعث سرية فاستعمل عليهم رجلا يقال له سارية ، فبينما عمر يخطب يوم الجمعة فقال : فذكره .
فوجدوا سارية قد أغار إلى الجبل في تلك الساعة يوم الجمعة وبينهما مسيرة شهر .
قلت : و أيوب بن خوط متروك ، كما في " التقريب " .
لكن رواه أبو عبد الرحمن السلمي في " الأربعين الصوفية " ( 3 / 2 ) والبيهقي في " دلائل النبوة " ( 2 / 181 / 1 - مخطوطة حلب ) من طرق عن ابن وهب ، أخبرني يحيى بن أيوب ، عن ابن عجلان ، عن نافع به نحوه .
ومن هذا الوجه رواه ابن عساكر ( 7 / 6 / 1 ) و ( 13 / 63 / 2 )
و الضياء في " المنتقى من مسموعاته بمرو " ( 28 - 29 ) إلا أنهما قالا : عن نافع عن ابن عمر أن عمر ... وزادا في آخره .
وكذا البيهقي : " قال ابن عجلان : وحدثني إياس بن قرة بنحو ذلك " .
وقال الضياء : " قال الحاكم ( يعني أبا عبد الله ) : هذا غريب الإسناد والمتن لا أحفظ له إسنادا غير هذا " .
وذكره ابن كثير في " البداية " ( 7 / 131 ) فقال : " وقال عبد الله بن وهب .... " مثل رواية " الضياء " و لفظه : فجعل ينادي : يا سارية الجبل ، يا سارية الجبل ثلاثا .
ثم قدم رسول الجيش ، فسأله عمر ، فقال : يا أمير المؤمنين هزمنا ، فبينما نحن كذلك إذ سمعنا مناديا : يا سارية الجبل ثلاثا ، فأسندنا ظهورنا بالجبل فهزمهم الله . قال : فقيل لعمر : إنك كنت تصيح بذلك .
ثم قال ابن كثير : " و هذا إسناد جيد حسن " .
وهو كما قال ، ثم ذكر له طرقا أخرى و قال : " فهذه طرق يشد بعضها بعضا " .
قلت : وفي هذا نظر ، فإن أكثر الطرق المشار إليها مدارها على سيف بن عمر والواقدي وهما كذابان ، ومدار إحداها على مالك عن نافع به نحوه.
قال ابن كثير : " في صحته من حديث مالك نظر " .
ورواه ابن الأثير في " أسد الغابة " ( 5 / 65 ) عن فرات بن السائب ، عن ميمون بن مهران عن ابن عمر عن أبيه أنه كان يخطب يوم الجمعة على منبر رسول الله صلى الله عليه وسلم فعرض له في خطبته أنه قال : يا سارية بن حصن الجبل الجبل ، من استرعى الذئب ظلم فتلفت الناس بعضهم إلى بعض فقال علي : صدق و الله ليخرجن مما قال ، فلما فرغ من صلاته قال له علي: ما شيء سنح لك في خطبتك ؟ قال : و ما هو ؟ قال : قولك : يا سارية الجبل الجبل ، من استرعى الذئب ظلم ، قال : وهل كان ذلك مني ؟ قال : نعم و جميع أهل المسجد قد سمعوه ، قال إنه وقع في خلدي أن المشركين هزموا إخواننا فركبوا أكتافهم ، وأنهم يمرون بجبل ، فإن عدلوا إليه قاتلوا من وجدوا وقد ظفروا وإن جازوا هلكوا ، فخرج مني ما تزعم أنك سمعته .
قال : فجاء البشير بالفتح بعد شهر فذكر أنه سمع في ذلك اليوم في تلك الساعة حين جاوزوا الجبل صوتا يشبه صوت عمر يقول : يا سارية بن حصن الجبل الجبل ، قال : فعدلنا إليه ففتح الله علينا .
قلت : و هذا سند واه جدا ، فرات بن السائب ، قال البخاري : " منكر الحديث " .
و قال الدارقطني و غيره : " متروك " ، و قال أحمد " قريب من محمد بن زياد الطحان ، يتهم بما يتهم به ذاك " .(1)
فتبين مما تقدم أنه لا يصح شيء من هذه الطرق إلا طريق ابن عجلان وليس فيه إلا مناداة عمر " يا سارية الجبل " و سماع الجيش لندائه وانتصاره بسببه .
و مما لا شك فيه أن النداء المذكور إنما كان إلهاما من الله تعالى لعمر وليس
ذلك بغريب عنه ، فأنه " محدث " كما ثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم و لكن ليس فيه أن عمر كشف له حال الجيش ، و أنه رآهم رأي العين ، فاستدلال بعض المتصوفة بذلك على ما يزعمونه من الكشف للأولياء و على إمكان اطلاعهم على ما في القلوب من أبطل الباطل ، كيف لا وذلك من صفات رب العالمين المنفرد بعلم الغيب والاطلاع على ما في الصدور .
وليت شعري كيف يزعم هؤلاء ذلك الزعم الباطل والله عز وجل يقول في كتابه : ( عالم الغيب ، فلا يظهر على غيبه أحدا إلا من ارتضى من رسول ).
فهل يعتقدون أن أولئك الأولياء رسل من رسل الله حتى يصح أن يقال إنهم يطلعون على الغيب بإطلاع الله إياهم !! سبحانك هذا بهتان عظيم .
على أنه لو صح تسمية ما وقع لعمر رضي الله عنه كشفا ، فهو من الأمور الخارقة للعادة التي قد تقع من الكافر أيضا ، فليس مجرد صدور مثله بالذي يدل على إيمان الذي صدر منه فضلا على أنه يدل على ولايته و لذلك يقول العلماء إن الخارق للعادة إن صدر من مسلم فهو كرامة وإلا فهو استدراج ، ويضربون على هذا مثل الخوارق التي تقع على يد الدجال الأكبر في آخر الزمان كقوله للسماء : أمطري ، فتمطر و للأرض: أنبتي نباتك فتنبت، وغير ذلك مما جاءت به الأحاديث الصحيحة.
وفي المقال المشار إليه أمثلة أخرى مما يدخل تحت ما يسمونه اليوم بـ " التخاطر " و " الاستشفاف " و يعرف باسم " البصيرة الثانية " اكتفينا بالذي أوردناه لأنها أقرب الأمثال مشابهة لقصة عمر رضي الله عنه ، التي طالما سمعت من ينكرها من المسلمين لظنه أنها مما لا يعقل ! أو أنها تتضمن نسبة العلم بالغيب إلى عمر ، بينما نجد غير هؤلاء ممن أشرنا إليهم من المتصوفة يستغلونها لإثبات إمكان اطلاع الأولياء على الغيب ، والكل مخطئ .
فالقصة صحيحة ثابتة وهي كرامة أكرم الله بها عمر ، حيث أنقذ به جيش المسلمين من الأسر أو الفتك به ولكن ليس فيها ما زعمه المتصوفة من الاطلاع على الغيب ، و إنما هو من باب الإلهام ( في عرف الشرع ) أو ( التخاطر ) في عرف العصر الحاضر الذي ليس معصوما ، فقد يصيب كما في هذه الحادثة و قد يخطئ كما هو الغالب على البشر ، ولذلك كان لابد لكل ولي من التقيد بالشرع في كل ما يصدر منه من قول أو فعل خشية الوقوع في المخالفة ، فيخرج بذلك عن الولاية التي وصفها الله تعالى بوصف جامع شامل فقال : ( ألا إن أولياء الله لا خوف عليهم و لا هم يحزنون . الذين آمنوا و كانوا يتقون ).
ولقد أحسن من قال :
إذا رأيت شخصا قد يطير وفوق ماء البحر قد يسير
ولم يقف على حدود الشرع فإنه مستدرج و بدعي
الحاشية:
[1] فلا يغتر بإيراد النووي لهذه القصة بهذا التمام في " تهذيب الأسماء " ( 2 / 10 ) ، وقلده الأستاذ الطنطاوي في " سيرة عمر " ، فإنهم يتساهلون في مثلها . اهـ .
ومن الأمثلة الحديثة على ذلك ما قرأته اليوم من عدد " أغسطس " من السنة السادسة من مجلة " المختار " تحت عنوان : " هذا العالم المملوء بالألغاز وراء الحواس الخمس " ص 23 قصة " فتاة شابة ذهبت إلى جنوب أفريقيا للزواج من خطيبها ، وبعد معارك مريرة معه فسخت خطبتها بعد ثلاثة أسابيع ، وأخذت الفتاة تذرع غرفتها في اضطراب ، وهي تصيح في أعماقها بلا انقطاع : " أواه يا أماه ... ماذا أفعل ؟ " ولكنها قررت ألا تزعج أمها بذكر ما حدث لها ؟ و بعد أربعة أسابيع تلقت منها رسالة جاء فيها : " ماذا حدث ؟ لقد كنت أهبط السلم عندما سمعتك تصيحين قائلة : " أواه يا أماه ... ماذا أفعل ؟ " . و كان تاريخ الرسالة متفقا مع تاريخ اليوم الذي كانت تصيح فيه من أعماقها " .
http://alsonnah.com/suna/showthread.php?t=166
تعليق