بسم الله الرحمن الرحيم
ثمـرة مجـالسـة الأخيار و الصـالحـين
الحمد لله رب العالمين , و الصلاة و السلام على نبينا محمد , و على آله و صحبه أجمعين .
الإنسان بطبعه خُلِق اجتماعياً , لا يستغني عن أحد مِن البشر , فجاء الإسلام بالترابط الإيماني الأخوي بين الناس على أساس الدين , الذي له الأثر العميق في توجيه النفس و العقل , و الفرد و المجتمع , و لذا اعتنى الإسلام بهذه الصّلات , و العلاقات التي تربط المسلم بأشخاص يؤثِّرون فيه , و يتأثّر بهم, و يقتربون منه,و يقترب منهم , و يستفيدون منه , و يستفيد منهم , فقال تعالى:" الْأَخِلاّء يَوْمَئِذٍ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ إِلَّا الْمُتَّقِينَ"
(67سورة الزخرف)
و حثّنا النبي – صلى الله عليه و سلم – على مصاحبة الأخيار المؤمنين مِن العلماء و الصالحين , فقال : " لا تصاحب إلا مـؤمـنـاً و لا يأكل طعامك إلا تقي "
( رواه الإمام أحمد و الحديث حسن )
فالصاحب المؤمن هو الذي يعينك على طاعة الله , فإذا رآك قصَّرت في طاعة , ذكّرك بها , و إذا وقعتَ في معصية , حذّرك منها, و إذا استشرتَه في أمر , أشار عليك بما هو خير , و إذا استنصحته , نصحك بالمعروف , و إذا استعنت به , أعانك .
ولهذا يترتب على ذلك مِن الخير الكثير ,الذي جاء به الإسلام , مِن التجمع و الأُلفة , و المحبة و التعرّف على الناس , و الاختلاط الحسن بما يصلح شأنه كله , و على هذا الأساس نتخيّر الأصحاب الأتقياء الأذكياء , و نرغّب في الصداقات و العلاقات الأخوية , بعيدين كلَّ البعد عن الأغراض الدنيوية , و أن تكون خالصة لوجه الله تعالى .
لقوله- صلى الله عليه سلم -:" مَن أحبّ لله , و أبغض لله , و أعطى لله ومنع لله , فقد استكمل الإيمان "
( رواه أبو داود و الحديث صحيح )
فمثل هؤلاء الصحبة ,قد ترفع بالإنسان إلى حسن الخلق , و المعاملة الحسنة, و تحميه مِن الأخلاق السيئة , و لذا احتفى الإسلام بمشاعر الصداقة النقية , و الأُخُوَّة الصادقة , و رغّب المؤمنين في إخلاصها لله , و الاعتماد على قوة العقيدة و سمو الأعمال الصالحة , قال تعالى :"وَاصْبِرْ نَفْسَكَ مَعَ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُم بِالْغَدَاةِ وَالْعَشِيِّ يُرِيدُونَ وَجْهَهُ وَلَا تَعْدُ عَيْنَاكَ عَنْهُمْ تُرِيدُ زِينَةَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَلَا تُطِعْ مَنْ أَغْفَلْنَا قَلْبَهُ عَن ذِكْرِنَا وَاتَّبَعَ هَوَاهُ وَكَانَ أَمْرُهُ فُرُطًا"
(28سورة الكهف) .
و من هنا كان المسلم مطالباً بأَن يُحسن اختيار الأخلاء و المجالس التي لا تزيد إلا إيماناً و صلاحاً و تقوى و بصيرة , و أن يعرض عن رُفقاء السوء مِن شياطين الإنس و الجن , و عن مجالس الفُحش و المعصية , التي تُظلم فيها النفوس و تموت فيها القلوب و يَكثر فيها اللغط و الغيبة و النميمة و إثارة الشحناء و البغضاء بين المسلمين .
و لهذا كان عبد الله بن رواحة – رضي الله عنه – إذا لقي الرجل مِن أصحاب رسول الله – صلى الله عليه و سلم – قال : تعال نؤمن بربنا ساعة , فقال ذات يوم لرجل فغضب الرجل , فجاء إلى النبي – صلى الله عليه و سلم - , فقال :" يا رسول الله : ألا ترى إلى ابن رواحة يرغب عن إيمانك إلى إيمان ساعة , فقال النبي – صلى الله عليه و سلم - : يرحم الله ابن رواحة , إنه يحبّ المجالس التي تتباهى بها الملائكة _ عليهم السلام "
( رواه أحمد بإسناد حسن )
و الأواصر الإيمانية بين الإخوة سرعان ما تتجاذب الأرواح إليها , و هذا مصداق قول النبي – صلى الله عليه و سلم – " الأرواح جنود مجندة , ما تعارف منها ائتلف , و ما تناكر منها اختلف "
( رواه البخاري )
و المسلم إن كان يحب النفع للناس كافة فهو لنفع نفسه و أصدقائه أحب .
لأجل ذلك كان أصحاب رسول الله – صلى الله عليه و سلم – يجعلون مِن هذا النفع , والتواصي بالحق و التعاون على الخير , سياجاً يحفظ ما بينهم من وُد و محبة , و تقرّبهم إلى ربهم بالطاعة و التراحم .
و أثر الصديق في صديقه عميق , و مِن ثم كان لزاماً على المرء أن ينتقي إخوانه و أصدقاءه , حتى يطمئن على علاقاته معهم , و لهذا قال النبي – صلى الله عليه و سلم :" المرء على دين خليله , فلينظر أحدكم مَن يخالل "
( رواه الحاكم و الحديث حسن )
فمثل هؤلاء الجلساء , الذي يجب على المسلم أنْ يستمسك بهم , و يحرص على مودتهم , لأنهم قرناء الخير, الذين يقودون الصديق إلى النجاح في الدنيا , و الفوز و الفلاح في الآخرة , و لذا حثّ النبي – صلى الله عليه و سلم- على اختيار الجليس الصالح فقال :" مَثل الجليس الصالح كمثل العطار , إن لم يُعطِكَ مِن عطره , أصابك مِن ريحه "
( رواه أبو داود و الحديث صحيح )
فإذا كان هذا مع الجليس الصالح الذي تجتمع به في لقاء عابر في ساعة يسيرة مِن ليل أو نهار , فكيف بك مع صاحب العمر الذي يخالطك في السراء و الضراء ؟ ففي مثل هذه المجالس تزكو الروح , و يصفو القلب , و هي ليست شعارات تُرفع , و لا يُقصد بها الإعلام و الدعاية , و إنما هي رابطة إيمانية, لها التزاماتها و تكاليفها و حقوقها , و إننا لنجد أثر هذه المجالس في حياتنا , و ثمرتها تتحقق في نفوسنا , و تظهر على جوارحنا , ومِن هذه الثمرات :
· أنّ مجالسة الصالحين تشمله بركة مجالسهم و إن لم يكن عمله مثلهم , فعن أبي ذر أنه قال : يا رسول الله , الرجل يحب القوم ولا يستطيع أن يعمل كعملهم ؟ قال : إنك يا أبا ذر , مع مَن أحببت" , قال : فإني أحب الله و رسوله , قال : أنت يا أبا ذر مع مَمَن أحببت "
( رواه ابن حبان و الحديث إسناده صحيح )
· الجليس الصالح يدلُّك على عيوبك ,وجهات النقص عندك , لقوله – صلى الله عليه و سلم - :" المؤمن مرآة أخيه , إذا رأى فيه عيباً أصلحه "
( رواه البخاري في الأدب المفرد و الحديث حسن الإسناد ).
· الجليس الصالح يعرّفك على آخرين مِن أهل الخير و العلم فتنتفع بهم , لقوله – صلى الله عليه و سلم :" مَن دلّ على خير فله مثل أجر فاعله "
( رواه أبو داود و الحديث صحيح )
· إذا جالست الصالح تأدبتَ بمجلسه و تخليّت عن المعصية مراعاةً لمكانته و تقديراً لمنزلته , فيكون في هذا التخلي الدائم عن المعاصي في حضرة الرجال , الذين يجلُّهم , و يحرص على استرضائهم , بضبط سلوكه ضبطاً محكماً , و هذا مِن سجية الإنسان, فيتكلم بقدر ,و يتصرف بحذر .
· مجالسة أهل الخير فيها حفظاً للوقت الذي هو الحياة .
· الجليس الصالح يدلُّك على أمور كنت غافلاً عنها , و متكاسلاً عن أدائها , ويرشدك إلى كثير مِن النوافل التي تزداد بها خيراً
· الجليس الصالح يحفظك في غيبتك و يدافع عنك , و لا يُفشي لك سراً , لقوله – صلى الله عليه و سلم :" خيرُ الأصحاب عند الله , خيرهم لصاحبه , و خير الجيران عند الله , خيرهم لجاره "
( رواه الترمذي و الحديث صحيح )
· الجليس الصالح تنتفع بدعائه بظهر الغيب في حياته و بعد مماته , لقوله – صلى الله عليه و سلم :" إن دعوة المرء المسلم مستجابة لأخيه بظهر الغيب , عند رأسه مَلَك موكَّل , كلما دعا لأخيه بخير, قال : آمين , و لك بمثله "
( رواه مسلم ).
و قال أبو بكر الصديق – رضي الله عنه - :" إن دعوة الأخ في الله تُستجاب "
( رواه البخاري في الأدب المفرد و الحديث صحيح الإسناد )
· مجالسة الصالحين و زيارتهم تؤدي إلى محبتهم في الله , لقوله – صلى الله عليه و سلم -:" أنّ رجلاً زار أخاً له في قرية أخرى ,فأرصد الله تعالى على مدرجته مَلَكاً , فلما أتى عليه قال : أين تريد ؟ قال : أريد أخاً لي في هذه القرية , قال : هل لك عليه مِن نعمة تَرُبُّها عليه؟ , قال : لا , غير أني أحببتُه في الله تعالى , قال : فإني رسول الله إليك بأنّ الله قد احبّك كما أحببتَه فيه "
( رواه مسلم )
· مجالسة الصالحين ترقّق القلوب و تزيل الأحقاد و الغلّ و الحسد و تُعين على الأعمال الصالحة , فعن عبد الله بن عمرو قال : قيل يا رسول الله – صلى الله عليه و سلم - : أيُّ الناس أفضل ؟ قال كل مخموم القلب , صدوق اللسان , قالوا : صدوق اللسان نعرفه , فما مخموم القلب ؟ قال : هو التقي النقي , لا إثم فيه و لا بغي و لا غلّ و لا حسد "
( رواه ابن ماجه و الحديث صحيح )
و الرجل الذي يخجل مِن الظهور برذيلة أمام الآخرين , لا تزال فيه بقية مِن خير, على أن الإنسان ينبغي أن يخجل مِن نفسه كما يخجل مِن الناس , فإذا كره أن يَرَوه على نقيصة , فليكره أن يرى نفسه على مثلها ,و مِن ثم , كان لزاماً على المسلم أن يتقرب مِن مجالسة أهل التقوى و الصلاح , حتى يشعر الإنسان بأنّ إخوانه ظهر له , في السرّاء و الضّراء , و أنّ قوته لا تتحرك في الحياة وحدها , بل إنّ قوى المؤمنين الصالحين تساندها و تشدُّ أزرها .
و آخر دعوانا أن الحمد لله ربّ العالمين
كتبه
سمير المبحوح
27 / جمادى الآخر / 1431 هـ