قال ابن القيم رحمه الله
وإذا تأملت حال القلب مع المَلَك والشيطان، رأيت أعجب العجائب.
فهذا يلم به مرة، وهذا يلم به مرة، فإذا ألم به الملك حدث من لمته الانفساح والانشراح والنور والرحمة و الإخلاص و الإنابة ومحبة الله وإيثاره على ما سواه وقصر الأمل و التجافي عن دار البلاء والامتحان والغرور، فلو دامت له تلك الحالة لكان في أهنأ عيش وألذه وأطيبه.
ولكن تأتيه لمة الشيطان، فتحدث له من الضيق والظلمة والهم والغم والخوف والسخط على المقدور والشك في الحق والحرص على الدنيا وعاجلها والغفلة عن الله – ما هو من أعظم عذاب القلب.
ثم للناس في هذه المحنة مراتب لا يحصيها إلا الله :
فمنهم من تكون لمة الملك أغلب من لمة الشيطان وأقوى، فإذا ألم به الشيطان وجد من الألم والضيق والحصر وسوء الحال بحسب ماعنده من حياة القلب، فيبادر إلى طرد تلك اللمة و لا يدعها تستحكم فيصعب تداركها، فهو دائما في حرب بين اللمتين، يدال له مرة ويدال عليه مرة أخرى والعاقبة للتقوى.
ومنهم من تكون لمة الشيطان أغلب عليه وأقوى، فلا تزال تغلب لمة الملك حتى تستحكم، ويصير الحكم لها فيموت القلب و لا يحس ما ناله الشيطان به، مع أنه في غاية العذاب والضيق والحصر، ولكن سكر الشهوة والغفلة حجب عنه الإحساس بذلك الألم، فإذا كُشف أمكنه تداركه بالدواء وحسمه، وإن عاد الغطاء عاد الأمر كما كان، حتى ينكشف عنه وقت المفارقة للدنيا، فتظهر حينئذ تلك الآلام والهموم والغموم والأحزان، وهي لم تتجدد له وإنما كانت كامنة تواريها الشواغل، فلما زالت الشواغل ظهر ما كان كامنا وتجدد له أضعافه.
والشيطان يلم بالقلب، لما كان هناك من جواذب تجذبه وهي نوعان : (صفات) و (إرادات) : فإذا كانت الجواذب صفات، قوي سلطانه هناك، واستفحل أمره، و وجد موطئا ومقارا، فتأتي الأذكار والدعوات و التعوذات كحديث النفس، لا تدفع سلطان الشيطان لأن مركبه صفة لازمة، فإذا قلع العبد تلك الصفات، وعمل على التطهر منها والاغتسال، بقي للشيطان بالقلب خطرات ووساوس ولمات من غير استقرار، وذلك يضعفه ويقوي لمة الملك، فتأتي الأذكار والدعوات و التعوذات فتدفعه بأسهل شيء.
وإذا أردت لذلك مثالا مطابقا : فمثله مثل كلب جائع شديد الجوع وبينك وبينه لحم أو خبز، وهو يتأملك ويراك لا تقاومه، وهو أقرب منك، فأنت تزجره وتصيح عليه، وهو يأبى إلا التحوم عليك، والغارة على مابين يديك، فالأذكار بمنزلة الصياح عليه والزجر له، ولكن معلومه ومراده عندك، وقد قرّبته عليك.
فإذا لم يكن بين يديك شيء يصلح له، وقد تأملك فرآك أقوى منه، فإنك تزجره وتصيح عليه، فيذهب وكذلك القلب الخالي عن قوة الشيطان ينزجر بمجرد الذكر.
وأما القلب الذي فيه تلك الصفات التي هي مركبه وموطنه فيقع الذكر في حواشيه و جوانبه، و لا يقوى على إخراج العدو منه. ومصداق ذلك تجده في الصلاة، فتأمل في الحال وانظر
هل تُخرج الصلاة بأذكارها وقراءتها الشيطانَ من قلبك، وتفرغه كلَّه لله تعالى بكليته، وتقيمه بين يدي ربه مقبلا بكليته عليه، يصلي لله تعالى كأنه يراه, قد اجتمع همه كله على الله ؟ وصار ذكره ومراقبته ومحبته والأنس به في محل الخواطر والوساوس أم لا ؟ و الله المستعان
فهذا يلم به مرة، وهذا يلم به مرة، فإذا ألم به الملك حدث من لمته الانفساح والانشراح والنور والرحمة و الإخلاص و الإنابة ومحبة الله وإيثاره على ما سواه وقصر الأمل و التجافي عن دار البلاء والامتحان والغرور، فلو دامت له تلك الحالة لكان في أهنأ عيش وألذه وأطيبه.
ولكن تأتيه لمة الشيطان، فتحدث له من الضيق والظلمة والهم والغم والخوف والسخط على المقدور والشك في الحق والحرص على الدنيا وعاجلها والغفلة عن الله – ما هو من أعظم عذاب القلب.
ثم للناس في هذه المحنة مراتب لا يحصيها إلا الله :
فمنهم من تكون لمة الملك أغلب من لمة الشيطان وأقوى، فإذا ألم به الشيطان وجد من الألم والضيق والحصر وسوء الحال بحسب ماعنده من حياة القلب، فيبادر إلى طرد تلك اللمة و لا يدعها تستحكم فيصعب تداركها، فهو دائما في حرب بين اللمتين، يدال له مرة ويدال عليه مرة أخرى والعاقبة للتقوى.
ومنهم من تكون لمة الشيطان أغلب عليه وأقوى، فلا تزال تغلب لمة الملك حتى تستحكم، ويصير الحكم لها فيموت القلب و لا يحس ما ناله الشيطان به، مع أنه في غاية العذاب والضيق والحصر، ولكن سكر الشهوة والغفلة حجب عنه الإحساس بذلك الألم، فإذا كُشف أمكنه تداركه بالدواء وحسمه، وإن عاد الغطاء عاد الأمر كما كان، حتى ينكشف عنه وقت المفارقة للدنيا، فتظهر حينئذ تلك الآلام والهموم والغموم والأحزان، وهي لم تتجدد له وإنما كانت كامنة تواريها الشواغل، فلما زالت الشواغل ظهر ما كان كامنا وتجدد له أضعافه.
والشيطان يلم بالقلب، لما كان هناك من جواذب تجذبه وهي نوعان : (صفات) و (إرادات) : فإذا كانت الجواذب صفات، قوي سلطانه هناك، واستفحل أمره، و وجد موطئا ومقارا، فتأتي الأذكار والدعوات و التعوذات كحديث النفس، لا تدفع سلطان الشيطان لأن مركبه صفة لازمة، فإذا قلع العبد تلك الصفات، وعمل على التطهر منها والاغتسال، بقي للشيطان بالقلب خطرات ووساوس ولمات من غير استقرار، وذلك يضعفه ويقوي لمة الملك، فتأتي الأذكار والدعوات و التعوذات فتدفعه بأسهل شيء.
وإذا أردت لذلك مثالا مطابقا : فمثله مثل كلب جائع شديد الجوع وبينك وبينه لحم أو خبز، وهو يتأملك ويراك لا تقاومه، وهو أقرب منك، فأنت تزجره وتصيح عليه، وهو يأبى إلا التحوم عليك، والغارة على مابين يديك، فالأذكار بمنزلة الصياح عليه والزجر له، ولكن معلومه ومراده عندك، وقد قرّبته عليك.
فإذا لم يكن بين يديك شيء يصلح له، وقد تأملك فرآك أقوى منه، فإنك تزجره وتصيح عليه، فيذهب وكذلك القلب الخالي عن قوة الشيطان ينزجر بمجرد الذكر.
وأما القلب الذي فيه تلك الصفات التي هي مركبه وموطنه فيقع الذكر في حواشيه و جوانبه، و لا يقوى على إخراج العدو منه. ومصداق ذلك تجده في الصلاة، فتأمل في الحال وانظر
هل تُخرج الصلاة بأذكارها وقراءتها الشيطانَ من قلبك، وتفرغه كلَّه لله تعالى بكليته، وتقيمه بين يدي ربه مقبلا بكليته عليه، يصلي لله تعالى كأنه يراه, قد اجتمع همه كله على الله ؟ وصار ذكره ومراقبته ومحبته والأنس به في محل الخواطر والوساوس أم لا ؟ و الله المستعان
و ههنا نكتة ينبغي التفطن لها وهي أن القلوب الممتلئة بالأخلاط الرديئة فالعبادات والأذكار و التعوذات أدوية لتلك الأخلاط، كما يثير الدواء أخلاط البدن.
فإن لم يكن قبل الدواء وبعده حمية لم يزد الدواء على إثارته، وإن أزال منه شيئا ما.
فمدار الأمر على شيئين : الحمية واستعمال الأدوية.
وأول ما يطرق القلب الخطرة، فإن دفعها استراح مما بعدها، وإن لم يدفعها قويت فصارت وسوسة، فكان دفعها أصعب، فإن بادر ودفعها وإلا قويت، وصارت شهوة فإن عالجها وإلا صارت إرادة، فإن عالجها وإلا صارت عزيمة، ومتى وصلت إلى هذه الحال لم يمكن دفعها واقترن بها الفعل ولابد و ما يقدر عليه مرة بدون مقدماته.
وحينئذ ينتقل العلاج إلى أقوى الأدوية، وهو الاستفراغ التام بالتوبة النصوح.
و لا ريب أن دفع مبادئ هذا الداء من أوله أيسر وأهون من استفراغه بعد حصوله - إن ساعد القدر وأعان التوفيق.
وإن الدفع أولى به وإن تألمت النفس بمفارقة المحبوب فليوازن بين فوات هذا المحبوب الأخس المنقطع النكد المشوب بالآلام والهموم، وبين فوات المحبوب الأعظم الدائم الذي لا نسبة لهذا المحبوب إليه ألبتة لا في قدره و لا في بقائه.
وليوازن بين ألم فوته وبين ألم فوت المحبوب الأخس وليوازن بين لذة الإنابة و الإقبال على الله تعالى والتنعم بحبه وذكره وطاعته، ولذة الإقبال على الرذائل و الإتيان بالقبائح.
وليوازن بين لذة الظفر بالذنب، ولذة الظفر بالعدو.
وبين لذة الذنب، ولذة العفة.
ولذة الذنب ولذة القوة وقهر العدو.
وبين لذة الذنب ولذة إرغام عدوه، ورده خاسئا ذليلا.
وبين لذة الذنب ولذة الطاعة التي تحول بينه وبين مراده.
وبين فوت مراده وفوت ثناء الله تعالى وملائكته عليه و فوت حسن جزائه و جزيل ثوابه.
وبين فرحة إدراكه، وفرحة تركه لله تعالى عاجلا، وفرحة ما يثنيه عليه في دنياه وآخرته والله المستعان.
فإن لم يكن قبل الدواء وبعده حمية لم يزد الدواء على إثارته، وإن أزال منه شيئا ما.
فمدار الأمر على شيئين : الحمية واستعمال الأدوية.
وأول ما يطرق القلب الخطرة، فإن دفعها استراح مما بعدها، وإن لم يدفعها قويت فصارت وسوسة، فكان دفعها أصعب، فإن بادر ودفعها وإلا قويت، وصارت شهوة فإن عالجها وإلا صارت إرادة، فإن عالجها وإلا صارت عزيمة، ومتى وصلت إلى هذه الحال لم يمكن دفعها واقترن بها الفعل ولابد و ما يقدر عليه مرة بدون مقدماته.
وحينئذ ينتقل العلاج إلى أقوى الأدوية، وهو الاستفراغ التام بالتوبة النصوح.
و لا ريب أن دفع مبادئ هذا الداء من أوله أيسر وأهون من استفراغه بعد حصوله - إن ساعد القدر وأعان التوفيق.
وإن الدفع أولى به وإن تألمت النفس بمفارقة المحبوب فليوازن بين فوات هذا المحبوب الأخس المنقطع النكد المشوب بالآلام والهموم، وبين فوات المحبوب الأعظم الدائم الذي لا نسبة لهذا المحبوب إليه ألبتة لا في قدره و لا في بقائه.
وليوازن بين ألم فوته وبين ألم فوت المحبوب الأخس وليوازن بين لذة الإنابة و الإقبال على الله تعالى والتنعم بحبه وذكره وطاعته، ولذة الإقبال على الرذائل و الإتيان بالقبائح.
وليوازن بين لذة الظفر بالذنب، ولذة الظفر بالعدو.
وبين لذة الذنب، ولذة العفة.
ولذة الذنب ولذة القوة وقهر العدو.
وبين لذة الذنب ولذة إرغام عدوه، ورده خاسئا ذليلا.
وبين لذة الذنب ولذة الطاعة التي تحول بينه وبين مراده.
وبين فوت مراده وفوت ثناء الله تعالى وملائكته عليه و فوت حسن جزائه و جزيل ثوابه.
وبين فرحة إدراكه، وفرحة تركه لله تعالى عاجلا، وفرحة ما يثنيه عليه في دنياه وآخرته والله المستعان.
من [التبيان في أقسام القرآن] ص161