قال ابن القيم رحمه الله
...نهجَ للعبد طريقَ النجاةِ، وفتح له أبوابها وعرّفه طرق تحصيل السعادة وأعطاه أسبابها، و حذّره من وبال معصيته وأشهده على نفسه وعلى غيره شؤمها وعقابها، وقال إن أطعت فبفضلي وأنا أشكر، وإن عصيت فبقضائي وأنا أغفر, إن ربنا لغفور شكور.
أزاح عن العبد العلل، وأمره أن يستعيذ به من العجز والكسل،و وعده أن يشكر له القليل من العمل، ويغفر له الكثير من الزلل، إن ربنا لغفور شكور.
أعطاه ما يشكر عليه ثم يشكره على إحسانه إلى نفسه لا على إحسانه إليه، ووعده على إحسانه لنفسه أن يحسن جزاءه ويقربه لديه، وأن يغفر له خطاياه إذا تاب منها ولا يفضحه بين يديه، إن ربنا لغفور شكور.
وثقت بعفوه هفواتُ المذنبين فوسعتها، وعكفت بكرمه آمال المحسنين فما قطع طمعها، وخرقتِ السبع الطباق دعواتُ التائبين والسائلين فسمعها، ووسع الخلائقَ عفوُهُ ومغفرتُه ورزقُه، فما من دابة في الأرض إلا على الله رزقها ويعلم مستقرها ومستودعها، إن ربنا لغفور شكور.
يجود على عبيده بالنوافل قبل السؤال، ويُعطى سائله ومؤمِّله فوق ما تعلقت به منهم الآمال، ويغفر لمن تاب إليه ولو بلغت ذنوبه عدد الأمواج والحصى والتراب والرمال، إن ربنا لغفور شكور.
أرحمُ بعباده من الوالدة بولدها، وأفرح بتوبة التائب من الفاقد لراحلته التي عليها طعامه وشرابه في الأرض المهلكة إذا وجدها، وأشكَرُ للقليل من جميع خلقه، فمن تقرب إليه بمثقال ذرة من الخير شكرها وحمدها، إن ربنا لغفور شكور.
تعرَّف إلى عباده بأسمائه وأوصافه، وتحبّب إليهم بحلمه وآلائه، ولم تمنعه معاصيهم بأن جاد عليهم بآلائه، و وعد من تاب إليه وأحسنَ طاعتَه بمغفرة ذنوبه يوم لقائه، إن ربنا لغفور شكور.
السعادة كلها في طاعته، والأرباح كلها في معاملته، والمحن والبلايا كلها في معصيته ومخالفته، فليس للعبد أنفع من شكره وتوبته، إن ربنا لغفور شكور.
أفاض على خلقه النعمة، وكتب على نفسه الرحمة، وضمن الكتاب الذي كتبه، إن رحمته تغلب غضبه، إن ربنا لغفور شكور.
يُطاع فيشكر، وطاعته من توفيقه و فضله، ويعصى فيحلم ومعصية العبد من ظلمه وجهله، ويتوب إليه فاعل القبيح فيغفر له، حتى كأنه لم يكن قط من أهله، إن ربنا لغفور شكور.
الحسنة عنده بعشر أمثالها أو يضاعفها بلا عدد ولا حسبان، والسيئة عنده بواحدة ومصيرها إلى العفو والغفران، وباب التوبة مفتوح لديه منذ خلق السموات و الأرض إلى آخر الزمان، إن ربنا لغفور شكور.
بابه الكريم مناخُ الآمال(أي محطُّ رحالها) ومحط الأوزار، وسماء عطاه لا تقلع عن الغيث بل هي مدرار، ويمينه ملأى لا تغيضها نفقة سحَّاء(أي سيّالة) الليل والنهار، إن ربنا لغفور شكور.
لا يلقى وصاياه إلا الصابرون، ولا يفوز بعطاياه إلا الشاكرون، ولا يهلك عليه إلا الهالكون، ولا يشقى بعذابه إلا المتمردون، إن ربنا لغفور شكور.
فإياك أيها المتمرد أن يأخذك على غرة فإنه غيور، و إذا أقمت على معصيته وهو يمدك بنعمته فاحذره، فإنه لم يُهملك لكنَّه صبور، وبشراك أيها التائب بمغفرته ورحمته إنه غفور شكور.
من علم أن الرب شكور تنوع في معاملته، ومن عرف أنه واسع المغفرة تعلق بأذيال مغفرته، ومن علم أن رحمته سبقت غضبه لم ييأس من رحمته، إن ربنا لغفور شكور.
من تعلق بصفة من صفاته أخذته بيده حتى تدخله عليه، ومن سار إليه بأسمائه الحسنى وصل إليه، ومن أحبه أحب أسمائه وصفاته وكانت آثر شيء لديه.حياة القلوب في معرفته ومحبته، وكمال الجوارح في التقرب إليه بطاعته والقيام بخدمته، والألسنةُ بذكره والثناء عليه بأوصاف مدحته، فأهل شكره أهل زيادته، وأهل ذكره أهل مجالسته، وأهل طاعته أهل كرامته، وأهل معصيته لا يقنطهم من رحمته، إن تابوا فهو حبيبهم، وإن لم يتوبوا فهو طبيبهم، يبتليهم بأنواع المصائب، ليكفر عنهم الخطايا، ويطهرهم من المعائب، انه غفور شكور.
والحمد لله رب العالمين حمدا كثيرا طيبا مباركا فيه، كما يحب ربنا ويرضى، وكما ينبغي لكرم وجهه وعز جلاله، حمدا يملأ السموات و الأرض وما بينهما وما شاء ربنا من شيء بعد بمجامع حمده كلها، ما علمنا منها وما لم نعلم، على نعمه كلها، ما علمنا منها وما لم نعلم، عدد ما حمد الحامدون، وغفل عن ذكره الغافلون، وعدد ما جرى به قلمه و أحصاه كتابه و أحاط به علمه.
و صلى الله وسلم على سيدنا محمد وآله وصحبه أجمعين وعلى سائر الأنبياء والمرسلين و رضي الله عن التابعين لهم بإحسان إلى يوم الدين.اهـ
و صلى الله وسلم على سيدنا محمد وآله وصحبه أجمعين وعلى سائر الأنبياء والمرسلين و رضي الله عن التابعين لهم بإحسان إلى يوم الدين.اهـ
من خاتمة [عدّة الصابرين و ذخيرة الشاكرين]