بسم الله الرحمن الرحيم
سورة الروم
قوله تعالى: {وَعْدَ اللَّهِ لا يُخْلِفُ اللَّهُ وَعْدَهُ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ * يَعْلَمُونَ ظَاهِراً مِنَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَهُمْ عَنِ الْآخِرَةِ هُمْ غَافِلُونَ َ}.
تنبيــه
اعلم أنه يجب على كل مسلم في هذا الزمان أن يتدبّر آية "الروم" هذه تدبّرًا كثيرًا، ويبيّن ما دلّت عليه لكل من استطاع بيانه له من الناس.
وإيضاح ذلك أن من أعظم فتن آخر الزمان التي ابتلى اللَّه بها ضعاف العقول من المسلمين، شدّة إتقان الإفرنج لأعمال الحياة الدنيا، ومهارتهم فيها على كثرتها، واختلاف أنواعها مع عجز المسلمين عن ذلك، فظنوا أن من قدر على تلك الأعمال أنه على الحق، وأن من عجز عنها متخلّف وليس على الحق، وهذا جهل فاحش، وغلط فادح. وفي هذه الآية الكريمة إيضاح لهذه الفتنة، وتخفيف لشأنها أنزله اللَّه في كتابه قبل وقوعها بأزمان كثيرة، فسبحان الحكيم الخبير ما أعلمه، وما أعظمه، وما أحسن تعليمه.
فقد أوضح جلَّ وعلا في هذه الآية الكريمة أن {وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ}، ويدخل فيهم أصجاب هذه العلوم الدنيوية دخولاً أوليًّا، فقد نفى عنهم جلَّ وعلا اسم العلم بمعناه الصحيح الكامل، لأنهم لا يعلمون شيئًا عمّن خلقهم، فأبرزهم من العدم إلى الوجود، ورزقهم، وسوف يميتهم، ثم يحييهم، ثم يجازيهم على أعمالهم، ولم يعلموا شيئًا عن مصيرهم الأخير الذي يقيمون فيه إقامة أبديّة في عذاب فظيع دائم، ومن غفل عن جميع هذا فليس معدودًا من جنس من يعلم؛ كما دلّت عليه الآيات القرءانيّة المذكورة، ثم لما نفى عنهم جلَّ وعلا اسم العلم بمعناه الصحيح الكامل، أثبت لهم نوعًا من العلم في غاية الحقارة بالنسبة إلى غيره.
وعاب ذلك النوع المذكور من العلم، بعيبين عظيمين:
أحدهما: قلّته وضيق مجاله، لأنه لا يجاوز {ظَاهِراً مِنَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا}، والعلم المقصور على ظاهر من الحياة الدنيا في غاية الحقارة، وضيق المجال بالنسبة إلى العلم بخالق السماواتوالأرض جلَّ وعلا، والعلم بأوامره ونواهيه، وبما يقرب عبده منه، وما يبعده عنه، وما يخلد في النعيم الأبدي والعذاب الأبدي، من أعمال الخير والشر.
والثاني منهما: هو دناءه هدف ذلك العلم، وعدم نبل غايته، لأنه لا يتجاوز الحياة الدنيا، وهي سريعة الانقطاع والزوال، ويكفيك من تحقير هذا العلم الدنيوي أن أجود أوجه الإعراب في قوله: {يَعْلَمُونَ ظَاهِراً}، أنه بدل من قوله قبله {لا يَعْلَمُونَ}، فهذا العلم كلا علم لحقارته.
قال الزمخشري في "الكشاف" : "وقوله: {يَعْلَمُونَ} بدل من قوله: {لا يَعْلَمُونَ}، وفي هذا الإبدال من النكتة أنه أبدله منه وجعله بحيث يقوم مقامه، ويسد مسدّه ليعلمك أنه لا فرق بين عدم العلم الذي هو الجهل، وبين وجود العلم الذي لا يتجاوز الدنيا.
وقوله: {ظَاهِراً مِنَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا} يفيد أن للدنيا ظاهرًا وباطنًا فظاهرها ما يعرفه الجهال من التمتع بزخارفها، والتنعّم بملاذها، وباطنها وحقيتها أنها مجاز إلى الآخرة، يتزوّد منها إليها بالطاعة والأعمال الصالحة، وفي تنكير الظاهر أنهم لا يعلمون إلا ظاهرًا واحدًا من ظواهرها. و {هُمْ} الثانية يجوز أن يكون مبتدأ، و {غَافِلُونَ} خبره، والجملة خبر {هُمْ} الأولى، وأن يكون تكريرًا للأولى، و {غَافِلُونَ} خبر الأولى، وأية كانت فذكرها مناد على أنهم معدن الغفلة عن الآخرة، ومقرّها، ومحلّها وأنها منهم تنبع وإليهم ترجع، انتهى كلام صاحب "الكشاف" .
وقال غيره: وفي تنكير قوله: {ظَاهِراً} تقليل لمعلومهم، وتقليله يقربه من النفي، حتى يطابق المبدل منه، اهـ، ووجهه ظاهر.
واعلم أن المسلمين يجب عليهم تعلّم هذه العلوم الدنيوية، كما أوضحنا ذلك غاية الإيضاع في سورة "مريم" ، في الكلام على قوله تعالى: {أَطَّلَعَ الْغَيْبَ أَمِ اتَّخَذَ عِنْدَ الرَّحْمَنِ عَهْداً}، وهذه العلوم الدنيوية التي بيّنا حقارتها بالنسبة إلى ما غفل عنه أصحابها الكفار، إذا تعلّمها المسلمون، وكان كل من تعليمها واستعمالها مطابقًا لما أمر اللَّه به على لسان نبيّه صلى الله عليه وسلم، كانت من أشرف العلوم وأنفعها؛ لأنها يستعان بها على إعلاء كلمة اللَّه ومرضاته جلَّ وعلا، وإصلاح الدنيا والآخرة، فلا عيب فيها إذن؛ كما قال تعالى: {وَأَعِدُّوا لَهُمْ مَا اسْتَطَعْتُمْ مِنْ قُوَّةٍ}، فالعمل في إعداد المستطاع من القوة امتثالاً لأمر اللَّه تعالى وسعيًا في مرضاته، وإعلاء كلمته ليس من جنس علم الكفار الغافلين عن الآخرة كما ترى، والآيات بمثل ذلك كثيرة، والعلم عند اللَّه تعالى.
سورة الروم
قوله تعالى: {وَعْدَ اللَّهِ لا يُخْلِفُ اللَّهُ وَعْدَهُ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ * يَعْلَمُونَ ظَاهِراً مِنَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَهُمْ عَنِ الْآخِرَةِ هُمْ غَافِلُونَ َ}.
تنبيــه
اعلم أنه يجب على كل مسلم في هذا الزمان أن يتدبّر آية "الروم" هذه تدبّرًا كثيرًا، ويبيّن ما دلّت عليه لكل من استطاع بيانه له من الناس.
وإيضاح ذلك أن من أعظم فتن آخر الزمان التي ابتلى اللَّه بها ضعاف العقول من المسلمين، شدّة إتقان الإفرنج لأعمال الحياة الدنيا، ومهارتهم فيها على كثرتها، واختلاف أنواعها مع عجز المسلمين عن ذلك، فظنوا أن من قدر على تلك الأعمال أنه على الحق، وأن من عجز عنها متخلّف وليس على الحق، وهذا جهل فاحش، وغلط فادح. وفي هذه الآية الكريمة إيضاح لهذه الفتنة، وتخفيف لشأنها أنزله اللَّه في كتابه قبل وقوعها بأزمان كثيرة، فسبحان الحكيم الخبير ما أعلمه، وما أعظمه، وما أحسن تعليمه.
فقد أوضح جلَّ وعلا في هذه الآية الكريمة أن {وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ}، ويدخل فيهم أصجاب هذه العلوم الدنيوية دخولاً أوليًّا، فقد نفى عنهم جلَّ وعلا اسم العلم بمعناه الصحيح الكامل، لأنهم لا يعلمون شيئًا عمّن خلقهم، فأبرزهم من العدم إلى الوجود، ورزقهم، وسوف يميتهم، ثم يحييهم، ثم يجازيهم على أعمالهم، ولم يعلموا شيئًا عن مصيرهم الأخير الذي يقيمون فيه إقامة أبديّة في عذاب فظيع دائم، ومن غفل عن جميع هذا فليس معدودًا من جنس من يعلم؛ كما دلّت عليه الآيات القرءانيّة المذكورة، ثم لما نفى عنهم جلَّ وعلا اسم العلم بمعناه الصحيح الكامل، أثبت لهم نوعًا من العلم في غاية الحقارة بالنسبة إلى غيره.
وعاب ذلك النوع المذكور من العلم، بعيبين عظيمين:
أحدهما: قلّته وضيق مجاله، لأنه لا يجاوز {ظَاهِراً مِنَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا}، والعلم المقصور على ظاهر من الحياة الدنيا في غاية الحقارة، وضيق المجال بالنسبة إلى العلم بخالق السماواتوالأرض جلَّ وعلا، والعلم بأوامره ونواهيه، وبما يقرب عبده منه، وما يبعده عنه، وما يخلد في النعيم الأبدي والعذاب الأبدي، من أعمال الخير والشر.
والثاني منهما: هو دناءه هدف ذلك العلم، وعدم نبل غايته، لأنه لا يتجاوز الحياة الدنيا، وهي سريعة الانقطاع والزوال، ويكفيك من تحقير هذا العلم الدنيوي أن أجود أوجه الإعراب في قوله: {يَعْلَمُونَ ظَاهِراً}، أنه بدل من قوله قبله {لا يَعْلَمُونَ}، فهذا العلم كلا علم لحقارته.
قال الزمخشري في "الكشاف" : "وقوله: {يَعْلَمُونَ} بدل من قوله: {لا يَعْلَمُونَ}، وفي هذا الإبدال من النكتة أنه أبدله منه وجعله بحيث يقوم مقامه، ويسد مسدّه ليعلمك أنه لا فرق بين عدم العلم الذي هو الجهل، وبين وجود العلم الذي لا يتجاوز الدنيا.
وقوله: {ظَاهِراً مِنَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا} يفيد أن للدنيا ظاهرًا وباطنًا فظاهرها ما يعرفه الجهال من التمتع بزخارفها، والتنعّم بملاذها، وباطنها وحقيتها أنها مجاز إلى الآخرة، يتزوّد منها إليها بالطاعة والأعمال الصالحة، وفي تنكير الظاهر أنهم لا يعلمون إلا ظاهرًا واحدًا من ظواهرها. و {هُمْ} الثانية يجوز أن يكون مبتدأ، و {غَافِلُونَ} خبره، والجملة خبر {هُمْ} الأولى، وأن يكون تكريرًا للأولى، و {غَافِلُونَ} خبر الأولى، وأية كانت فذكرها مناد على أنهم معدن الغفلة عن الآخرة، ومقرّها، ومحلّها وأنها منهم تنبع وإليهم ترجع، انتهى كلام صاحب "الكشاف" .
وقال غيره: وفي تنكير قوله: {ظَاهِراً} تقليل لمعلومهم، وتقليله يقربه من النفي، حتى يطابق المبدل منه، اهـ، ووجهه ظاهر.
واعلم أن المسلمين يجب عليهم تعلّم هذه العلوم الدنيوية، كما أوضحنا ذلك غاية الإيضاع في سورة "مريم" ، في الكلام على قوله تعالى: {أَطَّلَعَ الْغَيْبَ أَمِ اتَّخَذَ عِنْدَ الرَّحْمَنِ عَهْداً}، وهذه العلوم الدنيوية التي بيّنا حقارتها بالنسبة إلى ما غفل عنه أصحابها الكفار، إذا تعلّمها المسلمون، وكان كل من تعليمها واستعمالها مطابقًا لما أمر اللَّه به على لسان نبيّه صلى الله عليه وسلم، كانت من أشرف العلوم وأنفعها؛ لأنها يستعان بها على إعلاء كلمة اللَّه ومرضاته جلَّ وعلا، وإصلاح الدنيا والآخرة، فلا عيب فيها إذن؛ كما قال تعالى: {وَأَعِدُّوا لَهُمْ مَا اسْتَطَعْتُمْ مِنْ قُوَّةٍ}، فالعمل في إعداد المستطاع من القوة امتثالاً لأمر اللَّه تعالى وسعيًا في مرضاته، وإعلاء كلمته ليس من جنس علم الكفار الغافلين عن الآخرة كما ترى، والآيات بمثل ذلك كثيرة، والعلم عند اللَّه تعالى.
أضواء البيان في إيضاح القرآن بالقرآن - الجزء السادس
تأليف:
محمد الأمين بن محمد بن المختار الجكني الشنقيطي
تأليف:
محمد الأمين بن محمد بن المختار الجكني الشنقيطي