بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله رب العالمين والصلاة والسلام على المبعوث رحمة للعالمين وعلى آله وصحبه وسلم تسليما كثيرا :
أما بعد :
هذه وصية الله لعباده أُتبعها بوصايا لقمان لابنه وهو يعظه ، وقد أخبرنا الله بها لما فيها من حكمٍ عظيمة ، أتاها الله تعالى لهذا العبد الصالح، وامتنّ بها عليه وأنزل فيها قرآنا يتلى في الصلوات ، والمحاريب ، ويُذّكر بها في الدروس والمواعظ ،والمحافل والمساجد إلى يوم القيامة ، وما ذكرها الله تعالى في كتابه إلا لتكون نبراسا يحتذى به ، ومنهاجا للحياة الإيمانية السعيدة المطمئنة ، والله عز وجل لايرفع من شأن شيء إلا بقدر قيمته ، كيف لا وقد قال سبحانه في ذلك : {{ يُؤتِي الْحِكْمَةَ مَن يَشَاء وَمَن يُؤْتَ الْحِكْمَةَ فَقَدْ أُوتِيَ خَيْرًا كَثِيرًا وَمَا يَذَّكَّرُ إِلاَّ أُوْلُواْ الأَلْبَابِ}} (269) سورة البقرة.
فقد أَتى اللهُ لقمانَ الحكمة ، وبها أُوتي الخيرَ الكثير ، قال تعالى :{{ ولقد ءَاتينا لُقمانَ الحِكمةَ أَنِ اشكُر لله ، ومن يشكر فإنّما يشكر لنفسه ومن كفر فإنّ الله غنّى حميد}}فهل شكر لقمانُ اللهَ على هذه النعمة العظيمة ؟
والجواب نعم قد فعل ، وها هو يصرف هذه النعمة ويضعها موضعها الصحيح الذي كانت من أجله ، في وصايا وقواعد ليس لابنه فحسب بل لأجيال وأجيال إلى أن يرث الله الأرض ومن عليها ، وهل استفادت تلك الأجيال المتعاقبة منها ؟؟
للأسف الشديد لم يستفد منها إلا القليل الذين استفادوا من نعمة الإيمان فشكروا الله تعالى على تلك النعمة وقد بينه تعالى بقوله :{{ يعرفون نعمة الله ثم ينكرونها وأكثرهم الكافرون }}{{وما أكثر النّاس ولو حصرت بمؤمنين }}{{ وقليل من عبادي الشكور }}ومن هنا جاءت وصية الله سبحانه وتعالى للأولين والآخرين بقوله : {{ .. وَلَقَدْ وَصَّيْنَا الَّذِينَ أُوتُواْ الْكِتَابَ مِن قَبْلِكُمْ وَإِيَّاكُمْ أَنِ اتَّقُواْ اللّهَ وَإِن تَكْفُرُواْ فَإِنَّ لِلّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الأَرْضِ وَكَانَ اللّهُ غَنِيًّا حَمِيدًا} (131) سورة النساء.فوصية الله تعالى بالتقوى ، وهي كلمة جامعة لخيري الدنيا والآخرة ، فمن أخذ بهذه الوصية العظيمة الجامعة[[ تقوى الله ]] وشكر الله تعالى عليها،حصل له من العلم والحكمة الخير الكثير ، قال تعالى : {{ واتقوا الله ويعلمكم الله }}.
قال الشيخ عبد الرحمن بن ناصر السعدي في هذه الآية من تفسيره [ج1/224] أن تقوى الله وسيلة إلى حصول العلم ، وأوضح من هذا قوله تعالى :{{ يا أيها الذين آمنوا إن تتقوا الله يجعل لكم فرقانا }} أي علما تفرقون به بين الحقائق ، والحق والباطل .
والوصية في اللسان العربي : هي الأمر ، فقوله تعالى :{{ ووصينا الإنسان }}أي أمرناه ،والوصية أيضا بمعنى الوصل ،لأنه وصل ما كان له في حياته بما بعد موته ، أفاده شيخي عليالهندي في رالته اللطيفة : المذكرات الجلية بتصرف سير .
وشرعا قال : تطلق على ما يقع به الزجر عن المنهيات والحث على المأمورات .فتح الباري [ج5/ 355].
والوصية هي الإرشاد بالحكمة إلى الحكمة ،وبالخير إلى الخير والبر ، واتقاء الشر والضر ، والتربية على الفضائل ،والترفع عن الرذائل ، وقد تكون دينية أو دنيوية ، كما تكون في الحياة أو عند حضور الأجل ، فالآباء يوصون أبنائهم ويربونهم على الأخلاق الفاضلة ، في حياتهم وعند حضور آجالهم ، والعلماء والمربون الربانيون يوصون طلابهم بالعلم وآداب الطلب والتحصيل كذلك ،على منهاج النبوة ، وأصدق ما وصى به موصٍ ونصح به ناصحٌ ما كانت وصيته ونصيحته عند حضور أجله ..
والوصية أنواع :
1 - وصية الميراث : وحكمها معلوم في الشرع ، وقد حث عليها رسول الله صلى الله عليه وسلم بقوله : "ما حق امرئ مسلم له شيء يوصي فيه يبيت ليلتين إلا ووصيته عنده مكتوبة" رواه البخاري ومسلم .
2 - وصية النصح وإرادة الخير للوصي : وهي ظاهرة عامة خصوصا عند دنو الأجل ؛ وقد كانت وصية رسول الله صلى الله عليه وسلم حين حضرته الوفاة : "الصلاة وما ملكت أيمانكم"صحيح الجامع [3767] وقوله :" استوصوا بالنساء خيرا .." متفق عليه وأورد أصحاب الحديث والسير وصايا بعض الأنبياء وغيرهم تختلف باختلاف المواقف والظروف، وفي بعضها نصح للأهل والولد أو لسائر الناس.
- وصية الاستخلاف : قال تعالى {{وَوَصَّى بِهَا إِبْرَاهِيمُ بَنِيهِ وَيَعْقُوبُ يَا بَنِيَّ إِنَّ اللّهَ اصْطَفَى لَكُمُ الدِّينَ فَلاَ تَمُوتُنَّ إَلاَّ وَأَنتُم مُّسْلِمُونَ}} (132) سورة البقرة }.وقد أوصى النبي صلى الله عليه وسلم إلى أبي بكر بعد موته ،كما أوصى أبو بكر إلى عمر وأوصى عمر أن تكون في الستة الذين توسم فيهم الأفضلية والكفاءة رضي الله عن الصحابة أجمعين
فما هي وصايا لقمان :
الوصية الأولى : {{وإذا قال لقمان لابنه وهو يعظه يا بني لاتشرك بالله إنّ الشرك لظلم عظيم }} لقمان :[13] .
في هذا الوصية من الفوائد :
1 - مشروعية وصية الوالد لابنه بما ينعفه ويصحح معتقده ..ويؤخذ منها مشروعية وصية الشيخ المعلم لتلميذه بذلك ، فإن المعلم بمنزلة الأب ،وإن حاجة الطالب إلى أبوة العلم أشد من حاجته إلى أبوة النسب ، فكيف إذا اجتمعت هاتين الخصلتين في الوالد فكان هو المربي وهو الشيخ وهو المعلم ، فبعدها لاتسأل ...
2 – مخاطبة المُوصي لوصيه بألطف العبارة ، وأرق الألفاظ لتكون ادعى للقبول وأجدى نفعا ..
3 – البداءة بالأهم فالمهم ، وأهم شيء يوصي به الأب المربي والشيخ المعلم ولده هو العلم بالله تعالى ، وإفراده بالعبادة ، إذ عليها النجاة والخسران يوم القيامة .
4 – التحذير من الشرك بالله تعالى بجميع أنواعه بتَعَلُمه ، ليس لذاته وإنما لتوقيه حتى لا يقع فيه ، لأنه إذا وقع فيه وقع في أعظم الظلم .
5 – تشير الوصية أن الشرك من أعظم الظلم فوجب الحذر منه ، واجتنابه والتحذير منه .
6 – في الآية بيان لفهم الصحابة الذين فهموا الظلم على غير وجهه ، فلما نزل قول الله تعالى : {{ الذين آمنوا ولم يلبسوا إيمانهم بظلم أولئك لهم الأمن وهم مهتدون }} شق ذلك عليهم ، وقالوا أينا لم يظلم نفسه ؟ ففهموا أن الظلم عام ، فقال لهم الرسول صلى الله عليه وسلم : << ليس ذلك ، إنما هو الشرك ، ألم تسمعوا قول لقمان لابنه : يا بني لا تشرك بالله ، إن الشرك لظلم عظيم >>.
7 – على المُتربي والوَصي أن يبحث عن رفع المشقة عن نفسه ، وأن يسأل عن ذلك أهل الاختصاص ، حتى يرتاح باله وتطمئن نفسه {{فاسألوا أهل الذكر إن كنتم لا تعلمون }}وذلك ما فعله الصحابة لما أشكل عليهم .
8 – ينبغي على الوالد المربي والشيخ المعلم أن يبين اللبس والإشكال الذي يحصل لولده ووصيه ، برد المتشابه إلى المحكم ،وقد بين لهم النبي صلى الله عليه وسلم ذلك.
9 – بيان أن من حقق التوحيد جاء آمنا يوم القيامة حتى لو كان عنده بعض الظلم ، فقول الصحابة رضوان الله عليهم أينا لم يظلم نفسه ؟ ورد النبي عليهم بأنه ليس ذلك الظلم
الذي فهموه ، وإنما هو الشرك ، أما غيره من الظلم حتى لو حصل من العبد فهو آمن يوم القيامة مادام لم يشرك بالله شيئا ، وبيان ذلك الآية المذكورة آنفا، وجاء في الحديث القدسي قال الله تعالى :<< قال الله تبارك وتعالى يا ابن آدم إنك ما دعوتني ورجوتني غفرت لك على ما كان فيك ولا أبالي يا ابن آدم لو بلغت ذنوبك عنان السماء ثم استغفرتني غفرت لك ولا أبالي يا ابن آدم إنك لو أتيتني بقراب الأرض خطايا ثم لقيتني لا تشرك بي شيئا لأتيتك بقرابها مغفرة >>صحيح الترمذي للألباني[ح 3540 ] وفي السلسلة الصحيحة [127 ].
وهذا لا يعني إطلاقا أنه لايضر مع الإيمان ذنب ، فلو كان الأمر كذلك ماجاء في باقي الوصايا بالنهي عن تلك المعاصي الكبيرة التي تخدش في إيمان العبد ولا تبطله ـ وتطهير العبد من ذنوبه التي أصابها بدخوله النار لاينافي عدم الأمن لأن هذا تكفير وتطهير حتى يناسب دار الكرامة الطاهرة ..
يتبع إن شاء الله .. مع باقي الوصايا ..
وصلى اللهم وسلم على عبدك ورسولك محمد وعلى آله وصحبه وسلم .
تعليق