العلم والإيمان أفضل ما تكسبه النفس ويحصله القلب :
قال الإمام شمس الدين أبي عبد الله ابن قيم الجوزية :
أفضل ما تكسبه النفوس وحصلته القلوب، ونال به العبد الرفعة في الدنيا والآخرة هو العلم والإيمان، ولهذا قرن بينهما سبحانه في قوله: « وقال الذين أوتوا العلم والإيمان لقد لبثتم في كتاب الله إلى يوم البعث» الآية 56 من سورة الروم وقوله: « يرفع الله الذين آمنوا منكم والذين أوتوا العلم درجات» الآية 11 من سورة المجادلة وهؤلاء هم خلاصة الوجود ولبه المؤهلون للمراتب العالية، ولكن أكثر الناس غالطون في حقيقة مسمى العلم والإيمان اللذين بهما السعادة والرفعة وفي حقيقتهما، حتى أن كل طائفة تظن أن ما معها من العلم والإيمان هو الذي به تنال السعادة، وليس كذلك بل أكثرهم ليس معهم إيمان ينجي ولا علم يرفع، بل قد سدوا على نفوسهم طرق العلم والإيمان اللذين جاء بهما الرسول صلى الله عليه وسلم ودعا إليهما الأمة، وكان عليهما هو أصحابه من بعده وتابعوهم على منهاجهم وآثارهم.
فكل طائفة اعتقدت أن العلم ما معها وفرحت به، «فتقطعوا أمرهم بينهم زبراً كل حزب بما لديهم فرحون» الآية 53 من سورة المؤمنون وأكثر ما عندهم كلام وآراء و خرص، والعلم وراء الكلام، كما قال حماد بن زيد: قلت لأيوب: العلم اليوم أكثر أو فيما تقدم؟ فقال: الكلام اليوم أكثر، والعلم فيما تقدم أكثر.
ففرق هذا الراسخ بين العلم بمعزل عن أكثرها، وهو ما جاء به الرسول عن الله قال تعالى: « فمن حاجك فيه من بعد ما جاءك من العلم» الآية 61 من سورة آل عمران وقال : « ولئن اتبعت أهواءهم بعد الذي جاءك من العلم» الآية 120 من سورة البقرة وقال القرآن: «أنزله بعلمه» الآية 166 من سورة النساء أي وفيه علمه.
ولما بعد العهد بهذا العلم آل الأمر بكثير من الناس إلى أن اتخذوا هواجس الأفكار و سوانح الخواطر والآراء علماً، ووضعوا فيها الكتب وأنفقوا فيها الأنفاس فضيعوا فيها الزمان، وملئوا بها الصحف مدادا، والقلوب سواداً، حتى صرح كثير منهم أنهم ليس في القرآن والسنة علم وأن أدلتهم لفظية لا تفيد يقيناً ولا علماً، صرخ الشيطان بهذه الكلمة فيهم وأذَّن بها بين أظهرهم حتى أسمعها دانيهم لقاصيهم، فانسخلت بها القلوب من العلم والإيمان كانسلاخ الحية من قشرها والثوب عن لابسه.
قال الإمام العلامة شمس الدين ابن القيم: أخبرني بعض أصحابنا عن بعض أتباع تلاميذ هؤلاء أنه رآه يشتغل في بعض كتبهم ولا يحفظ القرآن فقال له: لو حفظت القرآن أولاً كان أولى، فقال: وهل في القرآن علم؟ قال ابن القيم: وقال لي بعض أئمة هؤلاء: إنما نسمع الحديث لأجل البركة لا لنستفيد منه العلم؛ لأن غيرنا قد كفانا هذه المؤنة، فعمدتنا على ما فهموه وقرروه، ولا شك أن من كان هذا مبلغه من العلم فهو كما قال القائل:
نزلوا بمكة في قبائل هاشم * * * ونزلت بالبطحاء أبعد منزل
قال: وقال لي شيخنا مرة في وصف هؤلاء: إنهم طافوا على أرباب المذاهب ففازوا بأخس المطالب، ويكفيك دليلاً على أن هذا عندهم ليس من عند الله ما ترى فيه من التناقض والاختلاف و مصادمة بعضه للبعض، قال تعالى: «ولو كان من عند غير الله لوجدوا فيه اختلافاً كثيراً» الآية 82 من سورة النساء وهذا يدل على أن ما كان من عنده سبحانه لا يختلف.
وأن ما اختلف وتناقض فليس من عنده وكيف تكون الآراء والخيارات و سوانح الأفكار دينا يدان به ويحكم به على الله ورسوله؟
سبحانك هذا بهتان عظيم وقد كان علم الصحابة الذي يتذاكرون فيه غير علوم هؤلاء المختلفين الخراصين كما حكى الحاكم في ترجمة أبي عبد الله البخاري قال: كان أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا اجتمعوا إنما يتذاكرون كتاب ربهم وسنة نبيهم ليس بينهم رأي ولا قياس. ولقد
أحسن القائل:
العلم قال الله قــال رسولـه * * * قال الصحابة وليس بالتمويه
ما العلم نصبك للخلاف سفاهة * * * بين الرسول وبين رأى فقيه
كلا ولا جحد الصفات ونفيها * * * حذراً من التمثيل والتشبيه
الإيمان المفصل معرفة وعلم وإقرار ومحبة :
وأما الإيمان فأكثر الناس أو كلهم يدعونه « وما أكثر الناس ولو حرصت بمؤمنين» الآية 103 من سورة يوسف وأكثر المؤمنين إنما عندهم إيمان مجمل، وأما الإيمان المفصل بما جاء به الرسول صلى الله عليه وسلم معرفة وعلماً وإقراراً ومحبة، ومعرفة بضده وكراهيته وبغضه، فهذا إيمان خواص الأمة وخاصة الرسول، وهو إيمان الصديق وحزبه.
وكثير من الناس حظهم من الإيمان الإقرار بوجود الصانع، وأنه وحده هو الذي خلق السموات والأرض وما بينهما، وهذا لم يكن ينكره عباد الأصنام من قريش ونحوهم.
وآخرون الإيمان عندهم هو التكلم بالشهادتين، سواء كان معه عمل أو لم يكن، وسواء وافق تصديق القلب أو خالفه.
وآخرون عندهم الإيمان مجرد تصديق القلب بأن الله سبحانه خالق السموات والأرض وأن محمداً عبده ورسوله، وإن لم يقر بلسانه ولم يعمل شيئاً، بل ولو سب الله ورسوله وأتى عظمته، وهو يعتقد وحدانية الله ونبوة رسوله فهو مؤمن.
وآخرون عندهم الإيمان هو جحد صفات الرب تعالى من علوه على عرشه وتكلمه بكلماته وكتبه وسمعه وبصره ومشيئته وقدرته وإرادته وحبه وبغضه وغير ذلك مما وصف به نفسه، ووصفه به رسوله، فالإيمان عندهم إنكار حقائق ذلك كله، وجحده والوقوف مع ما تقتضيه آراء المتهوكين وأفكار المخرصين الذين يرد بعضهم على بعض، وينتقض بعضهم قول بعض، الذين هم كما قال عمر بن الخطاب والإمام أحمد: مختلفون في الكتاب مخالفون للكتاب، متفقون على مفارقة الكتاب.
وآخرون عندهم الإيمان عبادة الله بحكم أذواقهم و مواجيدهم وما تهواه نفوسهم من غير تقييد بما جاء به الرسول صلى الله عليه وسلم.
وآخرون الإيمان عندهم ما وجدوا عليه آباءهم وأسلافهم بحكم الاتفاق كائنا ما كان، بل إيمانهم مبني على مقدمتين:
« إحداهما: » أن هذا قول أسلافنا وآبائنا ، و «الثانية:» أن ما قالوه فهو الحق.
وآخرون عندهم الإيمان مكارم الأخلاق وحسن المعاملة وطلاقة الوجه وإحسان الظن بكل أحد، و تخلية الناس و غفلاتهم.
وآخرون عندهم الإيمان: التجرد من الدنيا وعلائقها وتفريغ القلب منها والزهد فيها، فإذا رأوا رجلاً هكذا جعلوه من سادات أهل الإيمان وإن كان منسلخاً من الإيمان علماً وعملاً.
وأعلى من هؤلاء من جعل الإيمان هو مجرد العلم وإن لم يقارنه عمل وكل هؤلاء لم يعرف حقيقة الإيمان ولا قاموا به ولا قام بهم وهم أنواع: منهم من جعل الإيمان ما يضاد الإيمان، ومنهم من جعل الإيمان ما لا يعتبر في الإيمان، ومنهم من جعله ما هو شرط فيه ولا يكفي في حصوله، ومنهم من اشترط في ثبوته ما يناقضه و يضاده، ومنهم من اشترط فيه ما ليس منه بوجه.
انتهى كلامه - رحمه الله -
من كتاب : الفوائد_للإمام شمس الدين أبي عبد الله بن قيم الجوزية
قال الإمام شمس الدين أبي عبد الله ابن قيم الجوزية :
أفضل ما تكسبه النفوس وحصلته القلوب، ونال به العبد الرفعة في الدنيا والآخرة هو العلم والإيمان، ولهذا قرن بينهما سبحانه في قوله: « وقال الذين أوتوا العلم والإيمان لقد لبثتم في كتاب الله إلى يوم البعث» الآية 56 من سورة الروم وقوله: « يرفع الله الذين آمنوا منكم والذين أوتوا العلم درجات» الآية 11 من سورة المجادلة وهؤلاء هم خلاصة الوجود ولبه المؤهلون للمراتب العالية، ولكن أكثر الناس غالطون في حقيقة مسمى العلم والإيمان اللذين بهما السعادة والرفعة وفي حقيقتهما، حتى أن كل طائفة تظن أن ما معها من العلم والإيمان هو الذي به تنال السعادة، وليس كذلك بل أكثرهم ليس معهم إيمان ينجي ولا علم يرفع، بل قد سدوا على نفوسهم طرق العلم والإيمان اللذين جاء بهما الرسول صلى الله عليه وسلم ودعا إليهما الأمة، وكان عليهما هو أصحابه من بعده وتابعوهم على منهاجهم وآثارهم.
فكل طائفة اعتقدت أن العلم ما معها وفرحت به، «فتقطعوا أمرهم بينهم زبراً كل حزب بما لديهم فرحون» الآية 53 من سورة المؤمنون وأكثر ما عندهم كلام وآراء و خرص، والعلم وراء الكلام، كما قال حماد بن زيد: قلت لأيوب: العلم اليوم أكثر أو فيما تقدم؟ فقال: الكلام اليوم أكثر، والعلم فيما تقدم أكثر.
ففرق هذا الراسخ بين العلم بمعزل عن أكثرها، وهو ما جاء به الرسول عن الله قال تعالى: « فمن حاجك فيه من بعد ما جاءك من العلم» الآية 61 من سورة آل عمران وقال : « ولئن اتبعت أهواءهم بعد الذي جاءك من العلم» الآية 120 من سورة البقرة وقال القرآن: «أنزله بعلمه» الآية 166 من سورة النساء أي وفيه علمه.
ولما بعد العهد بهذا العلم آل الأمر بكثير من الناس إلى أن اتخذوا هواجس الأفكار و سوانح الخواطر والآراء علماً، ووضعوا فيها الكتب وأنفقوا فيها الأنفاس فضيعوا فيها الزمان، وملئوا بها الصحف مدادا، والقلوب سواداً، حتى صرح كثير منهم أنهم ليس في القرآن والسنة علم وأن أدلتهم لفظية لا تفيد يقيناً ولا علماً، صرخ الشيطان بهذه الكلمة فيهم وأذَّن بها بين أظهرهم حتى أسمعها دانيهم لقاصيهم، فانسخلت بها القلوب من العلم والإيمان كانسلاخ الحية من قشرها والثوب عن لابسه.
قال الإمام العلامة شمس الدين ابن القيم: أخبرني بعض أصحابنا عن بعض أتباع تلاميذ هؤلاء أنه رآه يشتغل في بعض كتبهم ولا يحفظ القرآن فقال له: لو حفظت القرآن أولاً كان أولى، فقال: وهل في القرآن علم؟ قال ابن القيم: وقال لي بعض أئمة هؤلاء: إنما نسمع الحديث لأجل البركة لا لنستفيد منه العلم؛ لأن غيرنا قد كفانا هذه المؤنة، فعمدتنا على ما فهموه وقرروه، ولا شك أن من كان هذا مبلغه من العلم فهو كما قال القائل:
نزلوا بمكة في قبائل هاشم * * * ونزلت بالبطحاء أبعد منزل
قال: وقال لي شيخنا مرة في وصف هؤلاء: إنهم طافوا على أرباب المذاهب ففازوا بأخس المطالب، ويكفيك دليلاً على أن هذا عندهم ليس من عند الله ما ترى فيه من التناقض والاختلاف و مصادمة بعضه للبعض، قال تعالى: «ولو كان من عند غير الله لوجدوا فيه اختلافاً كثيراً» الآية 82 من سورة النساء وهذا يدل على أن ما كان من عنده سبحانه لا يختلف.
وأن ما اختلف وتناقض فليس من عنده وكيف تكون الآراء والخيارات و سوانح الأفكار دينا يدان به ويحكم به على الله ورسوله؟
سبحانك هذا بهتان عظيم وقد كان علم الصحابة الذي يتذاكرون فيه غير علوم هؤلاء المختلفين الخراصين كما حكى الحاكم في ترجمة أبي عبد الله البخاري قال: كان أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا اجتمعوا إنما يتذاكرون كتاب ربهم وسنة نبيهم ليس بينهم رأي ولا قياس. ولقد
أحسن القائل:
العلم قال الله قــال رسولـه * * * قال الصحابة وليس بالتمويه
ما العلم نصبك للخلاف سفاهة * * * بين الرسول وبين رأى فقيه
كلا ولا جحد الصفات ونفيها * * * حذراً من التمثيل والتشبيه
الإيمان المفصل معرفة وعلم وإقرار ومحبة :
وأما الإيمان فأكثر الناس أو كلهم يدعونه « وما أكثر الناس ولو حرصت بمؤمنين» الآية 103 من سورة يوسف وأكثر المؤمنين إنما عندهم إيمان مجمل، وأما الإيمان المفصل بما جاء به الرسول صلى الله عليه وسلم معرفة وعلماً وإقراراً ومحبة، ومعرفة بضده وكراهيته وبغضه، فهذا إيمان خواص الأمة وخاصة الرسول، وهو إيمان الصديق وحزبه.
وكثير من الناس حظهم من الإيمان الإقرار بوجود الصانع، وأنه وحده هو الذي خلق السموات والأرض وما بينهما، وهذا لم يكن ينكره عباد الأصنام من قريش ونحوهم.
وآخرون الإيمان عندهم هو التكلم بالشهادتين، سواء كان معه عمل أو لم يكن، وسواء وافق تصديق القلب أو خالفه.
وآخرون عندهم الإيمان مجرد تصديق القلب بأن الله سبحانه خالق السموات والأرض وأن محمداً عبده ورسوله، وإن لم يقر بلسانه ولم يعمل شيئاً، بل ولو سب الله ورسوله وأتى عظمته، وهو يعتقد وحدانية الله ونبوة رسوله فهو مؤمن.
وآخرون عندهم الإيمان هو جحد صفات الرب تعالى من علوه على عرشه وتكلمه بكلماته وكتبه وسمعه وبصره ومشيئته وقدرته وإرادته وحبه وبغضه وغير ذلك مما وصف به نفسه، ووصفه به رسوله، فالإيمان عندهم إنكار حقائق ذلك كله، وجحده والوقوف مع ما تقتضيه آراء المتهوكين وأفكار المخرصين الذين يرد بعضهم على بعض، وينتقض بعضهم قول بعض، الذين هم كما قال عمر بن الخطاب والإمام أحمد: مختلفون في الكتاب مخالفون للكتاب، متفقون على مفارقة الكتاب.
وآخرون عندهم الإيمان عبادة الله بحكم أذواقهم و مواجيدهم وما تهواه نفوسهم من غير تقييد بما جاء به الرسول صلى الله عليه وسلم.
وآخرون الإيمان عندهم ما وجدوا عليه آباءهم وأسلافهم بحكم الاتفاق كائنا ما كان، بل إيمانهم مبني على مقدمتين:
« إحداهما: » أن هذا قول أسلافنا وآبائنا ، و «الثانية:» أن ما قالوه فهو الحق.
وآخرون عندهم الإيمان مكارم الأخلاق وحسن المعاملة وطلاقة الوجه وإحسان الظن بكل أحد، و تخلية الناس و غفلاتهم.
وآخرون عندهم الإيمان: التجرد من الدنيا وعلائقها وتفريغ القلب منها والزهد فيها، فإذا رأوا رجلاً هكذا جعلوه من سادات أهل الإيمان وإن كان منسلخاً من الإيمان علماً وعملاً.
وأعلى من هؤلاء من جعل الإيمان هو مجرد العلم وإن لم يقارنه عمل وكل هؤلاء لم يعرف حقيقة الإيمان ولا قاموا به ولا قام بهم وهم أنواع: منهم من جعل الإيمان ما يضاد الإيمان، ومنهم من جعل الإيمان ما لا يعتبر في الإيمان، ومنهم من جعله ما هو شرط فيه ولا يكفي في حصوله، ومنهم من اشترط في ثبوته ما يناقضه و يضاده، ومنهم من اشترط فيه ما ليس منه بوجه.
انتهى كلامه - رحمه الله -
من كتاب : الفوائد_للإمام شمس الدين أبي عبد الله بن قيم الجوزية