بسم الله الرحمن الرحيم
السلام عليكم ورحمة الله وبركاته
عبارات موهمة
بقلم / د.محمد بن عمر بازمول
السلام عليكم ورحمة الله وبركاته
عبارات موهمة
بقلم / د.محمد بن عمر بازمول
إن الحمد لله، نحمده، و نستعينه ، و نستغفره، ونعوذ بالله، من شرور أنفسنا، ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له.
وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له.
وأشهد أن محمداً عبده ورسوله صلى الله عليه وسلم .
﴿يَاأَيُّهَا الّذِينَ آمَنُواْ اتّقُواْ اللّهَ حَقّ تُقَاتِهِ وَلاَتَمُوتُنّ إِلاّ وَأَنْتُمْ مّسْلِمُونَ﴾
﴿يَآأَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوْا رَبَّكُمُ الَّذِيْ خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالاً كَثِيْراً وَنِسَآءً وَاتَّقُوْا اللَّهَ الَّذِيْ تَسَآءَلُونَ بِهِ وَالأَرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيْباً﴾
﴿يَاأَيُّهَا الّذِينَ آمَنُواْ اتّقُواْ اللّهَ وَقُولُواْ قَوْلاً سَدِيداً. يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَن يُطِعِ اللّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزاً عَظِيماً﴾.
أما بعد: فإن أصدق الكلام كلام الله، وخير الهدي هدي محمد، وشرّ الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة، وكل ضلالة في النار.
أمّـا بعد: فإني أريد في هذه المقالة التنبيه على ألفاظ وعبارات تجري على ألسن بعض الناس يتوهمون صحتها وصوابها، وهي على أحوال:
تارة تكون الكلمة حق ولكن تستعمل في غير محلها.
وتارة تكون حقاً ولكن يريد بها قائلها معنى باطلاً، فهي كلمة حق أريد بها باطل.
وتارة تكون الكلمة باطلة جملة وتفصيلاً.
وتارة تأتي الكلمة محتملة لمعنيين، فتصح على أحدهما وتكون باطلة على الآخر.
والتنبيه على هذه العبارات ونحوها في هذه الأحوال من المهمات، خاصة وأن استعمال أمثال هذه العبارات جرى من بعض الناس لتقرير الباطل وإلباسه لباس الحق، وهم يزخرفون بدعتهم بهذه الألفاظ موهمين صحة ما لديهم من باطل، ولا حول و لا قوة إلا بالله.
وقد قرر أن تيمية (ت728هـ) رحمه الله أن عمدة من يخالف الكتاب والسنة إمّا أن يحتج بأدلة عقلية، يظنها برهانا وأدلة قطعية، وتكون شبهات فاسدة مركبة من ألفاظ مجملة ومعان متشابهة لم يميز بين حقها وباطلها، كما يوجد مثل ذلك في جميع ما يحتج به من خالف الكتاب والسنة، إنما يركب حججه من ألفاظ متشابهة فإذا وقع الاستفسار والتفصيل تبين الحق من الباطل، وهذه هي الحجج العقلية.
وإمّا أن يحتج بنقل كاذب، وهذه هي الحجج السمعية، فهي إما أن تكون كذبا على الرسول صلى الله عليه وسلم، أو تكون غير دالة على ما احتج بها أهل الباطل؛ فالمنع إما في الإسناد، وإما في المتن ودلالته على ما ذكر، وهذه الحجة السمعية هذه حجة أهل العلم الظاهر.
وإمّا أن يحتج بخطاب ألقي إليهم اعتقدوا أنه من الله وكان من إلقاء الشيطان، وهذه هي حجة أهل الذوق والوجد والمكاشفة والمخاطبة؛ وهي على نوعين :
فإن أهل الحق من هؤلاء لهم الهامات صحيحة مطابقة.
ويقع أيضا ما يظن أنه منه كثير أو لا يميز كثير منهم الحق من الباطل كما يقع في الأدلة العقلية والسمعية، فمن هؤلاء من يسمع خطابا أو يرى من يأمر بقضية ويكون ذلك الخطاب من الشيطان ويكون ذلك الذي يخاطبه الشيطان وهو يحسب أنه من أولياء الله من رجال الغيب، ورجال الغيب هم الجن وهو يحسب أنه أنسي، وقد يقول له: أنا الخضر أو إلياس بل أنا محمد أو إبراهيم الخليل أو المسيح أو أبو بكر أو عمر أو أنا الشيخ فلان أو الشيخ فلان ممن يحسن بهم الظن، وقد يطير به في الهواء أو يأتيه بطعام أو شراب أو نفقة، فيظن هذا كرامة بل آية ومعجزة تدل على أن هذا من رجال الغيب أو من الملائكة، ويكون ذلك شيطانا لبس عليه، فهؤلاء يتبعون ظنا لا يغني من الحق شيئا. ولو لم يتقدموا بين يدي الله ورسوله بل اعتصموا بالكتاب والسنة لتبين لهم أن هذا من الشيطان.
وكثير من هؤلاء يتبع ذوقه ووجده وما يجده محبوبا إليه بغير علم ولا هدى ولا بصيرة، فيكون متبعا لهواه بلا ظن، وخيارهم من يتبع الظن وما تهوى الأنفس، وهؤلاء إذا طلب من أحدهم حجة ذكر تقليده لمن يحبه من آبائه وأسلافه، كقول المشركين: ﴿إِنَّا وَجَدْنَا آبَاءَنَا عَلَى أُمَّةٍ وَإِنَّا عَلَى آثَارِهِمْ مُقْتَدُونَ﴾ (الزخرف: من الآية23). وإن عكسوا احتجوا بالقدر وهو أن الله أراد هذا وسلطنا عليه فهم يعملون بهواهم واردة نفوسهم بحسب قدرتهم كالملوك المسلطين؛
وكان الواجب عليهم أن يعملوا بما أمر الله، فيتبعون أمر الله وما يحبه ويرضاه، لا يتبعون إرادتهم وما يحبونه وهم يرضونه وأن يستعينوا بالله فيقولون: إياك نعبد وإياك نستعين، لا حول ولا قوة إلا بالله، لا يعتمدون على ما أوتوه من القوة والتصرف والحال، فإن هذا من الجد وقد كان النبي صلى الله عليه وسلم يقول عقب الصلاة وفى الاعتدال بعد الركوع: "اللهم لا مانع لما أعطيت ولا معطى لما منعت ولا ينفع ذا الجد منك الجد"، فالذوق والوجد هو يرجع إلى حب الإنسان ووجده بحلاوته وذوقه وطعمه وكل صاحب محبة فله في محبوبه ذوق ووجد، فان لم يكن ذلك بسلطان من الله وهو ما أنزله على رسوله صلى الله عليه وسلم كان صاحبه متبعا لهواه بغير هدى، وقد قال الله تعالى: ﴿وَمَنْ أَضَلُّ مِمَّنِ اتَّبَعَ هَوَاهُ بِغَيْرِ هُدىً مِنَ اللَّهِ﴾ (القصص: من الآية50)، وقال تعالى: ﴿وَمَا لَكُمْ أَلَّا تَأْكُلُوا مِمَّا ذُكِرَ اسْمُ اللَّهِ عَلَيْهِ وَقَدْ فَصَّلَ لَكُمْ مَا حَرَّمَ عَلَيْكُمْ إِلَّا مَا اضْطُرِرْتُمْ إِلَيْهِ وَإِنَّ كَثِيراً لَيُضِلُّونَ بِأَهْوَائِهِمْ بِغَيْرِ عِلْمٍ إِنَّ رَبَّكَ هُوَ أَعْلَمُ بِالْمُعْتَدِينَ﴾ (الأنعام:119).
وكذلك من اتبع ما يرد عليه من الخطاب أو ما يراه من الأنوار والأشخاص الغيبية، ولا يعتبر ذلك بالكتاب والسنة فإنما يتبع ظنا لا يغنى من الحق شيئا.
وليس في المحدثين الملهمين أفضل من عمر رضي الله عنه، وكل من كان من أهل الإلهام والخطاب والمكاشفة لم يكن أفضل من عمر فعليه أن يسلك سبيله في الاعتصام بالكتاب والسنة تبعا لما جاء به الرسول لا يجعل ما جاء به الرسول تبعا لما ورد عليه.
وهؤلاء الذين أخطؤا وضلوا وتركوا ذلك واستغنوا بما ورد عليهم، وظنوا أن ذلك يغنيهم عن اتباع العلم المنقول، وصار أحدهم يقول: أخذوا علمهم ميتا عن ميت وأخذنا علمنا عن الحي الذي لا يموت. فيقال له: أما ما نقله الثقات عن المعصوم فهو حق ولولا النقل المعصوم لكنت أنت وأمثالك إما من المشركين وإما من اليهود والنصارى، وأما ما ورد عليك فمن أين لك أنه وحي من الله؟ ومن أين لك أنه ليس من وحى الشيطان؟ و الوحي وحيان: وحي من الرحمن، و وحي من الشيطان، قال تعالى: ﴿وَإِنَّ الشَّيَاطِينَ لَيُوحُونَ إِلَى أَوْلِيَائِهِمْ لِيُجَادِلُوكُمْ﴾ (الأنعام: من الآية121)، وقال تعالى: ﴿وَكَذَلِكَ جَعَلْنَا لِكُلِّ نَبِيٍّ عَدُوّاً شَيَاطِينَ الْأِنْسِ وَالْجِنِّ يُوحِي بَعْضُهُمْ إِلَى بَعْضٍ زُخْرُفَ الْقَوْلِ غُرُوراً﴾ (الأنعام: من الآية112)، و قال تعالى: ﴿هَلْ أُنَبِّئُكُمْ عَلَى مَنْ تَنَزَّلُ الشَّيَاطِينُ﴾ (الشعراء:221). وقد كان المختار بن أبى عبيد من هذا الضرب حتى قيل لابن عمر وابن عباس قيل لأحدهما: إنه يقول أنه يوحى إليه! فقال: وإن الشياطين ليوحون إلى أوليائهم ليجادلوكم. وقيل للآخر: أنه يقول أنه ينزل عليه! فقال: هل أنبئكم على من تنزل الشياطين، فهؤلاء يحتاجون إلى الفرقان الإيماني القرآني النبوي الشرعي أعظم من حاجة غيرهم ([1]).
والمقصود أن استعمال الألفاظ الموهمة هو من صنف الحجج العقلية التي تظن برهاناً ودليلاً قطعياً، وهي في حقيقتها شبهات فاسدة مركبة من ألفاظ مجملة، ومعاني متشابهة، لم يميز حقها من باطلها، فإذا وقع الاستفسار والتفصيل تبين الحق من الباطل، فأقول:
من العبارات الموهمة:
قول بعضهم : "الإيمان في القلب مثل السكر في فنجان الشاي نحتاج إلى تحريكه ليتحلى جميع الفنجان".
هذه العبارة يوردها بعض من يُسمى بـ (الأحباب)، للتدليل على أهمية الخروج معهم، والقيام بمثل ما يقومون به. والحقيقة إن هذه العبارة باطلة من وجوه، أذكر منها:
1) الإيمان إذا وجد في القلب لا بد أن يظهر أثره وموجبه بالممكن من العمل على جوارح ابن آدم، وهذا التلازم بين الظاهر والباطن دلّ عليه حديث الرسول صلى الله عليه وسلم، حيث قال: "... أَلَا وَإِنَّ فِي الْجَسَدِ مُضْغَةً إِذَا صَلَحَتْ صَلَحَ الْجَسَدُ كُلُّهُ وَإِذَا فَسَدَتْ فَسَدَ الْجَسَدُ كُلُّهُ أَلَا وَهِيَ الْقَلْبُ" متفق عليه من حديث النعمان بن بشير رضي الله عنه.
فإذا وجد الإيمان في القلب انفعلت الجوارح الظاهرة بمقتضاه و لا بد مع القدرة وعدم المانع، فدعوى وجود إيمان في القلب كالسكر في الفنجان و لا يظهر أثره وموجبه في الظاهر تتنافى مع هذا التقرير.
2) الإيمان عند أهل السنة والجماعة قول وعمل، فهو قول اللسان بالشهادة وسائر الأقوال التي تعبدنا بها شرعاً، وقول القلب بالمعرفة والتصديق، وعمل القلب بالمحبة لله ولرسوله والتسليم بالطاعة، والتعظيم لله عز وجل، وسائر عمل القلب من الخوف والرجاء والتوكل والخشية وغيرها، وعمل الجوارح بالطاعات وترك المعاصي، فالإيمان يقتضي العلم بأسماء الله وصفاته والعلم بأمره ونهيه، والعمل بمقتضى ذلك، فإذا وجد الإيمان بهذا المعنى فالقيام بالدعوة لصاحبه من أفضل الأعمال، أمّا من لم يحصل الإيمان على هذا الوصف فعليه أن يشتغل بتحصيل ذلك في نفسه قبل أن يذهب يدعو الناس إلى شيء ليس عنده، فإن فاقد الشيء لا يعطيه. ومن زعم أن الإيمان يوجد في القلب دون أن يوجد أثره في الظاهر ودون أن يحصل مقتضاه من العلم بأسماء الله وصفاته والعلم بأمره ونهيه، كيف يسوغ له أن يخرج للدعوة والتعليم؟
3) ثم نقول ما نفع حركة السكر في الفنجان إذا كان السكر قليلاً؟ فمهما حركته فإنه لا يؤثر؛ فلا بد من السعي لتحقيق الإيمان عند أهل السنة والجماعة، ومقتضاه من العلم بأسماء الله وصفاته، والعلم بأمره ونهيه والعمل بذلك.
وإذا كان السكر كثيراً فإن حركته تزيد من حلى الشاي فلا يستفاد منه، إذ لا يكون مستساغاً، فهنا حركته مضرة له ولغيره، وهذا خلاف حقيقي في هذه العبارة مع حقيقة الإيمان إذ الإيمان يزيد بالطاعات حتى يصير أمثال الجبال وينفع صاحبه و لا يضره، وينقص بالمعاصي حتى يكون مثل الهباء.
وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له.
وأشهد أن محمداً عبده ورسوله صلى الله عليه وسلم .
﴿يَاأَيُّهَا الّذِينَ آمَنُواْ اتّقُواْ اللّهَ حَقّ تُقَاتِهِ وَلاَتَمُوتُنّ إِلاّ وَأَنْتُمْ مّسْلِمُونَ﴾
﴿يَآأَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوْا رَبَّكُمُ الَّذِيْ خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالاً كَثِيْراً وَنِسَآءً وَاتَّقُوْا اللَّهَ الَّذِيْ تَسَآءَلُونَ بِهِ وَالأَرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيْباً﴾
﴿يَاأَيُّهَا الّذِينَ آمَنُواْ اتّقُواْ اللّهَ وَقُولُواْ قَوْلاً سَدِيداً. يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَن يُطِعِ اللّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزاً عَظِيماً﴾.
أما بعد: فإن أصدق الكلام كلام الله، وخير الهدي هدي محمد، وشرّ الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة، وكل ضلالة في النار.
أمّـا بعد: فإني أريد في هذه المقالة التنبيه على ألفاظ وعبارات تجري على ألسن بعض الناس يتوهمون صحتها وصوابها، وهي على أحوال:
تارة تكون الكلمة حق ولكن تستعمل في غير محلها.
وتارة تكون حقاً ولكن يريد بها قائلها معنى باطلاً، فهي كلمة حق أريد بها باطل.
وتارة تكون الكلمة باطلة جملة وتفصيلاً.
وتارة تأتي الكلمة محتملة لمعنيين، فتصح على أحدهما وتكون باطلة على الآخر.
والتنبيه على هذه العبارات ونحوها في هذه الأحوال من المهمات، خاصة وأن استعمال أمثال هذه العبارات جرى من بعض الناس لتقرير الباطل وإلباسه لباس الحق، وهم يزخرفون بدعتهم بهذه الألفاظ موهمين صحة ما لديهم من باطل، ولا حول و لا قوة إلا بالله.
وقد قرر أن تيمية (ت728هـ) رحمه الله أن عمدة من يخالف الكتاب والسنة إمّا أن يحتج بأدلة عقلية، يظنها برهانا وأدلة قطعية، وتكون شبهات فاسدة مركبة من ألفاظ مجملة ومعان متشابهة لم يميز بين حقها وباطلها، كما يوجد مثل ذلك في جميع ما يحتج به من خالف الكتاب والسنة، إنما يركب حججه من ألفاظ متشابهة فإذا وقع الاستفسار والتفصيل تبين الحق من الباطل، وهذه هي الحجج العقلية.
وإمّا أن يحتج بنقل كاذب، وهذه هي الحجج السمعية، فهي إما أن تكون كذبا على الرسول صلى الله عليه وسلم، أو تكون غير دالة على ما احتج بها أهل الباطل؛ فالمنع إما في الإسناد، وإما في المتن ودلالته على ما ذكر، وهذه الحجة السمعية هذه حجة أهل العلم الظاهر.
وإمّا أن يحتج بخطاب ألقي إليهم اعتقدوا أنه من الله وكان من إلقاء الشيطان، وهذه هي حجة أهل الذوق والوجد والمكاشفة والمخاطبة؛ وهي على نوعين :
فإن أهل الحق من هؤلاء لهم الهامات صحيحة مطابقة.
ويقع أيضا ما يظن أنه منه كثير أو لا يميز كثير منهم الحق من الباطل كما يقع في الأدلة العقلية والسمعية، فمن هؤلاء من يسمع خطابا أو يرى من يأمر بقضية ويكون ذلك الخطاب من الشيطان ويكون ذلك الذي يخاطبه الشيطان وهو يحسب أنه من أولياء الله من رجال الغيب، ورجال الغيب هم الجن وهو يحسب أنه أنسي، وقد يقول له: أنا الخضر أو إلياس بل أنا محمد أو إبراهيم الخليل أو المسيح أو أبو بكر أو عمر أو أنا الشيخ فلان أو الشيخ فلان ممن يحسن بهم الظن، وقد يطير به في الهواء أو يأتيه بطعام أو شراب أو نفقة، فيظن هذا كرامة بل آية ومعجزة تدل على أن هذا من رجال الغيب أو من الملائكة، ويكون ذلك شيطانا لبس عليه، فهؤلاء يتبعون ظنا لا يغني من الحق شيئا. ولو لم يتقدموا بين يدي الله ورسوله بل اعتصموا بالكتاب والسنة لتبين لهم أن هذا من الشيطان.
وكثير من هؤلاء يتبع ذوقه ووجده وما يجده محبوبا إليه بغير علم ولا هدى ولا بصيرة، فيكون متبعا لهواه بلا ظن، وخيارهم من يتبع الظن وما تهوى الأنفس، وهؤلاء إذا طلب من أحدهم حجة ذكر تقليده لمن يحبه من آبائه وأسلافه، كقول المشركين: ﴿إِنَّا وَجَدْنَا آبَاءَنَا عَلَى أُمَّةٍ وَإِنَّا عَلَى آثَارِهِمْ مُقْتَدُونَ﴾ (الزخرف: من الآية23). وإن عكسوا احتجوا بالقدر وهو أن الله أراد هذا وسلطنا عليه فهم يعملون بهواهم واردة نفوسهم بحسب قدرتهم كالملوك المسلطين؛
وكان الواجب عليهم أن يعملوا بما أمر الله، فيتبعون أمر الله وما يحبه ويرضاه، لا يتبعون إرادتهم وما يحبونه وهم يرضونه وأن يستعينوا بالله فيقولون: إياك نعبد وإياك نستعين، لا حول ولا قوة إلا بالله، لا يعتمدون على ما أوتوه من القوة والتصرف والحال، فإن هذا من الجد وقد كان النبي صلى الله عليه وسلم يقول عقب الصلاة وفى الاعتدال بعد الركوع: "اللهم لا مانع لما أعطيت ولا معطى لما منعت ولا ينفع ذا الجد منك الجد"، فالذوق والوجد هو يرجع إلى حب الإنسان ووجده بحلاوته وذوقه وطعمه وكل صاحب محبة فله في محبوبه ذوق ووجد، فان لم يكن ذلك بسلطان من الله وهو ما أنزله على رسوله صلى الله عليه وسلم كان صاحبه متبعا لهواه بغير هدى، وقد قال الله تعالى: ﴿وَمَنْ أَضَلُّ مِمَّنِ اتَّبَعَ هَوَاهُ بِغَيْرِ هُدىً مِنَ اللَّهِ﴾ (القصص: من الآية50)، وقال تعالى: ﴿وَمَا لَكُمْ أَلَّا تَأْكُلُوا مِمَّا ذُكِرَ اسْمُ اللَّهِ عَلَيْهِ وَقَدْ فَصَّلَ لَكُمْ مَا حَرَّمَ عَلَيْكُمْ إِلَّا مَا اضْطُرِرْتُمْ إِلَيْهِ وَإِنَّ كَثِيراً لَيُضِلُّونَ بِأَهْوَائِهِمْ بِغَيْرِ عِلْمٍ إِنَّ رَبَّكَ هُوَ أَعْلَمُ بِالْمُعْتَدِينَ﴾ (الأنعام:119).
وكذلك من اتبع ما يرد عليه من الخطاب أو ما يراه من الأنوار والأشخاص الغيبية، ولا يعتبر ذلك بالكتاب والسنة فإنما يتبع ظنا لا يغنى من الحق شيئا.
وليس في المحدثين الملهمين أفضل من عمر رضي الله عنه، وكل من كان من أهل الإلهام والخطاب والمكاشفة لم يكن أفضل من عمر فعليه أن يسلك سبيله في الاعتصام بالكتاب والسنة تبعا لما جاء به الرسول لا يجعل ما جاء به الرسول تبعا لما ورد عليه.
وهؤلاء الذين أخطؤا وضلوا وتركوا ذلك واستغنوا بما ورد عليهم، وظنوا أن ذلك يغنيهم عن اتباع العلم المنقول، وصار أحدهم يقول: أخذوا علمهم ميتا عن ميت وأخذنا علمنا عن الحي الذي لا يموت. فيقال له: أما ما نقله الثقات عن المعصوم فهو حق ولولا النقل المعصوم لكنت أنت وأمثالك إما من المشركين وإما من اليهود والنصارى، وأما ما ورد عليك فمن أين لك أنه وحي من الله؟ ومن أين لك أنه ليس من وحى الشيطان؟ و الوحي وحيان: وحي من الرحمن، و وحي من الشيطان، قال تعالى: ﴿وَإِنَّ الشَّيَاطِينَ لَيُوحُونَ إِلَى أَوْلِيَائِهِمْ لِيُجَادِلُوكُمْ﴾ (الأنعام: من الآية121)، وقال تعالى: ﴿وَكَذَلِكَ جَعَلْنَا لِكُلِّ نَبِيٍّ عَدُوّاً شَيَاطِينَ الْأِنْسِ وَالْجِنِّ يُوحِي بَعْضُهُمْ إِلَى بَعْضٍ زُخْرُفَ الْقَوْلِ غُرُوراً﴾ (الأنعام: من الآية112)، و قال تعالى: ﴿هَلْ أُنَبِّئُكُمْ عَلَى مَنْ تَنَزَّلُ الشَّيَاطِينُ﴾ (الشعراء:221). وقد كان المختار بن أبى عبيد من هذا الضرب حتى قيل لابن عمر وابن عباس قيل لأحدهما: إنه يقول أنه يوحى إليه! فقال: وإن الشياطين ليوحون إلى أوليائهم ليجادلوكم. وقيل للآخر: أنه يقول أنه ينزل عليه! فقال: هل أنبئكم على من تنزل الشياطين، فهؤلاء يحتاجون إلى الفرقان الإيماني القرآني النبوي الشرعي أعظم من حاجة غيرهم ([1]).
والمقصود أن استعمال الألفاظ الموهمة هو من صنف الحجج العقلية التي تظن برهاناً ودليلاً قطعياً، وهي في حقيقتها شبهات فاسدة مركبة من ألفاظ مجملة، ومعاني متشابهة، لم يميز حقها من باطلها، فإذا وقع الاستفسار والتفصيل تبين الحق من الباطل، فأقول:
من العبارات الموهمة:
قول بعضهم : "الإيمان في القلب مثل السكر في فنجان الشاي نحتاج إلى تحريكه ليتحلى جميع الفنجان".
هذه العبارة يوردها بعض من يُسمى بـ (الأحباب)، للتدليل على أهمية الخروج معهم، والقيام بمثل ما يقومون به. والحقيقة إن هذه العبارة باطلة من وجوه، أذكر منها:
1) الإيمان إذا وجد في القلب لا بد أن يظهر أثره وموجبه بالممكن من العمل على جوارح ابن آدم، وهذا التلازم بين الظاهر والباطن دلّ عليه حديث الرسول صلى الله عليه وسلم، حيث قال: "... أَلَا وَإِنَّ فِي الْجَسَدِ مُضْغَةً إِذَا صَلَحَتْ صَلَحَ الْجَسَدُ كُلُّهُ وَإِذَا فَسَدَتْ فَسَدَ الْجَسَدُ كُلُّهُ أَلَا وَهِيَ الْقَلْبُ" متفق عليه من حديث النعمان بن بشير رضي الله عنه.
فإذا وجد الإيمان في القلب انفعلت الجوارح الظاهرة بمقتضاه و لا بد مع القدرة وعدم المانع، فدعوى وجود إيمان في القلب كالسكر في الفنجان و لا يظهر أثره وموجبه في الظاهر تتنافى مع هذا التقرير.
2) الإيمان عند أهل السنة والجماعة قول وعمل، فهو قول اللسان بالشهادة وسائر الأقوال التي تعبدنا بها شرعاً، وقول القلب بالمعرفة والتصديق، وعمل القلب بالمحبة لله ولرسوله والتسليم بالطاعة، والتعظيم لله عز وجل، وسائر عمل القلب من الخوف والرجاء والتوكل والخشية وغيرها، وعمل الجوارح بالطاعات وترك المعاصي، فالإيمان يقتضي العلم بأسماء الله وصفاته والعلم بأمره ونهيه، والعمل بمقتضى ذلك، فإذا وجد الإيمان بهذا المعنى فالقيام بالدعوة لصاحبه من أفضل الأعمال، أمّا من لم يحصل الإيمان على هذا الوصف فعليه أن يشتغل بتحصيل ذلك في نفسه قبل أن يذهب يدعو الناس إلى شيء ليس عنده، فإن فاقد الشيء لا يعطيه. ومن زعم أن الإيمان يوجد في القلب دون أن يوجد أثره في الظاهر ودون أن يحصل مقتضاه من العلم بأسماء الله وصفاته والعلم بأمره ونهيه، كيف يسوغ له أن يخرج للدعوة والتعليم؟
3) ثم نقول ما نفع حركة السكر في الفنجان إذا كان السكر قليلاً؟ فمهما حركته فإنه لا يؤثر؛ فلا بد من السعي لتحقيق الإيمان عند أهل السنة والجماعة، ومقتضاه من العلم بأسماء الله وصفاته، والعلم بأمره ونهيه والعمل بذلك.
وإذا كان السكر كثيراً فإن حركته تزيد من حلى الشاي فلا يستفاد منه، إذ لا يكون مستساغاً، فهنا حركته مضرة له ولغيره، وهذا خلاف حقيقي في هذه العبارة مع حقيقة الإيمان إذ الإيمان يزيد بالطاعات حتى يصير أمثال الجبال وينفع صاحبه و لا يضره، وينقص بالمعاصي حتى يكون مثل الهباء.
([1]) مجموع الفتاوى (13/68-70) باختصار وتصرف.
يتبع إن شاء الله تعالى
تعليق