بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله الذي وعد بكشف الكُربة عن أهل الغُربة وجعل التمسُّك بالتوحيد والسُّنة أعظم قُربة،أحمدُه سُبحانه وأُثني عليه الخير كلُّه أشكُره ولا أكفره،وأشهدُ أن لا إله إلاّ الله وحدهُ لاشريك له وأشهدُ أن محمداً عبده ورسُولهُ صلّى الله عليه وعلى آله وصحبه ومن اقتفى أثره واستن بسنته إلى يوم الدّين أما بعد :-
فيقول الله سبحانه وتعالى:{فلولاَ كان من القُرون من قبلكم أُولوا بقيةٍ ينهون عن الفساد في الأرض إلاَّ قليلاً ممّن أنجينا منهم وأتّبع الذين ظلمُوا ماأُترفوا فيه وكانُوا مُجرمين}...(1)
خرجّ الأمام مسلمٌ في صحيحه من حديث أبي هريرة رضي الله عنه عن رسُول الله صلّى الله عليه وآله وسلم أنهُ قال:(طُوبى للغُرباء،قُلنا: وما الغُرباء؟فقال صلّى الله عليه وآله وسلم:قومٌ صالحون قليل في ناس سوءٍ كثير من يعصيهم أكثر ممّن يُطيعهم)..
وصحّ من حديث عبدالله بن مسعود رضي الله عنه: (أن رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلم سُئل من الغُرباء؟فقال:الّذين يصلُحُون إذا فسد النّاس)..
وفي مُسند الأمام أحمد رحمه الله من حديث عبدالله ابن عمر رضي الله عنهما عن النبي صلّى الله عليه وآله وسلم أنه قال:(طُوبى للغُرباء،قُلنا: وما الغُرباء؟فقال صلّى الله عليه وسلم(قومٌ صالحون قليل في ناس سوءٍ كثير من يعصيهم أكثر ممّن يُطيعهم)...
أمّا قوله صلّى الله عليه وآله وسلم بدأ الإسلم غريباً فيُريد به أنّ النّاس كانوا قبل مبعثه صلّى الله عليه وسلم على ضلالةٍ عامّة كما قال صلّى الله عليه وسلم:(إنّ الله نظر إلى أهل الأرض فمقتهم عربَهُم وعجَمَهُم إلاّ بقايا من أهل الكتاب)..خرجه الأمام مسلم في الصحيح..
فلمّا بُعث صلّى الله عليه وسلم ودعا إلى الأسلام لم يستجب له في أول الأمر إلاّ الواحد بعد الواحد من كُل قبيلة، وكان المُستجيبُ له خائفاً من عشيرته وقبيلته يُؤذى غاية الإيذاء ويُنال منه وهو صابرٌ على ذلك في الله عزوجل، وكان المُسلمون إذ ذاك مُستضعفين يُطرّدون ويُشرّدُون كلّ مُشرّد ويهربُون بدينهم إلى البلاد النائية ،كما هاجروا إلى الحبشة مرتين، ثم هاجروا إلى المدينة وكان منهم من يُعذّب في الله وفيهم من قُتل، فكان الدّاخلون في الإسلام حينئذٍ غُرباء، ثُم ظهر الأسلام بعد الهجرة إلى المدينة يُعزْ وصاروا أهله ظاهرين كُلّ الظُهور ودخَلَ النّاس بعد ذلك في دين الله أفواجاً،وأكمل الله لهم الدّين وأتمَّ عليه النّعمة وأنزل على نبيه صلّى الله عليه وسلم في حجّة الوداعْ..{اليوم يئس الذين كفروا من دينكم فلا تخشوهم واخشون اليوم أكملت لكم دينكم وأتممتُ عليكم نعمتي ورضيتُ لكم الإسلام دينا}..(2)
قال الحافظ ابن رجب رحمه الله:[ثُم تُوفي رسول الله صلّى الله عليه وسلم والأمرُ على ذلك وأهل الأسلام على غاية من الأستقامة في دينهم وهم متعاضدون متناصرون وكانوا على ذلك في زمن أبي بكر وعمر رضي الله عنهما، ثم أعمل الشيطانَ مكايده على المسلمين وألقى بأسهم بينهم وأفشى فيهم فتنة الشهوات والشُّبهات ولم تزل هاتان الفتنتان تتزايدان شيئاً فشيئاً حتىّ استحكمت مكيدةُ الشيطان وأطاعه أكثرُ الخلق فمنهم من دخل في طاعتهِ في فتنة الشُّبهات ومنهم من دخل في فتنة الشهوات ومنهم من جمع بينهما، وكلُّ ذلك ممّا أخبر النّبي صلّى الله عليه وسلم بوقُوعه؛فأمّا فتنة الشُّبهات: فقد رُوي عنه صلّى الله عليه وعلى آله وسلّم من غير وجه، أنّ أُمته ستفترق على أزيد من سبعين فرقة على اختلاف الروايات في عدد الزائد على السّبعين، وأنّ جميع تلك الفرق في النّار إلاّ واحدة وهي من كان على ما هو عليه وأصحابُه صلّى الله عليه وسلم ..
وأمّا فتنة الشهوات:ففي صحيح مسلم من حديث عبدالله ابن عمر رضي الله عنه أن رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلم قال:(كيفأنتم إذا فُتحت عليكم خزائن فارس والروم أيّ قوم أنتم؟فقال عبدالرحمن بن عوف رضي الله عنه:نكون كما أمرنا الله عزّوجل فقال صلّى الله عليه وسلم:أو غير ذلك تتنافسون ثمّ تتحاسدون ثمّ تتدابرون ثمّ تتباغضون.)..
وفي صحيح البُخاري من حديث عمر بن عوف مرفوعاً:(والله ماالفقر أخشى عليكم ولكن أخشى أن تُبسط الدُّنيا عليكم كما بُسطت على منْ كان قبلكم فتنافسوها كما تنافسوها فتهلكِكمُ كما أهلكتهم)..
لمّا فُتحت كُنوز كسرى على عمر رضي الله عنه بكى وقال:[إنّ هذا لم يُفتح على قوم جُعل بأسهم بينهم]، فلمّا دخل أكثر النّاس في هاتين الفتنتين الشّهوات والشُّبهات أوإحداهما أصبحوا مُتـقاطعين ومُتباغضين بعد أن كانوا مُتحابين مُتواصلين فإنّ فتنة الشّهوات عمّت غالب الخلق فافتنوا بالدُّنيا وزهرتها وصارت غاية مقصدهم لها يطلبون وبها يرضَون ولها يغضبون ولها يُوالون وعليها يُعادون فقطَّعوا لذلك أرحامهم وسفَكوا دماءهم وارتكبوا معاصي الله بسبب ذلك..
وأما فتنة الشُّبهات والأهواء المُضلة،فبسببها تفرقوا أهل القبلة وصاروا ِشيعاً وكفّر بعضهم بعضاً وصاروا أعداءاً وفرقا وأحزابا بعد أن كانوا إخواناً قُلوبهم على قلب رجل واحد فلم ينجوا من هذه الفرق إلاّ الفرقة الواحدة النّاجية وهم المذكرون في قوله صلّى الله عليه وسلم:( لاتزالُ طائفةً من أُمتي ظاهرين على الحقّ لايضرهم من خذلهم أو خالفهم حتىّ يأتي أمر الله وهم على ذلك).. وهم في آخر الزمان الغُرباء المذكرون في هذه الأحاديث الّذين يصلحون إذا فسد النّاس وهم الّذين يُصلحون ماأفسد النّاس من السُّنة وهم الذين يفرّون بدينهم من الفتن وهم النُزّاعَ من القبائل لأنهم قلُّوا فلا يُوجد في كلِّ قبيلة منهم إلاّ الواحد والأثنان، وقد لايُوجد منهم أحد، كما كان الدّاخِلون إلى الأسلام في أول الأمر كذلك،وبهذا فسّر الأئمة هذا الحديث]...
قال الأمام الأوزاعي في قوله صلّى الله عليه وسلم:(بدأ الأسلام غريباً وسيعُود غريباً كما بدأ)..[أما إنّه يذهب الأسلام ولكنّ يذهب أهل السُّنة حتّى مايبقى في البلد منهم إلاّ واحد].. فلهذا المعنى يُوجد في كلام السّلف كثيراًمدح السُّنة ووصفها بالغُربة ووصف أهلها السّلفيين بالقلّة، فكان الحسنُ البصري رحمه الله يقُول لأصحابه:[ياأهل السُّنة ترفقوا رحمكم الله فإنّكم أقلُ النّاس]..
وقال يُونس ابن عُبيد رحمه الله:[ليس شيءٌ أغربَ من السُّنة وأغربُ منها من يعرِفُها]..وقال سفيان الثوري رحمه الله:[استوصوا بأهل السُّنة خيراً فإنّهم غُرباء]..
ومُراد هؤلاء الأئمة بالسُّنة طريقة النّبي محمد صلّى الله عليه وسلم التي كانوا هو وأصحابُه عليها السَّالمةُ من الشُّبُهات والشّهوات ولهذا كان الفُضيل بن عياض يقول:[أهل السُّنة ماعرف مايدخُل بطنه من حلال]..وذلك أنّ أكل الحلال من أعظم خِصال السُّنة التي كان عليها النّبي صلّى الله عليه وسلم وأصحابه، ثمّ صار في عُرف كثيرٍ من العُلماء المتأخرين من أهل الحديث وغيرهم، أنّ السُّنة عبارة عن ماسلِم من الشُّبهات في الأعتقادات فقد أخبر النّبي صلّى الله عليه وسلم أن أهلُ السُّنة في آخر الزمان قليلٌ عددهم، كثيرٌ من يُعاديهم، وهم في ذلك غُرباء بين النّاس لايضرُّهم من خذلهم ولا من خالفهُم..
قال الأمام إبن القيم رحمه الله تعالى وغفر له:[ وأهلُ هذه الغُربة هم أهلُ الله حقّاً فإنّهم لم يأوا إلى غير الله عزوجل ولم ينتسبوا إلى غير رسُول الله صلّى الله عليه وسلم ،ولم يدعُوا إلى ما غير ماجاء به،وهم الذين فارقوا النّاس أحوجَ ماكانوا إليهم،فهذه الغُربة لاوحشة على صاحبها بل هوآنس مايكون إذا استوحش النّاس، وأشدُّ ماتكون وحشته إذا اسأنسوا،ووليه الله ورسوله والذين ءامنوا وإن عاداه أكثر النّاس وجَفَوه،ومن صفات هؤلاء الغُرباء التمسُّك بالسُّنة إذا رغِبَ النّاس عنها، وترك ماأحدثوه وإن كان هو المعرروفَ عندهم، وتجريدُ التوحيد، وإن أنكر ذلك أكثـرُ النّاس وترك الإنتساب إلى أحد غير الله ورسوله، لاشيخ طريقةٍ ولامذهبٍ ولاطائفة بل هؤلاء الغُرباء منتسبون إلى الله بالعُبُودية له وحده، وإلى رسُوله صلّى الله عليه وسلم بالأتباع لما جاء به وحده وهؤلاء القابضُون على الجمر حقّـاً، وأكثرُ النّاس لائمٌ لهم فلغُربتهم بين هذا الخلق يعُدُّونهم أهل شُدود وبِدعة ومُفارقةٍ للسّواد الأعظم]..انتهى كلامه رحمه الله وغفر له..
فقد جآء في أحاديث مُتعددة مدح المتمسك بدِينهِ في آخر الزمان وأنه كالقابض على الجمر وأنّ للّعامل منهم أجرَ خمسين ممّن قبلهُم لأنهُم لا يجدُون أعواناعلى الخير...
فقد خرّج الترمذي في سُننه من حديث أنس بن مالك رضي الله عنه عن رسُول الله صلّى الله عليه وسلم أنه قال:(يأتي على النّاس زمان الصّابِرُ فيهم على دينه كالقابض على الجمر..)..
وعند أبي داوود والترمذي وغيرهُما عن رسُول الله صلّى الله عليه وسلم أنّه قال:(إئتمروا بالمعرُوف وتناهوا عن المنكر حتّى إذا رأيتَ شُـحّاً مُطاعاً وهوىً متّبعاً ودُنيا مؤثرة وإعجَابِ كُلِّ ذي رأي برأيه فعليك بنفسِك ودعْ أمرَ العوام فإنّ من ورآئكم أياماً الصّبرُ فيهنّ مثل قبضٍ على الجمرللّعامل فيهنّ أجرُ خمسين رجُلاً يعملُون مثل عمله)..
قال ابن القيم رحمهُ الله وغفر له:[فكيف لايكُون المؤمن السائرُ إلى الله على طريق المُتابعة، كيف لايكُون غريباً بين هؤلاء الذين قد اتّبعُوا أهواءهم وأطاعُوا شُحّهُم وأُعجِب كلٌّ منهُم برأيه،وهذا الأجرُ العظيم إنّما هو لِغُربته بين النّاس والتمسُّك بالسُّنة بين ظُلمات أهوائهم وأرآئهم ،ثُمّ أوصى رحمهُ الله من سَلَكَ هذا السبيل وأحب السُّنة ومنهج السّلف الصالح بقوله: فليُوطِّن نفسهُ على قدحِ الجُـهّال وأهل البِدع فيه وطعنهم عليه وإزرائهم به وتنفير النّاس عنه وتحذيرهم منه وإن دعاهُم إلى تحكيم الكتاب والسُّنة وءاثار السّلف وقدح فيما هم عليه من الهوى فهُنالك تقُومُ قيامتهُم ويبغُون له الغوائل وينصبِون له الحبائلَ،فهُو غريب في دينِه لِفَسَادِ أديانِهِم ،غريبٌ في تمسُّكهِ بالسُّنة لتمسُّكِهم بالبِدع، غريبٌ في إعْتقَادِه لِفسادِ عقَائِدهم، غريبٌ في صلاَتِه لسُوء صلاَتِهم ،غريبٌ في مُعاشرتِه لهُم لأنّهُ يُعاشِرهُم على مالاتهوى أنفُسهم، فهْو غريبٌ في أُمورِ دُنياهُ وآخِرَته لايجِدُ من العامّةِ مُسَاعِداً ولامُعيناً، فهو عالِمٌ بين جُهّال، صاحبُ سنة بين أهل بِدع، داعٍ إلى الله ورسُوله بين دُعاةٍ إلى الأهواء والبِدع..]..
يقُول النبي صلّى الله عليه وسلم:(بدأ الأسلام غريباً وسيعُود غريباً فطُوبى للغُرباء)..
يقُول ابن مسعُود رضي الله عنه:[ كيف أنتم إذا لبستكُم فتنة يهرُم فيها الكبير ويربوا فيها الصّغير ويتحذها النّاسُ سنّه فإذا غُيرت قالوا غُيرت السُّنة،قالوا:ومتى ذلك ياأبا عبدالرحمن؟قال: إذا كثُر قٌراؤكم وقلّت فُقاهاؤكم وكثُرت أُومارؤكم وقلّت أُماناؤكم والتُمست الدُّنيا بِعمل الآخرة وتُفقِه لغير الدِّين].....
فيا أهل السُّنة والتوحيد..!!عليكم بالفقه والعلم قبل أن يُقبض..!!
يقُول سهل بن عبدالله التستري رحمه الله:[عليكم بالأثر والسُّنة فإني أخافُ أنّه سيأتي عن قليل زمان إذا ذَكر إنسان النّبي صلّى الله عليه وسلم والأقتداء به في جميع أحواله دمُّوه ونفّروا عنه وتبرؤا منه وأذلوه وأهانوه]...
قال العلاّمةُ سليمان بن عبدالله إبن الإمام المُجدد محمد بن عبدالوهاب:[ رحم اللهسهلاً ماأصدق فِراسته فلقد كان ذلك وأعظم وهو أن يُكفّر الأنسان بتجريد التوحيد والمتابعة والأمر بالإخلاص والعبادة لله عزّوجل وترك عِبادة ماسواه هؤُلاء الغُرباء قسمان:-
أحدهٌما من يصلح نفسه عند فساد النّاس، والثاني من يُصلح ماأفسد النّاس من السُّنة وهو أعلى القسمين وهو أفضلهما ،لايضره من خذله ولامن خالفه يصدعُ بما أمر الله به، ويُعرض عن الجاهلين، ولايخافُ في الله لومة لائم،كما قال النّبي محمد صلّى الله عليه وسلم:[لايمنعنّ أحدكُم مخافةُ النّاس أن يتكلم بحقٍّ إذا علمه]..خرجه الإمام احمد وصححه ابن حبّان...
اللُّهم ياحيُّ ياقيُّوم ياذا الجلالِ والأكرام،اللُّهم إناّ نسألك الهُدى والتُّقى والعفاف والغِنَى،أقولُ ماتسمعون وأستغفر الله لي ولكم ولسائر المؤمنين من كلّ ذنب فاستغفروهُ إنّه هو الغفور الرّحيم..
الخُطبة الثانية:
الحمدُلله ربِّ العالمين ولاعُدوان إلاّ على الظالمين وأشهدُ أن لا إله إلاّ الله وحدهُ لاشريك له وأشهد أنّ محمداً عبدهُ ورسوله أمابعد:-
فمن صفات الغُرباء الّذين أثنى عليهم النّبي رسُول صلّى الله عليه وسلم:-
أولاً: التمسُّك بالسُّنة والحذر من الأهواء والبِدع والفتن فقد جاء في الحديث مدْحُ المتمسكِ بدينِه في آخر الزمان[ وأنّه كالقابض على الجمر وأن للّعامل منْهم أجر خمسين ممّن قبلهم]...لأنهم لايجدُون على الحقِّ أعواناً..
قال الأمام الشّافعي رحمه الله تعالى وغفر له:[ماأوردتُ الحقَّ والحُجَّة على أحد فقبِلها منّي إلاّهِبتُه، وأعتقدتُ مودته، ولا كابرني على الحقِّ أحد ودافع الحُجَّة إلاّ سقط من عيني]..
ثانياً: قلتهم وكثرةُ من يُخالفهم وذلك أنّه صلّى الله عليه وسلم: (لمّا سُئل عن الغُرباء،قال:قومٌ صالحون قليل في ناس سوء كثير من يعصيهم أكثر ممّن يُطيعُهم)..
قال الأمام الأوزاعي في قوله صلّى الله عليو وسلم:(بدأ الأسلام غريبا وسيعود غريبا كما بدأ )..رواه مسلم(145)عن أبي هريرة رضي الله عنه
[أما انهم لايذهب الأسلام ولكن يذهبُ أهل السُّنة حتى مايبقى في البلد منهم إلاّ رجلٌ واحد]..
وقال الحسنُ البصري رحمه الله وغفر له:[ياأهل السُّنة ترفقوا رحمكم الله فإنّكم أقلُ النّاس]..
فهذا في زمانهم فكيف بزماننا..!! فالله المُستعان ولاحول ولاقُوة إلاّ بالله العلي العظيم...
ثالثاً: أنُهم لايضُرهم من خذلهم أوخذّلهم أوخالفهم بل هم ظاهرون غالبون إلى يوم القيامة والسّاعة كما بشّر بذلك رسول الله صلّى الله عليه وسلم،فكيف يُغلبُون؟ وهم بكتاب الله وسنة رسوله مستمسكون فدين الله منصورٌ غالب ولكن هل نحن أهلاً لنُصرته وبذل النّفس في ذلك؟قال الله جلّ وعلا:{وإن تتولوا يستبدل قوما غيركم ثُمّ لايكونوا أمثالكم}..محمد..
فدين الله جلا وعلا منصور وإنّما نخافُ على أنفسنا أن تميل إلى الدُّنيا وزهرتها...
رابعاً: الصّبرُ على أذى المُخالفين والجاهلين رغبةً فيما عند الله جل وعلا،قال إبن القيم رحمه الله:[ وأهلُ السُّنة الذين يُميزونها من الأهواء والبِدع غُرباء والداّعُون إليها الصابرون على أذى المُخالفين هم أشدُّ هؤُلاء غُربةً ولكنّ هؤُلاء هُم أهلُ الله حقّاً ومن صِفاتهم الأنكار على من يُخاف منهج السّلف ويميل إلى الأهواء والحزبيات ومنظِّرِيها استجابةً لله وللرسول صلّى الله عليه وسلّم..]..قال الله سُبحانه وتعالى:{لُعن الذين كفروا من بني إسرائيل على لسان داوود وعيسى ابن مريم ذلك بما عصوا وكانوا يعتدون كانوا لا يتناهون عن منكرٍ فعلوه}...(3)
وقال الحبيبُ المُصطفى والنبي المُجتبى صلواتُ ربي وسلامه عليه:(من رأى منكم منكراً فليُغيره)..الحديث..
قال ابن القيم رحمه الله:[فقد كان السّلف الطيب يشتد نكيرهم وغضبهم على من عارض حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم برأي أوقياس أواستحسان أو قول أحدهم من النّاس كائناً من كان ويهجرون فاعل ذلك ولايُسوِّغُون غير الأنقياد له صلّى الله عليه وسلّم والتسليم والتّلقي بالسّمع والطاعة..]..
ومن صِفاتهم الحرصُ على التَميُز والحذر من التميُع فهُم مع قلّتهم يُظهرون السُّنة ويُنكرون الأهواء المُضلة، وإن كثُر المُخالفُون وهم مع مايُلاقُونه من عِظم الغُربة لايفزعُون إلى تمييع منهج السّلف أبداً، أو إلغاء الفُروق بين السُّني السّلفي وصاحب الهوى الخلفي بِدعوى كِلانا على خير، أونفع الله بهم، أو أنّ أهل السُّنة وعُلمائهُم يتشفّوَنَ من المُسلمين عند التحذير من أخطائهم في العقيدة أوغيرها، أو أن يقول كُلنا مسلمون إلى آخر عبارات التمييع وحُلول الوسّط والتضييع، بل السُّني السّلفي وهو في زمن الغُربة يصدَع بالحق ويرُدُ على المُخالف وإن أصبح وحيداً غريبا..
وفيما جرى للأمام أحمد رحمه الله زمن المحنة عظةٌ وعبرة فإنّه سُجن وجُلد وأُوذي أعظم الإذاء وبقي وحيداً في تلك المحنة غريبا،ً ولكنّه والله مالآن ولامالَ إلى المخالفين أبداً بل ردّ عليهم وبدّعهم حتى نصره الله وأعزّه،والأمام المُجدد محمد بن عبدالوهاب أُوذي وأُخرجْ وعاداهُ من عاداه فلم يلِن أبداً ولو تميّع وتنازل لضاعت دعوتُه السّلفية..قال الله جلّ وعلا:{وإن كانوا ليفتنوك عن الذي أوحينا إليك لتفتري علينا غيره وإذاً لتخذوك خليلاً ولولا أن ثبّتناك لقد كدت تركنُ إليهم شيئاً قليلا إذاً لأذقناك ضعف الحياة وضعف الممات ثمّ لاتجِد لك علينا نصيراً}..(4)
إنّ منهج السّلف وسطٌ بين الإفراط والتفريط، ووسطٌ أيضاً بين التمييع والتهييج، والفرق بين التميُز المُراد والتميُع الذي نُهي عنه حرفٌ واحدٌ فقط!! ولكنّ هذا مُشرّقٌ وتلك مُغرّبة وفرقٌ آخردقيق..{منكم من يريد الدُّنيا ومنكم من يُريدُالآخرة}..،(5)،قال مالك ابن دينار:[اصطلحنا على حُبِّ الدُّنيا فلا يأمرُ بعضُنا بعضاً ولاينهى بعضُنا بعضاً ولايدرُنا الله عزّوجل على هذا فليت شعري أي عذابٍ يُنزل]..
أُمّة الإسلام ...أُمّة القُرءان...
من الأُمور التي تُعين بإذن الله على كشف الكُربة عن أهل الغُربة الصّبر فإنّ الصّبر عاقِبتُه حميدة،كان أصحابُ النّبي صلّى الله عليه وسلّم حال غُربَتِهم بمكة يُؤذَون فطلبوا من النّبي صلّى الله عليه وسلم أن يدعوا لهُم، فبشّرهُم النّبي صلّى الله عليه وسلّم بحُسن العاقِبة ثمّ قال (ولكنّكم تستعجِلون)...قال الله جلّ وعلا:{واصبر وماصبرُك إلاّ بالله ولاتحزن عليهم ولاتكُن في ضيقٍ ممّا يمكُرون إنّ الله مع الذين اتّقوا والّذين هُم مُحسِنُون}...(6)
يامعاشر الأُخوان كان من قبلنا يُؤتَى بالرجُل فيُنشر من مفرِق رأسِه إلى قدميه ولايرُدُّه ذلك عن دينه،قال الإمام الآجُرّي رحمهُ الله وغفر له:[منْ أحبّ أن يبلُغ مراتِبَ الغُرباء فليصّبر على جفاءِ أبوَيه وزوجته وإخوانِه وقَرَابَتِه..]...وممّا يُعينُ على كشفِ الكُربة الفرَحُ بنعمةِ الله وهِدايته فإنّه اختص هؤُلاء الغُرباء بِرحمتِه وفضلِه فمنْ كانَ منهُم فليحمَدِ الله الّذي شرَحَ الله صدرهُ للسُّنة،قالّ الله جلّ وعلا:{قُل بفضلِ ورحمتِه فبذلك فليفرحوا هو خيرٌ ممّا يجمعُون}...(7)،كان بعضُ السّلف يقُول:[ أنعم الله عليا بنعمتين أولهُما أن جعلني مُسلماً وثانيهُما أنّه لم يجعلني حرورياً}...
ومن ذلك أن لايستوحش من قلّة السّالكين وشِدّة الغُربة، فليس العجبُ ممّن هلك كيف هلك، ولكنّ العجبُ ممّن نجا كيف نجا،قال ابن القيم رحمه الله:[الداّعُون إلى السُّنة الصّابِرون على أذى المُخالفين هم أشدُّ هؤلاء غُربة ولكن هؤلاءِ هم أهلُ الله حقّاً فلا غُربة عليهم وإنّما غُربتهم بين الأكثرين الّذين قال الله فيهم:{وإن تُطع أكثر من في الأرض يُضلوك عن سبِيل الله}...( فأُولئك هم الغُرباء من الله ورسُوله ودينه، وغُربتهم هي الغُربة المُوحشة وإن كانوا هم المعرُوفين،قال بعضهم:[من استوحش من وِحدته فذلك لقلّةِ أُنسه بربه جلّ وعلا]..وممّا يُعين على كشف الكُربة على أهل الغُربة الحرص على العلم والفقه في الدِّين وإصلاح النية،قال الله جلّ وعلا:{فعلم مافي قلوبهم فأنزل السّكينة عليهم وأثابهم فتحاً قريباً}،(9)، قال ربُّنا جلّ جلاله في أُسارى بدر: {إن يعلم الله في قُلوبكم يُؤتكم خيراً ممّا أُخذ منكم ويغفر لكم}..(10)،سُئل أبو سليمان عن أفضل الأعمال فبكى وقال:[أن يطلع الله على قلبك فلا يراك تُريدُ من الدُّنيا غيره]..،قال ابن مسعود رضي الله عنه:[كُونوا جُدد القُلوب خرقان الثياب مصابيح الظلام تُخفَون على أهل الأرض و تُعرفون في أهل السّماء ]..،وأمّا العلم فإن الله يحفظ به المؤمن من الشُّبهات والضلالات والفتن في العلم،وممّا ينبغي تعلُّمه منهج السّلف الصالح فلا تكفي محبّة المنهج السّلفي دُون فقه له وفهم،وفي كلام السّلف وأخبارهم مايكشف الكُربة عن أهل العُربة بإذن الله سُبحانه وتعالى..
ألم يكُن حذيفةُ صاحب رسول الله صلّى الله عليم وسلم يسأل النّبي عن الشّر وأهله مخافة أن يقع فيه أو يغتر بأقاويلهم وفتنهم كفانا الله شرّالمفتونين المتحزبين،ومن ذلك أن يُواسي الغُرباء بعضهم بعضاً وأن يرفق بعضهم ببعض، قال سفيان الثوري رحمه الله:[استوصوا بأهل السُّنة خيراً فإنّهم غُرباء]،وقال بعضهم:[ إذا سمعت برجُل من أهل السُّنة بالمشرق أو المغرب فابعث إليه باالسَّلام ماأقلَّ أهل السُّنة!!..]،قال أيوب :[إنِّي لأسمعُ بموت الرُّجل من أهل السُّنة فكأنِّي أفقد بعض أعضائي]،ومن ذلك الحرص على مُصاحبة أهل السُّنة السَّلفيين والحذر من أهل الأهواء المفتُونين،لقوله صلّى الله عليه وسلم:(المرءُ على دين خليله فلينظر أحدكم من يُخالل)..رواه أبو داوود والترمذي..واحذر الشّيطان الرّجيم فإنّه يُزين لك مُجالسة الزائغين بدعوى الأصلاح فما تدري إلاّ وقلبك قد زاغ معهم،قال الله جلّ وعلا:{فلا تقعُد بعد الذكرى مع القوم الظالمين}،(11)،وممّا يُعين على كشف الكُربة الخوف من الحورِ بعد الكَور، والخوف من سوء الخاتمة، فلا تعجبوا معاشِر الأخوان بِعمل عاملٍ حتّى تنظروا بما يُختمُ له،فكم من رجُلِ أبصر طريق السّلف ونهجهم فما صبَرَ على الأذى ومُفارقة الأحباب ومازال به الشّيطان يَعِدُه ويُمنِّيه ويتوعده ويُخوِّفُه ويُلقي إاليه بالشُّبه حتّى رجع القهقرة وأذِنَ لكلِّ دعّيٍ أن يقُودَه بأُذنه حيثُ شاء وعاد إلى ماكان عليه بعد أن علِم الحقَّ ودرسه ،فيا مُقلب القُلوب ثبِّت قُلوبنا على الإسلام والسُّنة!!،ومن ذلك الثَّقةُ بموعُود الله جلّ وعلا فإنّه مهما بلغت غُربة الأسلام فنحنُ على يقينٍ أن الله مُظهرٌ دينه ومُنجِزٌ وعده وناصِرٌ جُنده،قال الله جلّ وعلا:{هو الذي أرسل رسُوله بالهُدى ودين الحقِّ ليُظهره على الدِّين كلِّه ولو كره الكافرون}..(12)،لقد صعِد النّبي صلّى الله عليه وسلم في أول الدَّعوة على الصَّفا وحده والأسلام آن ذاك وحده فدعاهم إلى التّوحيد ،دعاهم إلى لا إله إلاّ الله ،فردَّ عليه عمُه أبو لهب ونفَّر النّاس عن دعوته، ثمّ أذِنَ الله بِزوال هذه الغُربة فعاد النّبي صلّى الله عليه وسلم إلى مكة بعشرة آلاف مُجاهد، ونصر الله عبده وأعزّ جُنده وهزم الأحزاب وحده، ودخل النّاس في دِين الله أفواجاً، وزالت تلك الغُربة ولكنّكم تستعجلون،فثقوا بالله معاشِر المؤمنين وأعلموا نصر الله قريب وأنّ ماعند الله لايُنال إلاّ بطاعتِه، وأخيراً التأسي بمن قبلنا من الأنبياء والأولياء والعُلماء والنّاصحين،كيف كان ثباتُهم زمن الغُربة والقلّة،أخبر النّبي صلّى الله عليه وسلم:أنّ النّبي يأتي يوم القِيامة وليس معهُ إلاّ رجلٌ أو رجُلان بل يأتي النّبي وليس معهُ أحد،تفكرُوا في سيرة المُجدد الأول للّدَعوة السّلفية الأمام أحمد إبن حنبل الذي كان يُوصف بالصِّديق الثاني، وسيرة المُجدد الثاني شيخُ الأسلام ابن تيمية وماجَرى بينهُ وبين خُصُومه من الأُمُور العِظام حتّى مات مسجُوناً في سبِيل نُصرة السُّنة فأبقى الله ذكره ورفَع قدره،وأمّا سيرة الأمام المجدد الثالث الأمام محمد بن عبد الوهاب فعجيبةٌ غريبة بالله عليكم ،كيف كانت حاله حين أُخرج من بلدهِ وحيداً فاتَّجَه إلى الدِّرعِية لا يدري مايصيُر إليه، وأيُّ غُربةً كان يشعر بها هذا الأمام وهو يمشي وحيداً ولكن صدق من قال :بالصَّبر واليقين تُنال الإمامةُ في الدِّين ..
قال عزوجل: {وجعلناهم أئمةً يهدون بأمرنا لمّا صَبَرُوا وكانوا بأياتِنا يُوقنُون }..(13)..
اللّهُم ياحيُّ ياقيُوم ياذا الجلال والإكرام،اللّهُم إنَّا نسألُك الهُدى والتُّقى والعفاف والغِنى،ربنا ءاتنا في الدُّنيا حسنة وفي الأخرة حسنة وقِنا عذاب النّار،اللّهُم أعزّ الإسلام والمُسلمين وأذِل الشِّرك والمشركين ودمّر أعداء الدِّين،واجعل هذا البلد ءامناً مطمئناً وسائرَ بلاد المُسلمين،اللّهُم ءامِنا في دُورنا وأصلح أئمتنا وولاة أُمورنا واجعل ولايتنا فيمن خافك واتّـقاك واتّبع رِضاك ياربَّ العالمين،اللّهُم أغثنا..اللّهُم أغثنا..اللّهُم أغثنا..اللّهُم اسقنا..اللّهُم اسقنا..اللّهُم اسقنا..،ربنا ءاتنا في الدُّنيا حسنة وفي الأخرة حسنة وقِنا عذاب النّار،سُبحانك ربّكِ العزّة عمّا يصِفُون وسلامٌ على المُرسلين والحمدلله ربِّ العالمين،وصلّى الله وسلم وبارك على نبينا محمد..
تعليق