موقف المسلمين من الحضارة الغربية
يقول الله تعالى :( لا يغرنّك تقلب الذين كفروا في البلاد متاع قليل ثم مأواهم جهنم وبئس المهاد ) آل عمران.وقال تعالى :( ولا تُعجبك أموالهم وأولادهم إنما يُريد الله أن يعذبهم في الدنيا وتزهق أنفسهم وهم كافرون ) التوبة.
وقال تعالى :(ولا تمدن عينيك إلى ما متعنا به أزواجاَ منهم زهرة الحياة الدنيا لنفتنهم فيه ورزق ربك خير وأبقى ) طه. وقال تعالى: (ولولا أن يكو ن الناس أمة واحدة لجعلنا لمن يكفر بالرحمن لبيوتهم سقفاَ من فضة و معارج عليها يظهرون ولبيوتهم أبواباًَ وسررًا عليها يتكئون وزخرفاً وإن كل ذلك لما متاع الحياة الدنيا والآخرة عند ربك للمتقين) الزخرف .
فلحقارة الدنيا عند الله أعطاها للكافرين ولجلالة الآخرة عند الله ادخرها للمتقين وقد فُُُُُتن أقوام من المسلمين بما عند الغرب النصراني من متاع الدنيا وسال لعاب بعضهم فدعت الحاجة إلى بيان ما يقبل من تلك المرافق الدنيوية وما لا يقبل , وبالتفصيل يصير المسلم على بصيرة , وقد قرأت كلاماً حسناً للإمام العلامة الشنقيطي في أضواء البيان( م 4/ ص 381ـ383 ).
قال :[ الاستقراء التام القطعي دل على أن الحضارة الغربية المذكورة تشتمل على نافع وضار. أما النافع منها فهو من الناحية المادية وتقدمها في جميع الميادين أوضح من أن أبينه وما تضمنته من المنافع للإنسان أعظم مما كان يدخل تحت التصور فقد خدمت الإنسان خدمات هائلة من حيث أنه جسد حيواني .
وأما الضار منها ـ فهو إهمالها بالكلية للناحية التي هي رأس كل خير ولا خير البتة في الدنيا بدونها وهي التربية الروحية للإنسان وتهذيب أخلاقه وذلك لا يكون إلا بنور الوحي السماوي الذي يوضح للإنسان طريق السعادة ويرسم له الخطط الحكيمة في كل ميادين الحياة الدنيا والآخرة ويجعله على صلة بربه في كل أوقاته .
فالحضارة الغربية غنية بأنواع المنافع من الناحية الأولى مفلسة إفلاساً كليا ًمن الناحية الثانية ، ومعلوم أنّ طغيان المادة على الروح يهدد العالم أجمع بخطر داهم وهلاك مستأصل كما هو مشاهد الآن ، وحل تلك المشكلة لا يمكن البتة إلا بالاستضاءة بنور الوحي السماوي الذي هو تشريع خالق السماوات والأرض لأنّ مَن أطغته المادة حتى تمرد على خالقه ورازقه لا يفلح أبدا ًوالتقسيم الصحيح أوصاف المحل الذي هو الموقف من الحضارة الغربية في أربعة أقسام لا خامس لها حصراً عقلياً لاشك فيه : ـ
" الأول" ترك الحضارة المذكورة نافعها وضارّها .
" الثاني" أخذها كلها ضارّها ونافعها .
" الثالث" أخذ ضارّها وترك نافعها .
" الرابع" أخذ نافعها وترك ضارّها .
فنرجع بالسبر الصحيح إلى هذه الأقسام الأربعة.فنجد ثلاثةً منها باطلة بلا شك وواحداً صحيحاً بلا شك .
أما الثلاثة الباطلة : فالأول تركها كلها ـ ووجه بطلانه واضح لأن عدم الاشتغال بالتقدم المادي يؤدي إلى الضعف الدائم والتواكل والتكاسل ويخالف الأمر السماوي في قوله جل وعلا ( وأعدوا لهم ما استطعتم من قوة ) الآية
لايسلم الشرف الرفيع من الأذى : : حتى يراق على جوانبه الدم .
القسم الثاني من الأقسام الباطلة ـ أخذها لأن ما فيها من الانحطاط الخلقي وضياع القيم الروحية والمثل العليا للإنسانية ـ أوضح من أُبينه ويكفي في ذلك مافيها من التمرد على نظام السماء وعدم طاعة خالق هذا الكون جل وعلى (آلله أذن لكم أم على الله تفترون ) ( أم لهم شركاء شرعوا لهم من الدين ما لم يأذن به الله).
والقسم الثالث من الأقسام الباطلة :هو أخذ الضار وترك النافع ولاشك أن هذا لايفعله من له أقل تمييز ، فتعينت صحة القسم الرابع بالتقسيم والسبر الصحيح . وهو أخذ النافع وترك الضار ، وهكذا كان صلى الله عليه وسلم يفعل فقد انتفع بحفر الخندق في غزوة الأحزاب مع أن ذلك خطة عسكرية كانت للفرس ، أخبره بها سلمان فأخذ بها ولم يمنعه من ذلك أن أصلها للكفار ، وقد هم صلى الله عليه وسلم بأن يمنع وطء النساء المراضع خوفاً على أولادهن لأن العرب كانوا يظنون الغيلة : " هي وطء المرضع"تضعف ولدها وتضره
ومن ذلك قول الشاعر :
فوارس لم يغالوا في رضاعٍ :: فتتبوا في أكفهم السيوف
فأخبرته صلى الله عليه وسلم فارس والروم بأنهم يفعلون ذلك ولا يضر أولادهم فأخذ صلى الله عليه وسلم منهم تلك الخطة الطبية ولم يمنعه من ذلك أن أصلها من الكفار ، وقد انتفع صلى الله عليه وسلم بدلالة بن الأُريقط الدؤلي له في سفر الهجرة على الطريق مع أنه كافر فاتضح من هذا الدليل أن الموقف الطبيعي للإسلام والمسلمين من الحضارة الغربية ـ هو أن يجتهد في تحصيل ما أنتجته من النواحي المادية ويحذر مما جنته من التمرد على خالق الكون جل وعلا فتصلح لهم الدنيا والآخرة .
والمؤسف أن أغلبهم يعكسون القضية فيأخذون منها الانحطاط الخلقي والانسلاخ من الدين والتباعد من طاعة خالق الكون و لا يحصلون على نتيجة مما فيها من النفع المادي فخسروا الدنيا والآخرة ( ذلك هو الخسران المبين ) .
وما أحسن الدين والدنيا إذا اجتمعا .::. وأقبح الكفر والإفلاس في الرجل ] أهـ .
وقال العلامة السعدي رحمه الله في القواعد الحسان [ 104ـ 105 ]وهو يتحدث عن إقامة المصالح الدينية والدنيوية بين المسلمين وقد اتفق العقلاء أن الطريق الوحيد للصلاح الديني والدنيوي هو طريق الشورى .
فالمسلون قد أرشدهم الله أن يهتدوا إلى مصالحهم وكيفية الوصول إليها بإعمال أفكارهم مجتمعة . فإذا تعينت المصلحة من طريق ٍ سلكوه وإذا تعينت المضرة في طريق تركوه وإذا اشتبهت مصلحة بمضرة نظروا : أيها أقوى وأحسن عاقبة ، ثم نظروا بأي شيء تدرك الأسباب وبأي حال تنال على وجه لا يضر سلوكها... وإذا رأوا مصالحهم تتوقف على الاستعداد بالفنون الحديثة والاختراعات الباهرة سعوا لذلك بحسب اقتدارهم ولم يملكهم اليأس والاتكال على غيرهم الملقي إلى التهلكة وإذا عرفوا أن السعي لاتفاق الكلمة وتوحيد الأمة هو الطريق الأقوم للقوة المعنوية جدوا في هذا واجتهدوا .
وإذا رأوا المصلحة في المقاومة والمهاجمة ، أو في المسالمة والمدافعة بحسب الأمكان سلكوا ما تعينت مصلحته فيُقْدمون في موضع الإقدام ويحجمون في موضع الإحجام ،وبالجملة لا يدعون مصلحة داخلية ولا خارجية دقيقة ولا جليلة إلا تشاوروا فيها وفي طريق تحصيلها و تنميتها ودفع ما يضادها ويدفعها فهذا النظام العجيب الذي أرشد إليه القرآن هو النظام الذي يصلح لكل زمان ومكان ولكل أمة ، ومن ذلك قوله تعالى في سورة الأنفال :( وأعدوا لهم ما استطعتم من قوة ...) .
فهذه الآية تصريح بوجوب الاستعداد للأعداء بكل ما نستطيعه من قوة عقلية ومعنوية ومادية مما لا يمكن حصره ،وفي كل وقت ولكل عدو يتعين سلوك ما يلائم ذلك الوقت ويناسبه ومن ذلك قوله تعالى في سورة النساء ( يا أيها الذين آمنوا خذوا حذركم ) ونحوها في الآيات التي أرشد الله إلى شدة التحرز من الأعداء وأن نكون منهم أبداً على حذر في وقت السلم فضلاً عن وقت الحرب وأن تكون لنا العيون والأرصاد عليهم لنعلم كل حركاتهم الحربية والعلمية لنأخذ السبيل عليهم ونسبقهم حتى لا يكون لهم في ضعفنا وجهلنا فرصة تمكنهم منا وأن لا نمكنهم من الإطلاع على أسرارنا الحربية ولا على مواردنا الاقتصادية فضلاً عن تمكينهم منا فضلاً عن أن نكون عالةً عليهم فيها فكل ذلك وغيره داخل تحت قوله تعالى : ( خذوا حذركم ) انتهى ...
ولشيخ الإسلام لابن تيمية كلام وجيز لكنه في غاية الأمر قال في اقتضاء الصراط المستقيم [ 1/ 352 ]
فقد تبين لك أن من أصل دروس دين الله وشرائعه وظهور الكفر والمعاصي التشبه بالكافرين كما أن من أصل كل خيرٍ المحافظة على سنن الأنبياء و شرائعهم ولهذا عظم وقع البدع في الدين وإن لم يكن فيها تشبه بالكفار فكيف إذا جمعت الوصفين. انتهى.
أخي القارئ تأمل ما في هذه المقالات العظيمة من بيان شافٍ كافٍ في هذه المسألة المهمة فيا ليت قومنا يعلمون ما يقوله علماء الإسلام الداعون إلى كل خيرٍ المحذرون من كل ضير فعند علماء السنّة الخبر اليقين في ما يشكل على الناس و الحلول التي بسببها تعود الأمة إلى حضيرة العز والسعادة .
وخلاصة القول أنّ ما كان من خصائص الكفار وعلى وجه الخصوص اليهود والنصارى لا يقبل . فأمور عقيدتهم وعبادتهم وعاداتهم وسياستهم ليس للمسلم أن يقبلها وما كان عندهم من أمور الدنيا المباحة كالصناعة والتجارة والزراعة فيجوز الأخذ منها بقدر الحاجة .
والله المستعان.
الشيخ .محمد بن عبدالله الامام حفظة الله