لا ينفق الباطل إلا في شوب من الحق
الحمد لله رب العالمين ،و الصلاة و السلام على أشرف المرسلين أما بعد :
قال شيخ الإسلام ابن تيمة رحمه الله تعالى :<<و لا ينفق الباطل في الوجود إلا بشوب من الحق.>> مجموع الفتاوى (35/19).
كلام شيخ الإسلام ابن تيمية هذا كلام نفيس، قاله عن دليل التتبع و الإستقراء، و هو استقراء و أيّما استقراء من مثل هذا الإمام الهمام.
1- معنى كلام شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله : أن الباطل لا يروج – في الغالب – إلاّ إذا كان مشوبا بحق ، و ذلك أن الحق إذا كان حقا محضا لم نختلف فيه و كذلك الباطل ، إذا كان باطلا محضا لم نختلف فيه.
و هذا الشّوب الذي عناه شيخ الإسلام – رحمه الله- هو عين لبس الحق بالباطل الذي نهى الله عنه اليهود.
2- شوب الحق بالباطل هو صفة المغضوب عليهم :
قال تعالى :<< و لا تلبسوا الحق بالباطل ، و تكتموا الحق وأنتم تعلمون >>. قال ابن كثير رحمه الله تعالى : يقول تعالى ناهيا اليهود عما كانوا يتعمدونه من تلبيس الحق بالباطل و تمويهه ، و كتمانهم الحق و إظهارهم الباطل << و لا تلبسوا الحق بالباطل و تكتموا الحق و أنتم تعلمون >> فنهاهم عن الشيئين معا، و أمرهم بإظهار الحق و التصريح به و لهذا قال :الضحاك عن ابن عباس –ولاتلبسوا الحق بالباطل –لا تخلطوا الحق بالباطل ،و الصدق بالكذب.
و قال أبو العالية ، و لا تلبسوا الحق بالباطل- يقول و لا تخلطوا الحق بالباطل و أدّوا النصيحة لعباد الله من أمة محمد –صلى الله عليه و سلم-و يروى عن سعيد بن جبير و الربيع بن أنس نحوه.
قال قتادة : << و لا تلبسوا الحق بالباطل>> و لا تلبسوا اليهودية بالإسلام و أنتم تعلمون أن دين الله الإسلام و أن اليهودية و النصرانية بدعة ليست من الله . (1).
3- أمثلة كلام شيخ الإسلام بن تيمية: إن لكلام شيخ الإسلام أمثلة كثيرة أحببت أن أنبه عليها حتى لا يغتر بها من وقف عليها و هذه دونك .
أمثلة شوب الحق بالباطل:
1-الخامسة التي يعلقها الناس على أبوابهم و سياراتهم: هذه الخامسة التي هي عبارة عن يد بها خمسة أصابع قد كتب عليها قول الله تعالى :<< فالله خير حفظا و هو أرحم الراحمين>> (2) فالآية حق و الخامسة باطل فإذا ما جاء هذا العامي المسكين الذي لا علم عنده و رأى هذه الخامسة و قد كتب عليها << فالله خير حفظا>> و قد شاع أنها تستعمل لدفع العين ، ظن أنها حق،فيشتريها و يعلقها و الله المستعان.
و ما درى المسكين أنها من جنس التمائم التي قال فيها النبي صلى الله عليه و سلم ( إن الرقى و التمائم و التولة شرك )) (3) ، و هذا الباطل –الخامسة- لم يكن ليروج روجانه لولا ما كتب عليه من هذه الآية ، و هذا شوب للحق بالباطل.
2- ما يعلقه الناس اليوم على الجدران من الصور ذات الأرواح و قد كتب عليها آيات قرآنية .
كتلكم الصورة التي تمثل صورة صبي قد رفع يديه يدعو و قد كتب إلى جنبه هذه الآية : << رب اغفر لي و لوالدي و للمومنين يم يقوم الحساب >> (4).
فهذه –أيضا- كسابقتها لا ينظر العامي منها إلا إلى تضرع الصبي و رسم الآية المكتوب بالخط العريض فتأخذه العاطفة فيشتري الصورة و يعلقها، و ما درى المسكين أن النبي صلى الله عليه و سلم قال(5): ((إن الملائكة لا تدخل بيتا فيه صورة ))، و مثلها ءاية الكرسي التي كتبت بخط الثلث على هيئة رجل جالس للتشهد رافع سبابته.فالآية حق و الهيئة المكتوبة عليها باطل ، إذ الصورة منهي عن تصويرها ، ففي الصحيحين من حديث ابن عباس مرفوعا (6)((من صور صورة في الدنيا كلف أن ينفخ فيها الروح و ليس بنافخ)).
3- الدعوة إلى و حدة الأديان : لقد تقدم أثر قتادة الذي قال فيه : لاتخلطو اليهودية بالإسلام و أنتم تعلمون أن دين الله الإسلام. سبق ذكر المصدر. و هذه الدعوة يكفي في إبطالها قول الله تعالى :<< و من يبتغ غير الإسلام دينا فلن يقبل منه و هو في الآخرة من الخاسرين>>، لكن أعداء الله زينوا هذه الدعوة بألفاظ براقة مثل قولهم : الإيخاء الديني –وحدة الأديان-التفاهم بين الأديان-نبذ التعصب المذهبي-الصداقة الإسلامية المسيحية-التضامن الإسلامي المسيحي-التعايش بين الأديان...فراج أمرها على خفافيش الدجى كما يقال ،و تبنى الدعوة إليها بعض دعاة العصر تحت هذه الأسماءالمزركشة و الحمد لله أن سخر الله – جل و علا-علماء تصدّوا لهذه الدعوة الخبيثة التي يراد منها إلغاء الفروق بين الإسلام و الأديان المحرفة المنسوخة ،و أحسن ما وقفت عليه في الرد على هذه الدّعوة الخبيثة كتاب العلامة بكر أبي زيد – الإبطال لنظرية الخلط بين الأديان- فمن أحب أن يقف على مراميها فليطلع على هذا الكتاب.
4- تسمية العقيدة بعلم الكلام: و هذه أيضا يراد منها شوب العقيدة الصحيحة بعلم الكلام الذي ذمه السلف و أنكروه على الخلف، فعن أبي يوسف رحمه الله تعالى قال : العلم بالكلام هو الجهل و الجهل بالكلام هو العلم ،وإذا صار الرجل رأسا في الكلام قيل زنديق أو رمي بالزندقة. و عنه أيضا : من طلب العلم بالكلام تزندق.
و قال الشافعي رحمه الله : حكمي في أهل الكلام أن يضربوا بالجريد و النعال ، و يطاف بهم في العشائر و القبائل و يقال : هذا جزاء من ترك الكتاب و السّنة و أقبل على الكلام .(7).
إذن فهؤلاء مزجوا علم الكلام بعلم العقيدة الصحيحة حتى يتسنى لهم ترويج بدعهم و مقالاتهم الفاسدة كالتأويل الذي هو في الحقيقة تحريف.
قال الشيخ سليمان بن سحمان: و خلف من بعدهم خلف على طريقتهم عبروا عن هذه المعاني الفلسفية بعبارات إسلامية ، يخاطبون بها من لا يعرف معاني هذه الأوضاع، و يجعلون مراد الله و رسوله من الآيات و الأحاديث على ما أرادوا من معاني هذه الأوضاع التي تخالف كتاب الله و سنة رسوله و أقوال سلف الأمة و أئمتها..(.
و قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله : إن طائفة من أهل الكلام يسمى ما وضعه <أصول الدين> و هذا إسم عظيم و المسمى به فيه من فساد الدين ما الله به عليم،فإذا أنكر أهل السنة و الحق ذلك، قال المبطل : قد أنكروا أصول الدين.....(9).
و المقصود أن أهل الكلام خلطوا الحق بالباطل فسموا كتبهم التي ألفوها *بأصول الدين* مع ما فيها من تلبيس و تحريف و ما ذاك إلا ليروجوا باطلهم في تلكم القوالب.و الله المستعان.
5-تسمية المسميات بغير أسمائها: و هذا من شوب الحق بالباطل، وصوره الكثيرة في عصرنا قول بعضهم عن الخمر مشروبات روحية و عن الرشوة هدية ،و عن الغش في الإمتحانات تبادل ثقافي .
قال الزّهراني في الجواهر الحسان :
لمّـا أرادوا فعلهـا قلبـوا اسمهـا
بهديـــــــة حيَـــــلٌٌ مــــن الشَّيطــــــان
و قال عن الخمر:
و لـذا فقـد قلبـوا اسمـه بتحايـل
حتـــى ليُُشْرَبَ دونمــا نكـران
و يقولون عن التِّوَلة-التي هي نوع من السحر يجعلونه بين المرأة والرجل يزعمون أنه يحببهما إلى بعضهما البعض- طيبٌ ،وتراهم يذهبون إلى السحرة و إذا أنكرت عليهم يقولون : فلان لا يعمل إلا الطيب،ومرادهم أن هذا الساحر يفعل ذلك من أجل تلاحم الزوجين و نحوهما لا من أجل افتراقهما، و يرونه شيئا ممدوحا وهو عين السحر و يسميه العلماء مسألة الصرف و العطف،و هي محرَّمة لقول النبي عليه الصلاة و السلام :<<إن الرقى و التمائم و التولة شرك.>>(10)
وجه شوب الحق بالباطل في هذه المسألة ، أن الناس سموا عمل هذا السِّحر طيبا ، و السحر لايكون طيبا أبدا ، بل هو كفر بالله تعالى.
هذا ما يسر الله جمعه، نسأل الله تعالى أن ينفع به كاتبه و قارئه، و أن يجعله خالصا لوجهه الكريم إنه ولي ذلك و القادر عليه، و الحمد لله رب العالمين. و صلى الله و سلم على نبينا محمد و آله و صحبه أجمعين.
(1) تفسير ابن كثير (1/10 ط مكتبة الصفا .ت 1425هـ-2004 م
(2) الآية من سورة يوسف
(3) أخرجه أبوداود (3883) و ابن ماجة (3530) و ابن حيان (1412) و أحمد(1/381) و صححه الأباني في الصحيحة (1/584).
(4) الآية من سورة إبراهيم.
(5) رواه مسلم و غيره و صححه الألباني في صحيح أبي داود(4155).
(6) رواه البخاري (2225) و مسلم (2110).
(7) شرح العقيدة الطحاوية (ص75) لابن أبي العز.ط المكتب الإسلامي ط-(ت 1416هـ -1996م).
(الصواعق المرسلة على الشبه الداحضة الشامية (ص6) للشيخ سليمان بن سحمان دراسة و تحقيق عبد السلام بن برجس-دار العاصمة-الرياض-المملكة العربية السعودية.
(9) مجموع الفتاوى (4/3 ط دار بن حزم ت 1418 هـ/1997م
(10) رواه احمد و أبو داود (3883) و ابن ماجة (6090) و الطبراني في الكبير(10/213) و صححه الألباني في صحيح الجامع (1632).
ـــــــــــــــــــــــــ ـــــــــــــــــــــــــ ـــــــــــــــــــــــــ ـــــــــــــــــــــــــ ـــــــــــــ
ـــــــــــــــــــــــــ ـــــــــــــــــــــــــ ـــــــــــــــــــــــــ ـــــــــــــــــــــــــ ـــــــــــــ
أبوالعباس محمدرحيل إمام و خطيب بوادي التاغية -معسكر - الجزائر