حُكم سب الأمير أو السلطان أو الحاكم
من كتاب مدارك النظر في السياسة
للشيخ عبد المالك رمضاني -حفظه الله-
للشيخ عبد المالك رمضاني -حفظه الله-
قال ابن أبي عاصم في كتاب السنة : " باب كيف نصيحة الرعية للولاة "، وأسند فيه عن شريح بن عبيد الحضرمي وغيره قال: جلد عياض بن غنم صاحبَ دار حين فتحت، فأغلظ له هشام بن حكيم القول حتى غضب عياض، ثم مكث ليالي فأتاه هشام بن حكيم فاعتذر إليه، ثم قال هشام لعياض: ألم تسمع النبي -صلى الله عليه وسلم - يقول: إن مِن أشد الناس عذابا أشدهم عذابا في الدنيا للناس ، فقال عياض بن غنم: " يا هشام بن حكيم قد سمعنا ما سمعتَ ورأينا ما رأيتَ، أو لم تسمع رسول الله -صلى الله عليه وسلم - يقول: مَن أراد أن يَنصح لسلطان بأمر فلا يُبْدِ له علانية، ولكن ليأخذ بيده فيَخْلُو به، فإن قَبِلَ منه فذاك، وإلا كان قد أدّى الذي عليه له ، وإنك يا هشام لأنت الجريء إذ تجتريء على سلطان الله، فهلاّ خشيتَ أن يقتلك السلطان فتكون قتيل سلطان الله تبارك وتعالى؟!"([1]).
وحتى لا يَعظم عليك أن نسبتُ مخالفي هذا المنهج إلى مسلك الخوارج، فإنني أورد هنا ما رواه الترمذي وغيره عن زياد بن كُسيب العدوي قال: كنتُ مع أبي بكرة تحت منبر ابن عامر، وهو يخطب وعليه ثياب رقاق، فقال أبو بلال: انظروا إلى أميرنا يلبس ثياب الفساق، فقال أبوبكرة: اسكت؛ سمعتُ رسول الله -صلى الله عليه وسلم - يقول: من أهان سلطان الله في الأرض أهانه الله ([2]).
قال الذهبي: " أبو بلال هذا هو مرداس بن أُدَيّة، خارجيّ، ومن جهله عدَّ ثياب الرجال الرقاق لباس الفساق! "([3]).
ومثله ما رواه سعيد بن جُمْهان قال: أتيتُ عبد الله بن أبي أوفى -رضي الله عنه- وهو محجوب البصر، فسلّمت عليه، قال لي: مَن أنت؟ فقلت: أنا سعيد ابن جمهان، قال: فما فعل والدك؟ قلت: قتلَتْه الأزارقة([4])، قال -رضي الله عنه- : " لعن الله الأزارقة! لعن الله الأزارقة! حدَّثنا رسول الله -صلى الله عليه وسلم - أنهم كلاب النار، قال: قلت: الأزارقة وحدهم أم الخوارج كلها؟ قال -رضي الله عنه- : بلى الخوارج كلها، قال: قلت: فإن السلطان يظلم الناسَ ويفعل بهم، قال -رضي الله عنه- : فتناول يدي فغمزها بيده غمزة شديدة ثم قال: " ويحك يا ابن جمهان! عليك بالسواد الأعظم، عليك بالسواد الأعظم، إن كان السلطان يسمع منك فأْتِهِ في بيته فأخبره بما تعلم، فإن قَبِل منك وإلا فدَعْهُ؛ فإنك لست بأعلم منه "([5]).
فائدة:روى عبدالله بن أحمد بإسناده الصحيح إلى سعيد بن جمهان أنه قال: " كانت الخوارج تدعوني حتى كدتُ أن أدخل معهم، فرأت أخت أبي بلال في النوم أن أبا بلال كلب أهلب أسود، عيناه تذرفان، قال: فقالت: بأبي أنت يا أبا بلال! ما شأنك أراك هكذا؟ قال: جُعِلْنا بعدكم كلاب النار، وكان أبو بلال من رؤوس الخوارج "([6]).
وعلى كل حال فإن مجرَّد التحريض على السلطان المسلم ـ وإن كان
فاسقا ـ صنعة الخوارج، قال ابن حجر في وصف بعض أنواع الخوارج:
" والقَعَدية الذين يُزَيِّنون الخروجَ على الأئمة ولا يباشِرون ذلك "([7])، وقال عبد الله بن محمد الضعيف: " قَعَدُ الخوارج هم أخبث الخوارج "([8]).
قلت: فأيّ الخطباء اليوم سَلِم من هذه اللوثة؟! ولاسيما منهم الذين يخطبون من الناس جمهرتهم والشهرة عندهم! فاللهم سلِّم!!
ولذلك قال الشيخ صالح السدلان فيهم: " .. فالبعض من الإخوان قد يفعل هذا بحسن نية معتقدا أن الخروج إنما يكون بالسلاح فقط، والحقيقة أن الخروج لا يقتصر على الخروج بقوة السلاح، أو التمرد بالأساليب المعروفة فقط، بل إن الخروج بالكلمة أشد من الخروج بالسلاح؛ لأن الخروج بالسلاح والعنف لا يُرَبِّيه إلا الكلمة فنقول للأخوة الذين يأخذهم الحماس، ونظن منهم الصلاح إن شاء الله تعالى عليهم أن يتريثوا، وأن نقول لهم رويدا فإن صلفكم وشدتكم تربي شيئا في القلوب، تربي القلوب الطرية التي لا تعرف إلا الاندفاع، كما أنها تفتح أمام أصحاب الأغراض أبوابا ليتكلموا وليقولوا ما في أنفسهم إن حقا وإن باطلا.
__________________________________________________ ___________________
([1]) انظر ظلال الجنة في تخريج السنة للألباني رقم (1096) وقد رواه أحمد واللفظ له والحاكم وهو صحيح.
([2]) صحيح سنن الترمذي للألباني رقم (1812).
([3]) السير (14/50، وكذا في (3/20). قلت: وهكذا سمة الخوارج: جمعوا بين سوء الإنكار، والجهل بالمنكَر نفسه؛ أي فساد العلم والعمل.
([4]) وهم أتباع نافع بن الأزرق الخارجي ..
([5]) رواه أحمد (4/382ـ 383) وحسنه الألباني في المصدر السابق ص (50.
([6]) كتاب السنة رقم (1509)، وقد انقلب اسم أبي سعيد ( جمهان ) على محقق الكتاب محمد سعيد القحطاني إلى ( جهمان )، والصواب ما أثبتُّه أعلاه، فليُتنبَّه!
([7]) هدي الساري ص (483)وانظر (( الإصابة ))عند ترجمة عمران بن حطّان، و(( غراس الأساس )) ص (372)، ثلاثتها لابن حجر؛ فإنك واجد في كل منها فائدة زائدة.
([8]) رواه أبو داود في (( مسائل أحمد )) ص (271) بسند صحيح، قال الحافظ عبد الغني بن سعيد: " رجلان نبيلان لزمهما لقبان قبيحان: معاوية بن عبد الكريم الضالّ؛ وإنما ضلَّ في طريق مكة، وعبد الله بن محمد؛ وإنما كان ضعيفاً في جسمه لا في حديثه "، كما في (( تهذيب الكمال )) للمزِّي (16/99)، وقال النسائي: " شيخ صالح ثقة، والضعيف لقب لكثرة عبادته ".
من الصفحة 265 الى 268 -