بسم الله الرحمن الرحيم
فإن أعظم الأصول المهمة في دين الإسلام هو تحقيق الإخلاص لله تعالى في كل العبادات ، والابتعاد والحذر عن كل ما يضاد الإخلاص وينافيه من الرياء والسمعة والعُجْب ونحو ذلك ،ومع أن هذا يعتبر من الأمور البدهية عند عامة المسلمين ، لكن كم نحتاج إلى مزيدٍ من التفقه في مقام الإخلاص وما يضاده ، وكم نفتقر إلى التذكير به وتعليمه ، ورحم الله أحد العلماء إذ يقول : " وددت أنه لو كان من الفقهاء من ليس له شغل إلا أن يعلم الناس مقاصدهم في أعمالهم ، ويقعد للتدريس في أعمال النيات ليس إلا ، فإنه ما أتي على كثير من الناس إلا من تضييع ذلك ،ولعل هذه المقالة المختصرة تحقيق من فِقْهِ هذا الأصل الكبير ، سائلاً المولى تعالى الإخلاص فيها ، والسلامة مما يخالف الإخلاص ويُنافيه ، فأقول مستعيناً بالله تعالى :
أ-أهمية أعمال القلوب :
إن تعريف الإيمان عندنا معشر أهل السنة ، هو إقرار باللسان واعتقاد بالجنان وعمل بالأركان ن يزيد بالطاعة وينقص بالعصيان ، واعلم أن الإخلاص أهم أعمال القلوب المندرجة في تعريف الإيمان ، وأعظمها قدراً وشأناً ؛ بل إن أعمال القلوب – عموماً – آكدُ وأهم من أعمال الجوارح ، يقول ابن تيمية رحمه الله عن الأعمال القلبية " وهي من أصول الإيمان وقواعد الدين ، مثل محبة الله ورسوله ، والتوكل على الله ، وإخلاص الدين لله ، والشكر له ، والصبر على حكمه ، والخوف منه ، والرجاء له ، وهذه الأعمال جميعاً واجبة على جميع الخلق باتفاق أئمة الدين "
الفتاوى 10/ 5 ( وانظر الفتاوى 20/70)
ويقول ابن القيم في بيان عظم أعمال القلوب : " أعمال القلوب هي الأصل ، وأعمال الجوارح تَبَعٌ ومكملةٌ ، وإن النية بمنزلة الرُوح ، والعمل بمنزلة الجسد للأعضاء الذي إذا فارق الروح فموات ، فمعرفة أحكام القلوب أهمّ من معرفة أحكام الجوارح "
( بدائع الفوائد 3/224)
وبهذا تدرك – عزيزي القارئ – أهمية أعمال القلوب ، وعلو شأنها ، ووجوب تحقيق هذه الأعمال ، ومن أهمها وأخصها الإخلاص .
2- منزلة الإخلاص :
إن الإخلاص هو حقيقة الدين ، ومفتاح الرسل عليهم السلام ، قال تعالى : (( وَمَا أُمِرُوا إِلَّا لِيَعْبُدُوا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ حُنَفَاءَ )) (البينة: من الآية5) وقال سبحانه : (( وَمَنْ أَحْسَنُ دِيناً مِمَّنْ أَسْلَمَ وَجْهَهُ لِلَّهِ وَهُوَ مُحْسِنٌ )) (النساء: من الآية125)وقال عز وجل ((الَّذِي خَلَقَ الْمَوْتَ وَالْحَيَاةَ لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلاً )) (الملك: من الآية2)
قال الفضيل : أي أخلصه وأصوبه .
وعن أبي هريرة رضي الله عنه قال : سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول : " قال الله تعالى : أنا أغنى الشركاء عن الشرك ، من عمل عملاً أشرك معي فيه غيري تركته وشركه " ( رواه مسلم )
لله عز وجل ، لا يتعلمه إلا ليصيب به عرضاً من الدنيا ، لم يجد عَرْفَ الجنة ( يعني ريحها ) يوم القيامة " ( رواه أبو داود ) و الأحاديث في هذا الباب كثيرة جداً .
·ومما ينبغي التذكير به في هذا الموضع هو أن الإخلاص إذا تمكن من طاعة ما ، فكانت هذه الطاعة خالصة لوجه الله تعالى ، فإننا نشاهد أن الله يجزي الجزاء الكبير والعطاء العظيم لهؤلاء المخلصين ، وإن كانت الطاعة في ظاهرها يسيرةً أو قليلة ، يقول ابن تيمية في هذا الشأن : " والنوع الواحد من العمل قد يفعله الإنسان على وجه يكمل فيه إخلاصه وعبوديته لله ، فيغفر الله به كبائر كما في حديث البطاقة ، فهذه حال من قالها بإخلاصٍ وصدقٍ ، كما قالها هذا الشخص ، وإلا فأهل الكبائر الذين دخلوا النار كلُّهم يقولون التوحيد ، ولم يترجح قولهم على سيئاتهم كما ترجّح قول صاحب البطاقة "
ثم ذكر ابن تيمية حديث البغي التي سقت كلباً فغفر الله لها ، والرجل الذي أماط الأذى عن الطريق فغفر الله له – ثم قال : " فهذه سقت الكلب بإيمانٍ خالص كان في قلبها فغفرا لله لها ، وإلا فليس كلُّ بغي سقت كلباً يغفر لها ، فالأعمال تتفاضلُ بتفاضل ما في القلوب من الإيمان والإجلال " ( منهاج السنة 6/ 21
وفي المقابل نجد أن أداء الطاعة بدون إخلاصٍ وصدق مع الله لا قيمة لها ولا ثواب ، بل صاحبها متعرض للوعيد الشديد ، وإن كانت هذه الطاعة من الأعمال العظام كالإنفاق في وجوه الخير ، وقتال الكفار ، ونيل العلم الشرعي ، كما جاء في حديث أبي هريرة رضي الله عنه قال : سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول : " إن أول الناس يقضى يوم القيامة عليه رجلٌ استشهد فأُتي به ، فعرّفه نعمته فعرفها ، قال : فما عملت فيها ؟ قال : قاتلت فيك حتى استشهدت ، قال : كذبت ، ولكنك قاتلت ليقال حريء فقد قيل ، ثم أمر به فسُحب على وجهه حتى ألقى في النار ، ورجلٌ تعلم العلم وعلّمه وقرأ القرآن ، فأتي به فعرفه ، فعرفها ، قال : فما عملت ؟ قال : تعلمت العلم وعلمته ، وقرأت فيك القرآن ،قال : كذبت ،ولكن تعلمت ليقال عالم ، وقرأت القرآن ليقال قارئ ، فقد قيل ، ثم أمر به فسُحب على وجهه حتى ألقي في النار ، ورجلٌ وسّع الله عليه ، وأعطاه من صنوف المال ، فأتى به فعرّفه نعمه فعرفها ، قال ، فما عملت فيها ؟ قال: ما تركت من سبيل تحبُّ أن ينفق فيها إلا أنفقت فيها لك ، قال : كذبت ، ولكنك فعلت ليقال جواد ! فقد قيل ، ثم أمر به فسُحب على وجهه حتى ألقي في النار " ( رواه مسلم )
3- تعريف الإخلاص وحده :
·أما تعريف الإخلاص وحدّه ، فقد تنوعت عبارات
العلماء في ذلك :
·فهناك من يعرّفه بـــ :إفراد الحق سبحانه بالقصد في الطاعة .
·وهناك من يقول : الإخلاص تصفيةُ الفعل عن ملاحظة المخلوقين .
·ويقول الهروي : الإخلاص تصفية العمل من كلّ شوب ،
ويقول بعضهم : المخلص هو الذي لا يبالي لو خرج كلُّ قدرٍ له في قلوب الناس ، من أجل صلاح قلبه مع الله عز وجل ، ولا يحبُّ أن يطلع الناس على مثاقل الذر من عمله .
ولا شك أن الإخلاص يحتاج إلى مجاهدة كبيرة حتى يناله العبدُ تماماً ، وقد سئل سهل بن عبد الله التستري ، أي شيء أشد على النفس ؟ قال : الإخلاص لأنه ليس لها فيه نصيبٌ ، وقال سفيان الثوري : ما عالجت شيئاً أشدّ علىّ من نيتي ، إنها تتقلب عليّ ، ولذا فإن النفس الأمارة بالسوء تُشيّن الإخلاص في قلوب ا لمكلفين ، وكما يقول ابن القيم عن تلك النفس : " وتريه الإخلاص في صورة ينفر منها ، وهي الخروج عن حكم العقل المعيشي ، والمداراة ، والمداهنة التي بها اندراج حال صاحبها ومشيه بين الناس ، فمتى أخلص أعماله ولم يعمل لأحد شيئاً تجنّبهم وتجنبوه وأبغضهم وأبغضوه "
( الروح ص 392)
منقول من مقال للشيخ : عبد العزيز بن محمد العبد اللطيف
وصلى الله وسلم على نبينا محمد أفضل الصلاة والتسليم