الســـــبيلُ المرشــــِـــد
لمعرفةِ حُكمِ مكثِ الُجنبِ والحائضِ في المســجِـد
الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وعلى آله وصحبه ومن سار على نهجه إلى يوم الدِّين؛ أما بعد:لمعرفةِ حُكمِ مكثِ الُجنبِ والحائضِ في المســجِـد
فإنَّ مسألة "مكث الجُنب والحائض في المسجد" من المسائل التي اختلفت فيها مذاهب أهل العلم من لدن الصحابة وإلى عصرنا هذا؛ وإليك تفصيل هذه الأقوال:
أقوال أهل العلم في هذه المسألة:
قال الفقيه ابن رشد رحمه الله تعالى [بداية المجتهد 1/35]: ((اختلف العلماء في دخول المسجد للجنب على ثلاثة أقوال:
- فقوم منعوا ذلك بإطلاق وهو مذهب مالك وأصحابه.
- وقوم منعوا ذلك إلا لعابر فيه، لا مقيم ومنهم الشافعي.
- وقوم أباحوا ذلك للجميع ومنهم داود وأصحابه فيما أحسب)).
وزاد شيخ الإسلام رحمه الله تعالى قولاً رابعاً فقال [المجموع 26/178]:
((ولهذا ذهب أكثر العلماء كالشافعي وأحمد وغيرهما إلى: الفرق بين المرور واللبث جمعاً بين الاحاديث.
ومنهم من: منعها من اللبث والمرور كأبي حنيفة ومالك.
ومنهم من: لم يحرم المسجد عليها، وقد يستدلون على ذلك بقوله تعالى: "ولا جنبا إلا عابري سبيل".
- وأباح أحمد وغيره اللبث لمن يتوضأ؛ لما رواه هو وغيره عن عطاء بن يسار قال: رأيت رجالاً من أصحاب رسول الله يجلسون في المسجد وهم مجنبون إذا توضؤوا وضوء الصلاة)).
وذكر الإمام البغوي رحمه الله تعالى ما ذكره شيخ الإسلام عن الإمام أحمد وغيره ولم يقيده بـ "لمن يتوضأ" فقال في [شرح السنة 2 /46]: ((وجوَّز أحمد والمزني: المكث فيه، وضعَّف أحمد الحديث – [يقصد: حديث "وجِّهوا هذه البيوت عن المسجد؛ فإني لا أحلُّ المسجد لحائض ولا جنب"] - لأنَّ راويه "أفلت" مجهول، وتأوَّل الآية على أنَّ "عابري السبيل" هم: المسافرون تصيبهم الجنابة فيتيممون ويصلون؛ وقد رُوي ذلك عن ابن عباس)).
سبب الاختلاف في هذه المسألة:
أما سبب اختلاف أهل العلم في ذلك؛ فيلخصه لنا ابن رشد [بداية المجتهد 1/35] فيقول:
((وسبب اختلاف الشافعي وأهل الظاهر: هو تردد قوله تبارك وتعالى: "يا أيها الذين آمنوا لا تقربوا الصلاة وأنتم سكارى" الآية:
بين أن يكون في الآية مجاز حتى يكون هناك محذوف مقدر وهو: موضع الصلاة، أي: لا تقربوا موضع الصلاة، ويكون عابر السبيل استثناء من النهي عن قرب موضع الصلاة.
وبين ألا يكون هنالك محذوف أصلاً وتكون الآية على حقيقتها، ويكون عابر السبيل هو: المسافر الذي عدم الماء وهو جنب. فمن رأى أنَّ في الآية محذوفاً: أجاز المرور للجنب في المسجد، ومن لم يرَ ذلك لم يكن عنده في الآية دليل على منع الجنب الإقامة في المسجد.
وأما من منع العبور في المسجد: فلا أعلم له دليلاً إلا ظاهر ما روي عنه عليه الصلاة والسلام أنه قال: "ولا أحل المسجد لجنب ولا حائض" وهو ثابت ثم [لعله: عند] أهل الحديث؛ واختلافهم في الحائض في هذا المعنى: هو اختلافهم في الجنب)).
عرض أدلة المختلفين:
عرفنا أنَّ ما ذكره الفقيه ابن رشد هو مختصر لسبب الاختلاف؛ وإلا فإنَّ للمختلفين أدلة أُخرى لم يتطرق إليها بالذكر؛ وإليك بيان أدلة الأقوال:
* اختلافهم في قوله تعالى: ((يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَقْرَبُوا الصَّلاةَ وَأَنْتُمْ سُكَارَى حَتَّى تَعْلَمُوا مَا تَقُولُونَ، وَلا جُنُباً إِلاَّ عَابِرِي سَبِيلٍ حَتَّى تَغْتَسِلُوا، وَإِنْ كُنتُمْ مَرْضَى أَوْ عَلَى سَفَرٍ أَوْ جَاءَ أَحَدٌ مِنْكُمْ مِنْ الْغَائِطِ أَوْ لامَسْتُمْ النِّسَاءَ فَلَمْ تَجِدُوا مَاءً فَتَيَمَّمُوا صَعِيداً طَيِّباً؛ فَامْسَحُوا بِوُجُوهِكُمْ وَأَيْدِيكُمْ، إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَفُوّاً غَفُوراً)) النساء/43.
قال العلامة ابن القيم رحمه الله تعالى [الصواعق المرسلة 1/208]: ((وتنازعوا – يقصد: الصحابة- في تأويل قوله: "ولا جنباً إلا عابري سبيل" النساء/43؛ هل هو المسافر يصلي بالتيمم مع الجنابة؟ أو المجتاز بمواضع الصلاة كالمساجد وهو جنب؟)).
وقال الإمام الطبري رحمه الله تعالى في [جامع البيان 5/97-100]: ((اختلف أهل التأويل في تأويل ذلك؛ فقال بعضهم معنى ذلك: لا تقربوا الصلاة وأنتم سكارى حتى تعلموا ما تقولون، ولا تقربوها جنباً إلا عابري سبيل؛ يعني: إلا أن تكونوا مجتازي طريق؛ أي: مسافرين حتى تغتسلوا؛ – [ثم ذكر من قال بهذا القول]–
ثم قال: وقال آخرون معنى ذلك: لا تقربوا المصلَّى للصلاة وأنتم سكارى حتى تعلموا ما تقولون ولا تقربوه جنباً حتى تغتسلوا إلا عابري سبيل؛ يعني: إلا مجتازين فيه للخروج منه؛ فقال أهل هذه المقالة: أُقيمت الصلاة مقام المصلَّى والمسجد إذ كانت صلاة المسلمين في مساجدهم أيامئذ لا يتخلفون عن التجميع فيها، فكان في النهي عن أن يقربوا الصلاة كفاية عن ذكر المساجد والمصلى الذي يصلون فيه ـ [ثم ذكر من قال بهذا القول؛ ورجحه] -)).
وقال الإمام القرطبي رحمه الله تعالى في [الجامع لأحكام القرآن 5/202]: ((اختلف العلماء في المراد بالصلاة هنا؟ فقالت طائفة: هي العبادة المعروفة نفسها وهو قول أبي حنيفة؛ ولذلك قال: "حتى تعلموا ما تقولون"، وقالت طائفة: المراد مواضع الصلاة وهو قول الشافعي؛ وقد قال تعالى: "لهدِّمت صوامع وبيع وصلوات" فسمى مواضع الصلاة: صلاة؛ ويدل على هذا التأويل: قوله تعالى: "ولا جنباً إلا عابري سبيل" وهذا يقتضي جواز العبور للجنب في المسجد لا الصلاة فيه، وقال أبو حنيفة: المراد بقوله تعالى: "ولا جنباً إلا عابري سبيل" المسافر إذا لم يجد الماء فإنه يتيمم ويصلي؛ وسيأتي بيانه، وقالت طائفة: المراد الموضع والصلاة معاً؛ لأنهم كانوا حينئذ لا يأتون المسجد إلا للصلاة ولا يصلون إلا مجتمعين فكانا متلازمين)).
من كلام الأئمة يتبين لنا؛ أنَّ المراد بـ ((الصلاة)) في الآية الكريمة:
* إما العبادة المعروفة نفسها.
* وإما مواضع الصلاة؛ كالمسجد والمصلَّى.
* وإما كلاهما.
وقد ضعَّفَ شيخ الإسلام رحمه الله تعالى القولين الأولين ثم رجَّح الأخير، ووجَّه الأول؛ حيث قال [شرح العمدة 1/388-392]:
((وقد احتج أصحابنا على هذه المسألة بقوله: "لا تقربوا الصلاة وأنتم سكارى حتى تعلموا ما تقولون ولا جنباً إلا عابري سبيل" لأنَّ ابن مسعود وابن عباس وغيرهما فسروا ذلك: بعبور الجنب في المسجد؛ قال جماعة من أصحابنا وغيرهم يكون المراد بالصلاة: مواضع الصلاة؛ كما قال تعالى: "لهدِّمت صوامع وبيع وصلوات".
وقد فسرها آخرون: بأنَّ المسافر إذا لم يجد الماء تيمم؛ لأنَّ الصلاة هي الأفعال أنفسها؛ القول على ظاهره ضعيف:
- لأنَّ المسافر قد ذُكِرَ في تمام الآية، فيكون تكريراً!!.
- ولأن المسافر لا تجوز له صلاة مع الجنابة إلا في حال عدم الماء؛ وليس في قوله: "إلا عابري سبيل" معترض كذلك.
- ولأنه كما تجوز الصلاة مع الجنابة للمسافر؛ فكذلك للمريض، ولم يستثن كما استثني المسافر؛ فلو قصد ذلك لبين كما بين في آخر الآية المريض والمسافر إذا لم يجد الماء.
- ولأنَّ في حمل الآية على ذلك: لزوم التخصيص في قوله تعالى: "عابري سبيل" ويكون المخصوص أكثر من الباقي؛ فإنَّ واجد الماء أكثر من عادمه، ولقوله: "ولا جنباً" لاستثناء المريض أيضاً.
- وفيه تخصيص أحد السببين بالذكر مع استوائهما في الحكم.
- ولأنَّ عبور السبيل حقيقته: المرور والاجتياز، والمسافر: قد يكون لابثاً وماشياً؛ فلو أريد المسافر لقيل: "إلا من سبيل" كما في الآيات التي عني بها المسافرين.
والتوجيه المذكور عن أصحابنا على ظاهره ضعيف أيضاً:
- لِما تقدَّم من أنَّ الآية نزلت في: قوم صلَّوا بعد شرب الخمر؛ ولم يكن ذلك في المسجد!!، وإنما كان في بيت رجل من الأنصار.
- ولأنه جوَّز القربان للمريض والمسافر إذا عُدِمَ الماء بشرط التيمم، وهذا لا يكون في المساجد غالباً.
وإنما الوجه في ذلك:
أن تكون الآية عامة في قربان الصلاة ومواضعها: واستثنى من ذلك عبور السبيل، وإنما يكون في موضعها خاصة؛ وهذا إنما فيه حمل اللفظ على حقيقته ومجازه؛ وذلك جائز عندنا على الصحيح؛ وعلى هذا فتكون الآية: دالة على منع اللبث.
أو تكون الصلاة هي الأفعال: ويكون قوله: "إلا عابري سبيل" الاستثناء منقطعاً، ويدل ذلك على منع اللبث؛ لأنَّ تخصيص العبور بالذكر: يوجب اختصاصه بالحكم، ولأنه مستثنى من كلام في حكم النفي كأنه قال: لا تقربوا الصلاة ولا مواضعها إلا عابري سبيل)).
وقال العلامة الشوكاني رحمه الله تعالى في تفسيره [1/468]: ((وفي القول الأوّل قوّة: من جهة كون الصلاة فيه باقية على معناها الحقيقي، وضعف: من جهة ما في حمل عابر السبيل على المسافر، وإنَّ معناه: أنه يقرب الصلاة عند عدم الماء بالتيمم؛ فإنَّ هذا الحكم يكون في الحاضر إذا عدم الماء كما يكون في المسافر!!.
وفي القول الثاني قوّة: من جهة عدم التكلف في معنى قوله: "إلا عابري سبيل"، وضعف: من جهة حمل الصلاة على مواضعها!!.
وبالجملة؛ فالحال الأولى أعني قوله: "وأنتم سكارى" : تقوّي بقاء الصلاة على معناها الحقيقي من دون تقدير مضاف، وكذلك ما سيأتي من سبب نزول الآية يقوّي ذلك. وقوله: "إلا عابري سبيل" يقوّي تقدير المضاف؛ أي: لا تقربوا مواضع الصلاة.
ويمكن أن يقال: إنَّ بعض قيود النهي أعني: «لا تقربوا» وهو قوله: "وأنتم سكارى" يدل على أنَّ المراد بالصلاة: معناها الحقيقي، وبعض قيود النهي وهو قوله: "إلا عابري سبيل" يدل على أنَّ المراد: مواضع الصلاة، ولا مانع من اعتبار كل واحد منهما مع قيده الدالّ عليه، ويكون ذلك بمنزلة نهيين مقيد كل واحد منهما بقيد؛ وهما: لا تقربوا الصلاة التي هي ذات الأذكار والأركان وأنتم سكارى، ولا تقربوا مواضع الصلاة حال كونكم جنباً إلا حال عبوركم في المسجد من جانب إلى جانب، وغاية ما يقال في هذا أنه من الجمع بين الحقيقة، والمجاز، وهو جائز بتأويل مشهور)).
وحمل اللفظ على الحقيقة والمجاز جمعاً؛ فيه خلاف، ولهذا قال الآلوسي عند تفسيره هذه الآية: ((وروي عن الشافعي رضي الله تعالى عنه: أنه حمل الصلاة على الهيئة المخصوصة، وعلى مواضعها؛ مراعاة للقولين، وفي الكلام حينئذٍ الجمع بين الحقيقة والمجاز!!، ونحن لا نقول به)).
أقول: كما ترى أيها القارئ الكريم أنَّ الخلاف في تفسير المراد بـ ((الصلاة)) في الآية خلاف شديد؛ وترجيح أحد الأقوال من الصعوبة بمكان؛ لكن الذي تطمئن إليه النَّفس – والله تعالى أعلم بمراده - : هو أنَّ المراد بـ ((الصلاة)) العبادة المعروفة نفسها.
أما ما ذكره شيخ الإسلام والشوكاني في تضعيف هذا القول فيمكن دفعه بما نقله المفسِّر العلامة الآلوسي في تفسيره لهذه الآية [5/39] حيث قال في دفع شبهة التكرير والإختصاص: ((والاقتصار فيما قبل على استثناء السفر مع مشاركة الباقي له في حكم الترخيص: للإشعار بأنه العذر الغالب المبني على الضرورة، الذي يدور عليها أمر الرخصة.
ولهذا قيل: المراد بـ(غير عابري سبيل): غير معذورين بعذر شرعي؛ إما بطريق الكناية أو بإيماء النص ودلالته، وبهذا يندفع الإيراد السابق على الحصر، وإنما لم يقل: إلا عابري سبيل أو مرضى - فاقدي الماء حساً أو حكماً - لِما أنَّ ما في النظم الكريم أبلغ وأوكد منه؛ لما فيه من الإجمال والتفصيل، ومعرفة تفاضل العقول والأفهام ... ثم قال:
وإيراد المسافر صريحاً مع سبق ذكره بطريق الاستثناء: لبناء الحكم الشرعي عليه وبيان كيفيته؛ فإنَّ الاستثناء ـ كما أشار إليه شيخ الإسلام ـ بمعزل من الدلالة على ثبوته فضلاً عن الدلالة على كيفيته.
وقيل: ذكر السفر هنا لإلحاق المرض به والتسوية بينه وبينه؛ بإلحاق الواجد بالفاقد بجامع العجز عن الاستعمال)).
والمقصود: أنَّ في الآية نهي المؤمنين عن قربان الصلاة وهم سكارى؛ وعن قربانها وهم جُنب غير مسافرين - لأنَّ السفر هو العذر الغالب المبني على الضرورة عند عدم الماء؛ أما ما سواه فمبنية على العذر الوارد في الشرع - حتى يغتسلوا، ثم بَيَّنت الآية حكم مَنْ فقد الماء (وهو المسافر غالباً) وضمَّت إليه مَنْ عجز عن استعماله مع وجوده (وهو المريض)؛ فليس في الآية تكرير: فالأول استثناء المسافر من الجُنب لبيان أنَّ السفر هو العذر الغالب على فقد الماء؛ ولا نحتاج أن نقيده بقيد ((عدم الماء)) لأنَّه لم يُذكر هنا لبيان حكم المسافر إذا كان جُنب ولم يجد الماء، وكيف يصنع؟؛ وإنَّما هذا الحكم مأخوذ من تكملة الآية؛ وقد تكرر فيها حال المسافر لبيان ذلك؛ والله تعالى أعلم.
ومما يقوي هذا الفهم من الآية الكريمة: ما ورد في سبب نزولها؛ وإليك ذلك:
* سبب نزول قوله تعالى: ((وَلا جُنُباً إِلاَّ عَابِرِي سَبِيلٍ حَتَّى تَغْتَسِلُوا)):
قال ابن جرير الطبري [تفسيره 5/97-99]: ((حدثنا ابن حميد: قال ثنا هارون بن المغيرة عن عنبسة عن ابن أبي ليلى عن المنهال بن عمرو عن عباد بن عبد الله عن علي رضي الله عنه قال: نزلت في السفر؛ "ولا جنباً إلا عابري سبيل" وعابر السبيل: المسافر إذا لم يجد ماء تيمم، ...
حدثني المثنى قال ثنا أبو صالح قال ثني الليث قال ثني يزيد بن أبي حبيب عن قول الله: "ولا جنباً إلا عابري سبيل" أنَّ رجالاً من الأنصار كانت أبوابهم في المسجد تصيبهم جنابة ولا ماء عندهم، فيريدون الماء ولا يجدون ممراً إلا في المسجد؛ فأنزل الله تبارك وتعالى: "ولا جنباً إلا عابري سبيل")).
فهذان سببان في نزول الآية:
1- في السفر؛ وعابر السبيل: هو المسافر إذا لم يجد ماءً تيمم وصلَّى.
قال الشوكاني في تفسيره [1/473]: ((وأخرج الفريابي وابن أبي شيبة في المصنف وعبد بن حميد وابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم والبيهقيّ عن عليّ قوله: "ولا جنباً إلا عابري سبيل" قال: نزلت في المسافر تصيبه الجنابة، فيتيمم ويصلي)).
لكن هل المراد بقول علي رضي الله تعالى عنه أنَّها نزلت في السفر؛ أو نزلت في المسافر تصيبه الجنابة فيتيمم ويصلي: ذكر سبب نزول الآية؟! أو معنى الآية؟! وقد قال الآلوسي في تفسيره [24/39] في أول سورة غافر: ((قال شيخ الإسلام ابن تيمية: قولهم "نزلت الآية في كذا"؛ يراد به تارة: سبب النزول، ويراد به تارة: أنَّ ذلك داخل في الآية وإن لم يكن السبب؛ كما تقول: عنى بهذه الآية كذا، وقال الزركشي في البرهان: قد عُرف من عادة الصحابة والتابعين أنَّ أحدهم إذا قال: نزلت الآية في كذا فإنه يريد بذلك أنها تتضمن هذا الحكم لا أنَّ هذا كان السبب في نزولها؛ فهو من جنس الاستدلال على الحكم بالآية لا من جنس النقل لما وقع)).
لكن مما يؤكِّد أنَّ مراد عليٍّ رضي الله تعالى عنه هو ذكر سبب نزول الآية؛ ما ذكره الآلوسي في المصدر السابق [5/41] في شرحه لقوله تعالى: "وَإِنْ كُنتُمْ مَرْضَى أَوْ عَلَى سَفَرٍ أَوْ جَاءَ أَحَدٌ مِنْكُمْ مِنْ الْغَائِطِ أَوْ لامَسْتُمْ النِّسَاءَ فَلَمْ تَجِدُوا مَاءً فَتَيَمَّمُوا" : ((أنَّ نزولها في غزوة المريسيع حين عرَّس رسول الله صلى الله عليه وسلم ليلة، فسقطت عن عائشة رضي الله تعالى عنها قلادة لأسماء، فلما ارتحلوا ذكرت ذلك لرسول الله صلى الله عليه وسلم، فبعث رجلين في طلبها، فنزلوا ينتظرونهما، فأصبحوا وليس معهم ماء، فأغلظ أبو بكر على عائشة رضي الله تعالى عنها وقال: حبست رسول الله صلى الله عليه وسلم والمسلمين على غير ماء فنزلت، فلما صلوا بالتيمم؛ جاء أسيد بن الحضير إلى مضرب عائشة فجعل يقول: ما أكثر بركتكم يا آل أبـي بكر ـ وفي رواية ـ يرحمك الله تعالى يا عائشة ما نزل بك أمر تكرهينه إلا جعل الله تعالى فيه للمسلمين فرجاً؛ وهذا يدل على: أنَّ سبب النزول كان فقد الماء في السفر؛ وهو ظاهر)) انتهى كلامه رحمه الله تعالى.
والقصة التي ذكرها الآلوسي أخرجها البخاري في باب: فضل عائشة رضي الله عنها برقم (3562)، وأخرجها مسلم في باب الحيض؛ حيث قالت أنَّها: ((استعارت من أسماء قلادة فهلكت، فأرسل رسول الله صلى الله عليه وسلم ناساً من أصحابه في طلبها، فأدركتهم الصلاة فصلوا بغير وضوء!!، فلما أتوا النبي صلى الله عليه وسلم شكوا ذلك إليه؛ فنزلت آية التيمم، فقال أسيد بن حضير: جزاك الله خيراً فوالله ما نزل بك أمر قط إلا جعل الله لك منه مخرجاً، وجعل للمسلمين فيه بركة)).
2- السبب الثاني المذكور في نزول الآية: في رجال من الأنصار تصيبهم جنابة ولا ماء عندهم، فيريدون الماء ولا يجدون ممراً إلا في المسجد؛ فقد روى ابن جرير الطبري في تفسيره فقال: حدثني المثنى قال حدثنا أبو صالح قال حدثني الليث قال حدثني يزيد بن أبي حبيب عن قول الله: {ولا جنباً إلا عابري سبيل} أنَّ رجالاً من الأنصار كانت أبوابهم في المسجد تصيبهم جنابة ولا ماء عندهم فيريدون الماء ولا يجدون ممراً إلا في المسجد فأنزل الله تبارك وتعالى: {ولا جنبا إلا عابري سبيل}.
وهذا إسناد ضعيف كما هو ظاهر؛ وعلته إرسال يزيد بن أبي حبيب قال الألباني [تمام المنة ص117]: ((وهو أبو رجاء المصري؛ وكان فقيهاً من ثقات التابعين إلا أنه كان يرسل؛ فهذه الرواية معللة بالإرسال فلا يُفرح بها)).
وأما قول الإمام ابن كثير في تفسيره: ((ويشهد لصحة ما قاله يزيد بن أبي حبيب رحمه الله ما ثبت في صحيح البخاري: أنَّ رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "سدوا كلَّ خوخة في المسجد إلا خوخة أبي بكر"، وهذا قاله في آخر حياته صلى الله عليه وسلم علماً منه أنَّ أبا بكر رضي الله عنه سيلي الأمر بعده ويحتاج إلى الدخول في المسجد كثيراً للأمور المهمة فيما يصلح للمسلمين؛ فأمر بسد الأبواب الشارعة إلى المسجد إلا بابه رضي الله عنه)).
وهذا بعيد؛ لأنَّ الأمر بسدِّ أبواب الصحابة التي كانت شارعة في المسجد إنما أراد به صلى الله عليه وسلم أن تصان المساجد عن التطرق إليها لغير ضرورة؛ إلا باب أبي بكر تنبيهاً على خلافته وبالتالي حاجته إلى المسجد، وقد قال صلى الله عليه وسلم: ((لا تتخذوا المساجد طرقاً إلا لذكرٍ أو صلاةٍ)) [السلسلة الصحيحة]، فعلة سدِّ الأبواب من أجل أن لا يُتخذ مسجده صلى الله عليه وسلم طريقاً وليس من أجل صيانته من دخول الجنب.
الأحاديث التي استدَّل بها المانعون من مكث الجنب والحائض في المسجد:
قال شيخ الإسلام رحمه الله تعالى [شرح العمدة 1/388-392]: ((يُحرم عليه – أي: الجُنب - اللبث في المسجد بغير وضوء، فأما العبور فيه فلا بأس؛ لما روت عائشة رضي الله عنها: أنَّ النبي صلى الله عليه وسلم قال: "لا أُحِلُّ المسجد لحائض ولا جنب" رواه أبو داود، وعن أم سلمة عن النبي صلى الله عليه وسلم: "إنَّ المسجد لا يحل لجنب ولا حائض" رواه ابن ماجة، ولأنَّ المسجد منزل الملائكة لما فيه من الذكر، والملائكة لا تدخل بيتاً فيه كلب ولا جنب ولا تمثال كذلك رواه علي عن النبي صلى الله عليه وسلم أخرجه مسلم وغيره، ففي لبث الجنب في المسجد: إيذاء للملائكة)).
فالأحاديث هي:
1- ما أخرجه أبو داود في سننه: حدثنا مسدد حدثنا عبد الواحد بن زياد حدثنا الأفلت بن خليفة قال حدثتني جسرة بنت دجاجة قالت: سمعت عائشة رضي الله عنها تقول: جاء رسول الله صلى الله عليه وسلم ووجوه بيوت أصحابه شارعة في المسجد، فقال: ((وجهوا هذه البيوت عن المسجد))، ثم دخل النبي صلى الله عليه وسلم ولم يصنع القوم شيئاً رجاء أن تنزل فيهم رخصة، فخرج إليهم بعد فقال: ((وجهوا هذه البيوت عن المسجد؛ فإنّي لا أحل المسجد لحائض ولا جنب)).
2- وما أخرجه ابن ماجه في سننه: حدثنا أبو بكر بن أبي شيبة ومحمد بن يحيى قالا ثنا أبو نعيم ثنا بن أبي غنية عن أبي الخطاب الهجري عن محدوج الذهلي عن جسرة قالت: أخبرتني أم سلمة قالت: دخل رسول الله صلى الله عليه وسلم صرحة هذا المسجد، فنادى بأعلى صوته: ((إنَّ المسجد لا يحل لجنب ولا لحائض)).
وقد تكلَّم الشيخ الألباني رحمه الله تعالى عن تضعيف هذين الحديثين في كتابه تمام المنَّة ص118-119 وبيَّن أنَّهما حديثٌ واحد عن عائشة؛ وأنَّ مدارهما على "جسرة" وقد اضطربت فيه؛ فمرَّة روته عن عائشة، وأخرى عن أم سلمة، ولم يوثقها غير العجلي وابن حبَّان؛ وبين الألباني أنَّ للحديث شاهدان لا ينهضان لتقويته لأنَّ في أحدهما متروكاً، وفي الآخر كذاباً، وانظر "ضعيف سنن أبي داود رقم:32"، وفصَّل ذلك وردَّ على مَنْ صححه في كتابه الثمر المستطاب 2/746؛ فراجعه إن شئت.
3- وعن علي رضي الله تعالى عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "لا تدخل الملائكة بيتاً فيه صورة ولا كلب ولا جنب" رواه أبو داود والنسائي؛ وهوصحيح دون كلمة (ولا جُنب) كما قال الشيخ الألباني في تخريجه لسنن النَّسائي.
* ومما استدل به البعضُ على هذا المذهب الحديثَ المتفق عليه عن أمِّ عطية رضي الله تعالى عنها في مَنْ يشهد العيد أنَّها قالت: ((أُمِرنا أن نُخرِج الحُيَّضَ يوم العيدين، وذوات الخدور: فيشهدن جماعة المسلمين ودعوتهم، ويعتزل الحُيَّضُ عن مصلاهنَّ)).
قال النووي [شرح صحيح مسلم 6/179]: ((قولها: "وأَمَرَ الحُيَّضَ أن يعتزلن مصلَّى المسلمين" هو بفتح الهمزة والميم في "أمر"، فيه: منع الحيض من المصلَّى، واختلف أصحابنا في هذا المنع؛ فقال الجمهور: هو منع تنزيه لا تحريم؛ وسببه الصيانة والاحتراز من مقارنة النساء للرجال من غير حاجة ولا صلاة, وإنما لم يُحرم لأنه ليس مسجداً!!.
وحكى أبو الفرج الدارمي من أصحابنا عن بعض أصحابنا أنه قال: يُحرم المكث في المصلَّى على الحائض كما يحرم مكثها في المسجد؛ لأنه موضع للصلاة فأشبه المسجد، والصواب الأول)).
وقال ابن حجر في [الفتح 1/424]: ((وقال ابن المنير: الحكمة في اعتزالهن أنَّ في وقوفهن وهنَّ لا يصلين مع المصلِّيات إظهار استهانة بالحال، فاستحب لهنَّ اجتناب ذلك)).
وقال السندي في [حاشيته على سنن النسائي 1/194]: (("وتعتزل الحيض المصلَّى" أي: في وقت الصلاة، وفيه: أنه ليس لحائض أن تحضر محل الصلاة وقت الصلاة، والله تعالى أعلم)) ويؤكِّد هذا المعنى ما ورد عند البخاري – واللفظ له -، ومسلم، وأبي داود: ((حتى نخرج الحيض فيكنَّ خَلفَ الناس؛ فيكبرن بتكبيرهم ويدعون بدعائهم، يرجون بركة ذلك اليوم وطهرته)) ، بل أصرح منه: ما جاء عند الدَّارمي بلفظ: ((فأما الحيض: فإنَّهن يعتزلن الصفَّ، ويشهدن الخير ودعوة المسلمين))؛ بل ما يدفع أدنى شك في ذلك: قول أمِّ عطية عند مسلم تحت [باب: ذكر إباحة خروج النساء في العيدين إلى المصلى، وشهود الخطبة؛ مفارقات للرجال]: ((أمرنا رسول الله صلى الله عليه وسلم: أن نخرجهن في الفطر والأضحى؛ العواتق والحيض وذوات الخدور، فأما الحيض: فيعتزلن الصلاة، ويشهدن الخير ودعوة المسلمين))؛ وهذه الرواية تُعدّ مفسِّرة لرواية: ((ويعتزلن الحُيَّضُ مصلَّى النَّاس)) وما شابهها من الروايات.
وبهذا يندفع هذا الدليل الذي استدلَّ به البعض على منع الحائض من المكث في المسجد؛ بل وينتقل إلى أدلة القائلين بالجواز؛ ذلك لأنَّ في الحديث إشارة على جواز بقاء الحُيَّض – ولا شك أنَّهنَّ قاعدات يستمعن الخطبة - في مواضع الصلاة حتى تُقام الصلاة، فيعتزلنَّ صفوف المصلين، فيكنَّ خلفَ النَّاس.
الأحاديث التي استدلَّ بها المجيزون لهما العبور أو المرور من المسجد لا المكث:
قال شيخ الإسلام [شرح العمدة 1/389]: ((فأما المرور: فيجوز لما روت عائشة قالت: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "ناوليني الخمرة من المسجد" فقلت: إني حائض، فقال: "إنَّ حيضتك ليست في يدك" رواه أحمد ومسلم وأبو داود والنسائي والترمذي، وقالت ميمونة: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يدخل على إحدانا وهي حائض، فيضع رأسه في حجرها فيقرأ القرآن وهي حائض، ثم تقوم إحدانا بخمرته فتضعها في المسجد وهي حائض؛ رواه أحمد والنسائي، وقال جابر بن عبد الله: كان أحدنا يمرُّ في المسجد جنباً مجتازاً ؛ رواه سعيد في سننه]، وقال زيد بن أسلم: كان أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم يمشون في المسجد وهم جنب؛ رواه ابن المنذر)).
وحديث ميمونة حسنه الشيخ الألباني في تخريجه لسنن النَّسائي، وهذا الحديث وحديث عائشة الذي قبله يدلان على جواز دخول الحائض في المسجد للحاجة، أما أثر جابر فقد ضعفه الشيخ رحمه الله تعالى في تخريجه لصحيح ابن خزيمة، وأثر زيد كما نقله شيخ الإسلام – إن صحَّ – فيه دلالة على جواز دخول الجنب في المسجد، لكن لا دلالة فيه على المنع من الجلوس أو المكث؛ كما هو ظاهر.
وهذا العبور أجازه مَنْ قال به للحاجة؛ قال شيخ الإسلام [المصدر السابق 1/392]: ((وهذا العبور إنما يجوز: إذا كان لحاجه وغرض، وإن لم يكن ضرورياً، فأما لمجرد العبث: فلا، فإن اضطر إلى اللبث في المسجد أو إلى الدخول ابتداء أو اللبث فيه لخوف على نفسه وماله: جاز ذلك ولزمه التيمم في أحد الوجهين؛ كما يلزم إذا لبث فيه لغير ضرورة وقد عدم الماء، والمنصوص عنه: أنه لا يلزمه لأنه ملجأ إلى اللبث والمقام غير قاصد له فيكون في حكم العابر المجتاز؛ كالمسافر لو حبسه عدو أو سلطان كان في حكم المجتاز في رخص السفر، ولهذا لو دخل المسجد بنية اللبث أثِمَ وإن لم يلبث، اعتباراً بقصد اللبث كما يعتبر قصد الإقامة)).
الأدلة التي استدل بها القائلون بجواز مكث الجنب إذا توضأ:
قال شيخ الإسلام [شرح العمدة 1/391]: ((وإذا توضأ الجنب جاز له اللبث:
لما روى أبو نعيم ثنا هشام بن سعد عن زيد بن أسلم قال: كان أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم يتحدثون في المسجد وهم على غير وضوء، وكان الرجل يكون جنباً فيتوضأ، ثم يدخل فيتحدث. وقال عطاء بن يسار: رأيت رجالاً من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم يجلسون في المسجد وهو مجنبون إذا توضئوا وضوء الصلاة؛ رواه سعيد.
وهذا لأنَّ الوضوء يرفع الحدثين عن أعضاء الوضوء، ويرفع حكم الحدث الأصغر عن سائر البدن؛ فيقارب مَنْ عليه الحدث الأصغر فقط، ولهذا أمر الجنب إذا أراد النوم والأكل بالوضوء؛ ولولا ذلك لكان مجرد عبث.
يبين ذلك؛ أنه قد جاء في نهي الجنب أن ينام قبل أن يتوضأ أن لا يموت فلا تشهد الملائكة جنازته؛ فهذا يدل على أنه إذا توضأ شهدت جنازته ودخلت المكان الذي هو فيه، ونهى الجنب عن المسجد لئلا يؤذي الملائكة بالخروج؛ فإذا توضأ أمكن دخول الملائكة المسجد، فزال المحذور)).
أما الآثار عن الصحابة أنَّهم كانوا يتوضؤون إذا كانوا جُنب ليجلسوا في المسجد – فعلى فرض صحتها؛ لأنَّ في الأثر الأول: هشام بن سعد؛ وقد ضعفه النَّسائي وابن معين وابن عدي - فلا تدل على وجوب ذلك الوضوء لأنَّها مجرد فعل، وأما أنَّه صلى الله تعالى عليه وآله وسلم أمر الجنب إذا أراد النوم والأكل بالوضوء، ونهاه عن النوم قبل أن يتوضأ فهذا أيضاً لا يدل على الوجوب لحديث عمر رضي الله تعالى عنه أنه سأل رسول الله صلى الله عليه وسلم: أينام أحدنا وهو جنب؟ فقال: "نعم؛ ويتوضأ إن شاء" أخرجه ابن حبان وابن خزيمة في صحيحيهما؛ وصححه الألباني؛ وانظر كتابه "آداب الزفاف" فصل: توضؤ الجنب قبل النوم.
قال النووي [شرح صحيح مسلم 3/217-218]: ((ولا خلاف عندنا: أنَّ هذا الوضوء ليس بواجب؛ وبهذا قال مالك والجمهور, وذهب ابن حبيب من أصحاب مالك إلى وجوبه, وهو مذهب داود الظاهري)).
فإذا كان حكم الوضوء في الأصل – قبل النَّوم والأكل ومعاودة الجماع – غير واجب؛ فحكمه في الفرع – المكث في المسجد – كذلك؛ كما لا يخفى في موضوع القياس.
بل إنَّ كلَّ وضوء لغير الصلاة فليس بواجب كما قال شيخ الإسلام نفسه [المجموع 21/274]: ((وقد ثبت عنه في الصحيح: أنه لما خرج من الخلاء وأكل وهو محدث؛ قيل له: ألا تتوضأ؟ قال: "ما أردت صلاة فأتوضأ" يدل على أنه لم يجب عليه الوضوء إلا إذا أراد صلاة، وأنَّ وضوءه لما سوى ذلك مستحب ليس بواجب؛ وقوله: "ما أردت صلاة فأتوضأ" ليس إنكاراً للوضوء لغير الصلاة؛ لكن إنكار لإيجاب الوضوء لغير الصلاة. فإنَّ بعض الحاضرين قال له: ألا تتوضأ؟ فكأنَّ هذا القائل ظنَّ وجوب الوضوء للأكل، فقال: "ما أردت صلاة فأتوضأ"، فبين له أنه إنما فرض الله الوضوء على من قام إلى الصلاة)).
بل صرَّح شيخ الإسلام نفسه [المجموع 21/343-344] باستحباب الوضوء قبل النَّوم والأكل والمعاودة؛ حيث سئل: ((أيما أفضل للجنب أن ينام على وضوء أو يكره له النوم على غير وضوء؟ وهل يجوز له النوم في المسجد إذا توضأ من غير عذر أم لا؟
فأجاب: الجنب يستحب له الوضوء إذا أراد أن يأكل أو يشرب أو ينام أو يعاود الوطء، لكن يكره له النوم إذا لم يتوضأ، فإنه قد ثبت في الصحيح أنَّ النبي سئل هل يرقد أحدنا وهو جنب؟ فقال:"نعم إذا توضأ للصلاة"، ويستحب الوضوء عند النوم لكل أحد؛ فإنَّ النبي صلى الله تعالى عليه وآله وسلم قال لرجل: "إذا أخذت مضجعك فتوضأ وضوءك للصلاة، ثم قل: اللهم إني أسلمت نفسي إليك ووجهت وجهي إليك وفوضت أمري إليك وألجأت ظهري إليك رغبة ورهبة إليك لا ملجأ ولا منجا منك إلا إليك آمنت بكتابك الذي أنزلت ونبيك الذي أرسلت".
وليس للجنب أن يلبث في المسجد؛ لكن إذا توضأ جاز له اللبث فيه عند أحمد وغيره، واستدل بما ذكره بإسناده عن هشام بن سعد: أنَّ أصحاب رسول الله كانوا يتوضؤون وهم جنب ثم يجلسون في المسجد ويتحدثون، وهذا لأنَّ النبي صلى الله تعالى عليه وآله وسلم أمر الجنب بالوضوء عند النوم، وقد جاء في بعض الأحاديث: أنَّ ذلك كراهة أن تقبض روحه وهو نائم فلا تشهد الملائكة جنازته، فإنَّ في السنن عن النبي صلى الله تعالى عليه وآله وسلم أنه قال: "لا تدخل الملائكة بيتاً فيه جنب" وهذا مناسب لنهيه عن اللبث في المسجد، فإنَّ المساجد بيوت الملائكة، كما نهى النبي صلى الله تعالى عليه وآله وسلم عن أكل الثوم والبصل عند دخول المسجد؛ وقال: "إنَّ الملائكة تتأذى مما يتأذى منه بنو آدم"، فلما أمر النبي الجنب بالوضوء عند النوم دلَّ ذلك على: أنَّ الوضوء يرفع الجنابة الغليظة، وتبقى مرتبة بين المحدث وبين الجنب؛ لم يرخص له فيما يرخص فيه للمحدث من القراءة ،ولم يمنع مما يمنع منه الجنب من اللبث في المسجد، فإنه إذا كان وضوؤه عند النوم يقتضي شهود الملائكة له دلَّ على أنَّ الملائكة تدخل المكان الذي هو فيه إذا توضأ)).
وهل تقاس الحائض على الجنب في الوضوء قبل النَّوم؟
عرفنا أنَّ الجنب أمره الشارع استحباباً أن يتوضأ قبل النوم، فهل تُقاس الحائض عليه؟
قال الحافظ ابن حجر رحمه الله تعالى [فتح الباري 1/395]: ((وقال ابن دقيق العيد: نصَّ الشافعي رحمه الله على أنَّ ذلك ليس على الحائض, لأنها لو اغتسلت لم يرتفع حدثها بخلاف الجنب, لكن إذا انقطع دمها استحب لها ذلك)).
أما اللبث في المسجد مع الوضوء فقد فرَّق شيخ الإسلام رحمه الله تعالى بين الجنب والحائض فقال [26/179]:
((وقد أمر النبي صلى الله تعالى عليه وآله وسلم الجنب بالوضوء عند الأكل والشرب والمعاودة؛ وهذا دليل أنه إذا توضأ ذهبت الجنابة عن أعضاء الوضوء، فلا تبقى جنابته تامة، وإن كان قد بقي عليه بعض الحدث، كما أنَّ المحدِث الحدث الأصغر عليه حدث دون الجنابة، وإن كان حدثه فوق الحدث الأصغر فهو دون الجنب؛ فلا تمتنع الملائكة عن شهوده، فلهذا ينام ويلبث في المسجد، وهذا يدل على: أنَّ الجنابة تتبعض، فتزول عن بعض البدن دون بعض؛ كما عليه جمهور العلماء.
وأما الحائض فحدثها دائم؛ لا يمكنها طهارة تمنعها عن الدوام، فهي معذورة في مكثها ونومها وأكلها وغير ذلك، فلا تمنع مما يمنع منه الجنب مع حاجتها إليه))، فالجُنب يُمنع من اللبث في المسجد حتى يتوضأ، وأما الحائض فلا ينفعها الوضوء في رفع شيء من الحدث فلا تُمنع، وإنما إذا احتاجت إلى اللبث في المسجد لبثت فيه بغير وضوء.
والحاجة التي بها تستبيح الحائض اللبث في المسجد هي في مرتبة الضرورة بقرينة قوله رحمه الله تعالى بعد ذلك: ((لكن إذا احتاجت إلى الفعل استباحت المحظور مع قيام سبب الحظر لأجل الضرورة كما يباح سائر المحرمات مع الضرورة من الدم والميتة ولحم الخنزير)).
وهذا يعني أنَّ الأصل حرمة لبثها في المسجد ولعلَّه لذلك قال في شرح العمدة 1/459: ((والحائضُ لا يجوز لها أن تلبث في المسجد توضأت أو لم تتوضأ)).
أما إن انقطع دمها وأمِنت من تلويث المسجد وتوضأت جاز لها أن تلبث فيه؛ قال رحمه الله تعالى في شرح العمدة 1/460: ((ولها العبور في المسجد لكن إنْ كان دمها جارياً فإنها تتلجم لتأمن من تلويث المسجد، وقيل: لا تدخله إلا لأخذ شيء منه دون وضع شيء فيه للحاجة إلى ذلك وقد تقدمت الأحاديث في جواز ذلك،وأما اللبث فيه بالوضوء: فيجوز إذا انقطع دمها، وأما قبل فلا يجوز نصَّ عليه؛ لأنَّ طهارتها لا تصح وسبب الحدث قائم، ولذلك لم يستحب لها الوضوء لنوم أو أكل ونحو ذلك)).
أدلة المجيزين للحائض والجنب أن يمكثا في المسجد مطلقاً:
قال ابن حزم [المحلَّى 2/184-187]: ((لأنه لم يأت نهي عن شيء من ذلك، وقد قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "المؤمن لا ينجس"، وقد كان أهل الصفة يبيتون في المسجد بحضرة رسول الله صلى الله عليه وسلم وهم جماعة كثيرة؛ ولا شكَّ في أنَّ فيهم من يحتلم، فما نهوا قط عن ذلك.
وقال قوم: لا يدخل المسجد الجنب والحائض إلا مجتازين؛ وهذا قول الشافعي وذكروا قول الله تعالى: "يا أيها الذين آمنوا لا تقربوا الصلاة وأنتم سكارى حتى تعلموا ما تقولون ولا جنباً إلا عابري سبيل حتى تغتسلوا" فادعوا أنَّ زيد بن أسلم أو غيره قال: معناه لا تقربوا مواضع الصلاة.
ولا حجة في قول زيد، - ولو صح أنه قاله لكان خطأ منه - لأنه لا يجوز أن يظن أنَّ الله تعالى أراد أن يقول: لا تقربوا مواضع الصلاة فيلبِّس علينا فيقول: "لا تقربوا الصلاة"، وروي أنَّ الآية في الصلاة نفسها عن علي بن أبي طالب وابن عباس وجماعة.
وقال مالك: لا يمرا فيه أصلاً، وقال أبو حنيفة وسفيان: لا يمرا فيه؛ فإن اضطرا إلى ذلك تيمما ثم مرا فيه ...
ثم ذكر دليلهم وهو: " إنَّ المسجد لا يحل لجنب ولا لحائض" من طرق وضعفها جميعها، وحكم عليه بالبطلان، ثم قال:
حدثنا عبد الرحمن بن عبد الله ثنا إبراهيم بن أحمد ثنا الفربري ثنا البخاري ثنا عبيد بن إسماعيل ثنا أبو أسامة هشام بن عروة عن أبيه عن عائشة أم المؤمنين: أنَّ وليدةً سوداء كانت لحي من العرب، فأعتقوها، فجاءت إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فأسلمت فكان لها خباء في المسجد أو حفش؛ فهذه امرأة ساكنة في مسجد النبي صلى الله عليه وسلم، والمعهود من النساء الحيض فما منعها عليه السلام من ذلك، ولا نهى عنه، وكل ما لم ينه عليه السلام عنه فمباح.
وقد ذكرنا عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قوله: "جعلت لي الأرض مسجداً" ولا خلاف في أنَّ الحائض والجنب مباح لهما جميع الأرض؛ وهي مسجد، فلا يجوز أن يخص بالمنع من بعض المساجد دون بعض.
ولو كان دخول المسجد لا يجوز للحائض: لأخبر بذلك عليه السلام عائشة إذ حاضت فلم ينهها إلا عن الطواف بالبيت فقط؛ ومن الباطل المتيقن: أن يكون لا يحل لها دخول المسجد فلا ينهاها عليه السلام عن ذلك، ويقتصر على منعها من الطواف؛ وهذا قول المزني وداود وغيرهما؛ وبالله تعالى التوفيق)).
أما حديث أهل الصفة (والصفة: موضع مظلل في المسجد النبوي) فقد أخرجه الحاكم والبيهقي وابن حبَّان والطبراني وأخرجه أحمد مختصراً، وصححه الحاكم ووافقه الذهبي وأقرَّهما الألباني، أما حديث الوليدة السوداء التي كان لها خباء في المسجد أو حفش (وهو البيت الضيق الصغير) فقد أخرجه البخاري؛ وبعد أن نقل الشيخ الألباني هذين الحديثين في كتابه "الثمر المستطاب 2/117- 120" قال: ((قال ابن بطال: "فيه: أنَّ مَنْ لم يكن له مسكن ولا مكان مبيت: يباح له بالمبيت في المسجد سواء كان رجلاً أو امرأةً؛ عند حصول الأمن من الفتنة، وفيه اصطناع الخيمة وشبهها للمسكين رجلاً كان أو امرأةً " نقله في "العمدة" )).
وقال شيخ الإسلام [المجموع 26/177]: ((فإنَّ لبثها – أي: الحائض - فى المسجد لضرورة: جائز؛ كما لو خافت مَنْ يقتلها إذا لم تدخل المسجد، أو كان البرد شديداً، أو ليس لها مأوى إلا المسجد))؛ ولهذا فهذان الدليلان لا يسلمان من معارضة كذلك، فإنَّهما فيمن لم يكن له مأوى؛ وهذه ضرورة، ولا شكَّ أنَّ الضرورات تبيح المحظورات.
وانظر كذلك ما ذكره عبد الرزاق في مصنَّفه [1/414] باب "المشرك يدخل المسجد" من الأحاديث التي تدل على مكث المشركين في المسجد ومبيتهم والبناء لهم فيه؛ فراجع ذلك إن شئت؛ حديث: (1620)، (1621)، (1622)، وكلُّها معلولة.
خلاصة هذه المسألة:
أنَّ العلماء اختلفوا فيها إلى أربعة أقوال:
1- فمنهم من منع الجنب والحائض من المكث أو اللبث في المسجد مطلقاً لحديث جسرة: "إنَّ المسجد لا يحل لجنب ولا لحائض" وقد تبين أنَّه ضعيف.
2- ومنهم من ذهب إلى جوازه مطلقاً، لأنه الأصل ولا ناقل عنه صحيح.
3- ومنهم من فرَّق بين العبور واللبث جمعاً بين حديث جسرة الآنف الذكر وبين قوله تعالى: "وَلا جُنُباً إِلاَّ عَابِرِي سَبِيلٍ حَتَّى تَغْتَسِلُوا" وحديث عائشة وفيه: "ناوليني الخمرة من المسجد"، وحديث ميمونة وفيه: "ثم تقوم إحدانا بخمرته فتضعها في المسجد وهي حائض" وما جاء في نهيه صلى الله تعالى عليه وآله وسلم لعائشة من الطواف وكانت حائضاً، ولم ينهها عن الدخول في المسجد؛ وهذه الأحاديث لا شكَّ في صحة دلالتها على جواز دخول الحائض في المسجد، أما الآية الكريمة فقد تقدَّم فيها الخلاف، وأنَّ الراجح فيها أنَّها نزلت في السفر، ولهذا فلا دلالة فيها على التفريق بين العبور واللبث.
4- أما القول الأخير من أقوال أهل العلم في هذه المسألة: فهو يجوز للجنب أن يلبث في المسجد إذا توضأ؛ لأنَّ الوضوء يرفع الجنابة الغليظة فيقرب من الحدث الأصغر، أما الحائض فلا يرفع الوضوء لها شيئاً فلهذا لا تُمنع من اللبث في المسجد إذا كان لها فيه حاجة؛ وهذا هو اختيار شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله تعالى؛ وهو القول الأقرب إلى الصواب؛ لولا أنَّ هذا الوضوء الذي اشترطه في مكث الجنب في المسجد قيس على وضوء الجنب قبل النَّوم والأكل ومعاودة الجماع، وهو مستحب كما تقدَّم، فكما أنَّ للجنب أن ينام بلا وضوء مع عدم الإثم، فكذلك له أن يمكث في المسجد مع عدم الإثم؛ لأنَّ هذا فرع على ذاك الأصل.
ولهذا فالصواب في هذه المسألة:
قول مَنْ ذهب إلى جواز مكث الحائض والجنب في المسجد؛ لأنَّ الأصل في الأشياء الإباحة فلا يُنقل عنها إلا ناقلٌ صحيحٌ لم يُعارضه ما يُساويه أو يُقدَّم عليه؛ والأدلة التي استدلَّ بها المخالفون لهذا القول لا يُمكن أن تعارض هذا الأصل؛ إما لضعف إسنادها، أو لضعف دلالتها؛ وقد تقدَّم بيان ذلك في مواضعها؛ وقد قال الشوكاني [نيل الأوطار 1/255] في شرح حديث "حتى يسمع صوتاً أو يجد ريحاً": ((قال النووي في شرح مسلم: وهذا الحديث أصل من أصول الإسلام، وقاعدة عظيمة من قواعد الدين؛ وهي: أنَّ الأشياء يُحكم ببقائها على أصولها حتى يتيقن خلاف ذلك، ولا يضر الشك الطارئ عليها)).
وأورد البعض إيراداً فقال: إنَّ صلاة تحية المسجد واجبة عند الدخول إذا أرادت المرأة الجلوس فيه؛ ولا يجوز للحائض أن تصلي؛ فكيف لها أن تجلس؟!
وجواب ذلك: أنَّ لها أن تجلس من غير أن تصلي تحية المسجد؛ لقوله صلى الله عليه وسلم لعائشة عندما حاضت في الحج: ((فافعلي ما يفعل الحاج غير أنْ لا تطوفي بالبيت ولا تصلي حتى تطهري))، والحاجُّ له أن يجلس في المسجد الحرام، فلم ينهها صلى الله عليه وسلم عن ذلك، وبهذا يكون هذا الحديث – كذلك – من أدلة تجويز أن تمكث الحائض في المسجد؛ لأنه صلى الله عليه وسلم منعها من الطواف والصلاة ولم يمنعها من المكث في المسجد مع حاجتها لذلك كما لا يخفى، ولا يجوز تأخير البيان عن وقت الحاجة، فدلَّ ذلك على جواز أن تمكث فيه. [وهذا خلاصة ما أجاب به الشيخ الألباني رحمه الله تعالى في أحد مجالسه].
هذا والله تعالى أعلم؛ وأسأله تعالى أن يوفقنا إلى السداد في الأقوال والأعمال، وأن يغفر لنا زلاتنا وجهلنا وأخطاءنا وكل ذلك عندنا إنَّه هو الغفور الرحيم.
سبحانك اللهم وبحمدك، أشهد أن لا إله إلا أنت، أستغفرك وأتوب إليك.
وكتبــــه:
أبو معاذ رائد آل طاهر
22 من شهر الله المحرَّم 1425ﻫ
تعليق