السلام عليكم ورحمة الله وبركاته، أمَّا بعد:
لعلنا حين نقرأ المقالات والكتب على هذه الشبكة نجد بعض الكلمات التي تعارفنا علي معنى لها في أذهاننا وحين البحث في كتب اللغة والمعاجم نجد اختلافاً طفيفاً أو كبيراً عن المعنى الذي ارتسم عندنا .
ومن تلك الكلمات كلمة : ((بَلْهَ))، مبنية على الفتح، على وزن: كََيْفَ، وما بعدَها مَنْصوبٌ على الأوَّلِ، مَخْفوضٌ على الثاني، مرفوعٌ على الثالِثِ، وفَتْحُها بِناءٌ على الأوَّلِ والثالِثِ، إعْرابٌ على الثاني.
قال الفارسيّ: بَلْهَ كلمة استثنائيّة يُخفضُ بها ويُنْصَب بها، فمن خفض بها جعلها مصدراً كقولك ضَرْبَ الرِّقاب، ومن نصب ما بعدها جعلها فِعلاً وهذا قولٌ مَجازيٌّ وليس بحقيقيٍّ ولولا الإشفاق من الإطالة لأبنت كيف هو غير حقيقي ومن لطَّف النَّظر أدنى شيءٍ أدركه. وقد اعتبرها بعض اللغويين حرف جرٍ وتجاذبت الأقوال في معانيها واستعمالها اهـ.
اختلف اللغويون في معاني هذه الكلمة على ما يأتي:
1- بَلْهَ: بمعنى " كيف " .
2- في معنى " دَعْ " .
3- معناها سِوى، وفي الحديث: " أَعْدَدْتُ لعبادي الصالحينَ ما لا عينٌ رأتْ، ولا أذنٌ سَمِعَتْ، ولا خَطَرَ على قلبِ بَشَرٍ، بَلْهَ ما أَطْلعتُهُمْ عليه.
وهو مُوافِقٌ لقَوْلِ من يَعُدُّها من ألْفاظِ الاستثناءِ .
وبكل هذه المعاني الثلاث نَطَقَ الشِّعْر كما سيأتي .
4- وفي تَفْسيرِ سُورةِ السَّجْدةِ من " البخاري " : " ولا خَطَرَ على قَلْبِ بَشَرٍ ذُخْراً من بَلْهِ ما اطَّلَعْتُمْ عليه " ، فاسْتُعْمِلَتْ مُعْرَبَةً بِمِنْ، خارِجَةً عن المَعاني الثَّلاثَةِ .
استعمالها في لغة العرب:
قال المتنبي:
أَقلُّ فعالي بَلْهَ أَكثَرَهُ مَجْدُ. . . وذا الجدّ فيه نلت أَو لم أنل جدُّ
وقال ابن هَرْمَةَ:
تمشي القَطوفُ إذا غَنَّى الحُداةُ بها . . . مِشْيَ النَجيبةِ بَلْهَ الجِلَّةِ النَجُبا
وقال أبو زبيد:
حَمّالُ أثقال أهل الوُدِّ آونةً=أعطيهمُ الجُهْدَ منّي بَلْهَ ما أسَعُ
قال كعب بن مالك:
تذر الجماجم ضاحياً هاماتها=بله الأكف، كأنها لم تخلق
أمثلة على استخدامها:
يُقال: فعلتُ كذا بَلْهَ كذا .
ونقولها اليوم في مثل: لقد حمل الرجل الصخور فكيف بالطوب ؟
وعلى المعنى الثاني دع عنك الطوب.
وعلى المعنى الثالث لقد حمل الرجل الصخور زيادة عن أو سوى الطوب .
حكى أبو زيد: إن فلانا لا يطيق أن يحمل الفهر، فمن بله أن يأتي بالصخرة .
أمثلة أخرى من استخدام العلماء لها:
ليس من العدل في شيء بله البر
كيف و هي قد بلغت فارس و الروم بله العرب!
لا دليل على ذلك من السنة بله الكتاب .
لا يمكن أن يقاس على الحديث قياساً صحيحاً بله أولوياً .
لم يدرك عليا بله عمر!
ونقل عن الحديث: أنى له الحسن ، بله الصحة !
فلا وجه لتحسينه ، بله تصحيحه !
وليس له طريق بله طرق أخرى!
فمثله لا يصلح
للاستشهاد ، بله الاحتجاج !
تفرد الثقة بالحديث لا يجعله شاذا ، بله باطلاً
و مثل هذا التخريج و غيره يدل دلالة واضحة على أن الرجل ليس أهلا للتخريج; بله التحقيق .
كلام اللغويين:
ودونكم بعض كلام أهل اللغة:
قال ابن أم قاسم المرادي في "الجنى الداني في حروف المعاني" (1/72): " بله تكون اسم فعل بمعنى دع، فتنصب المفعول، وهي مبنية، نحو: بله زيداً.
وتكون مصدراً بمعنى ترك، النائب عن اترك، فتستعمل مضافة، نحو: بله زيد. وهو مصدر مضاف إلى المفعول، وقال أبو علي: مضاف إلى الفاعل. وروى أبو زيد فيه القلب، إذا كان مصدراً، تقول: بهل زيد. وحكى أبو الحسن الهيثم فتح الهاء واللام، فتقول: بهل زيد.
وأجاز قطرب، وأبو الحسن، أن تكون بمعنى كيف، فتقول: بله زبد؟ بالرفع. ويروى قوله:
تذر الجماجم ضاحياً هاماتها . . . بله الأكف كأنها لم تخلق
بنصب الأكف على أن بله اسم فعل، وبجره على أنها مصدر، وبرفعه على انها بمعنى كيف.وقيل: هي اسم فعل، بمعنى: بقي وأنكر أبو علي الرفع بعدها. وذكر، عن قطرب، أنه رواه.
وعدها الكوفيون والبغداديون من أدوات الاستثناء، وأجازوا النصب بعدها، على الاستثناء، نحو: أكرمت العبيد بله الأحرار. رأوا ما بعدها خارجاً مما قبلها في الوصف، فجعلوه استثناء. إذا المعنى أن إكرامك الأحرار يزيد على إكرامك العبيد.
وذهب جمهور البصريين إلى أنها لا يستثنى بها، وأنه لا يجوز فيما بعدها إلا الخفض. وليس بصحيح، بل النصب مسموع من كلام العرب.
وذهب بعض الكوفيين إلى أن بله بمعنى غير. فمعنى بله الأكف: غير الأكف.
وذهب الأخفش إلى أن بله حرف جر. ولهذا ذكرتها. في هذا الكتاب.
وبله ليست مشتقة. وذهب العبدي إلى أنها مشتقة من البله" اهـ.
جاء في تهذيب اللغة للأزهري (2/337): " قال أبو بكر الأنباريّ: في بَلْهَ ثلاثة أقوال:
قال جماعة من أهل اللغة: بلهَ معناها على، وقال الفراء: مَن خَفضَ بها جَعَلها بمنزلة على وما أشبهها من حروف الخفض، وذكر ما قاله الليث أنها بمعنى أَجَلْ.
وفي حديث النبي صلى الله عليه وسلم: " أَعدَدْتُ لعبادي الصالحين ما لا عينٌ رَأَتْ، ولا أُذُن سَمِعتْ، ولا خطر على قلبِ بشَر، بله ما أطَلْعتُهم عليه " .
وقال أبو عبيد: قال الأحمر وغيرُه: بله معناه كيف ما أطْلعتُه عليه.
وقال الفراء: معناه كيف ودَع ما أَطْلعتهم عليه.
وقال كعب بنُ مالك يصفُ السيوفَ:
تَذَرُ الجماجِمَ ضاحياً هاماتُها . . . بَلْهَ الأكُفِّ كأنها لم تُخلَقِ
قال أبو عبيد: الأكُفّ يُنشَد بالخفض والنّصب: النصب على معنى دَعْ الأكفَّ.وقال أبو زُبيد:
حمَّالُ أَثقالِ أَهْلِ الوُدّ آوِنةً ... أُعْطيهُمُ الجَهدَ مِني بلهَ ما أَسَعُ
أي أعطيهم مالا أَجِد إلا بجَهْدٍ، معناه فَدعْ ما أحِيطُ به وأَقْدِر عليه" اهـ.
قال ابن الأثير في النهاية: " ((بله)) في حديث نعِيم الجنة ((ولا خطَر على قَلْب بَشَر بَلْهَ ما اطَّلَعْتُم عليه)) بَلْهَ من أسماء الأفعال بمعنى دَعْ واتْرك تقول بَلْهَ زيْداً . وقد يُوضَع مَوْضع المصدر وَيُضاف فيقال بَلْهَ زَيْدٍ أي تَرْكَ زَيدٍ . وقوله ما اطَّلَعْتُم عليه : يحتمل أن يكون منصوب المحَلّ ومجروره على التَّقْدِيرَين والمعنى : دَعْ ما اطَّلَعْتم عليه من نَعيم الجنة وعرَفْتُموه من لذَّاتها " اهـ .
ومحور النقاش:
هل نستطيع أن نقول أن من معانيها: ((فضلاً عن)) .
فيصبح معنى البيت الأول: أعطيهم الجهد مني فضلاً عمَّا أسع . . وفي البيت الآخر عن الإبل أنها تمشي إذا غنى الحداة بها مشي النجيبة فضلاً عن الجلة النجباء . .
فلم أجد هذا المعنى منصوصاً عليه في أحد من كتب اللغة التي وقفت عليها إلا في كلام لابن أم قاسم المرادي قال: " أكرمت العبيد بله الأحرار. . . إذا المعنى أن إكرامك الأحرار يزيد على إكرامك العبيد" .
نرجو أن نستفيد من هذا النقاش .
تعليق