السؤال:
دار بيننا نقاشٌ في مسألة غلق المسجد بين مانعٍ ومُجيزٍ، وقد احتجَّ بعض طلبة العلم على جواز غلقه بأنَّ في ذلك مصلحةً في صيانة المسجد من كلِّ الآفات الحسِّية والمعنوية، سواءٌ من جهة كونها عرضةً للسرقات -إن بقيت مفتوحةً-، أو وكرًا للمتسوِّلين، أو محلاًّ لوضع بضائع الباعة المتجوِّلين، أو مكانًا للتجمُّعات المضلَّة وأهلِ الأغراض الدنيئة ونحو ذلك، وقال: إنه -وإن كان ما عليه الأمر الأوَّل بقاءَ المسجد مفتوحًا- إلاَّ أنَّ الأحوال تغيَّرت في عصرنا والزمانَ تبدَّل، واستدلَّ بقاعدة: «لاَ يُنْكَرُ تَغَيُّرُ الأَحْكَامِ بِتَغَيُّرِ الزَّمَانِ».
فالرجاء منكم -فضيلةَ الشيخ- بيانُ حكم المسألة، وهل يصحُّ الاستدلال بالقاعدة السالفة الذكر؟ وجزاكم الله خيرًا.
الجواب:
الحمدُ لله ربِّ العالمين، والصلاة والسلام على من أرسله اللهُ رحمةً للعالمين، وعلى آله وصحبه وإخوانه إلى يوم الدِّين، أمَّا بعد:
فإغلاق المسجد وإيصادُه ومنعُه عن القاصدين له للتعبُّد، وتعطيلُ عمارته الإيمانية المتمثِّلةِ في إقام الصلاة والخلوة بذكر الله وقراءة القرآن، وتعليمِ الناس أمورَ دينهم هو مِن الصدود المؤدِّي إلى تعطيل العبادات المأمورِ بها شرعًا، ويُعَدُّ من الظلم والتخريب، لقوله تعالى: ﴿وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ مَنَعَ مَسَاجِدَ اللهِ أَنْ يُذْكَرَ فِيهَا اسْمُهُ وَسَعَى فِي خَرَابِهَا أُولَئِكَ مَا كَانَ لَهُمْ أَنْ يَدْخُلُوهَا إِلاَّ خَائِفِينَ لَهُمْ فِي الدُّنْيَا خِزْيٌ وَلَهُمْ فِي الآخِرَةِ عَذَابٌ عَظِيم﴾ [البقرة: 114]. ولا ينحصر التخريب فيما كان حسِّيًّا مادِّيًّا بالإتلاف والتضييع، بل يتعدَّى إلى التخريب المعنويِّ -أيضًا-، ولذلك ذمَّ الله تعالى أعمالَ الكفَّار في صدِّهم عن الإسلام وشرائعه وشعائره، قال تعالى: ﴿إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَيَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللهِ وَالْمَسْجِدِ الْحَرَامِ الَّذِي جَعَلْنَاهُ لِلنَّاسِ سَوَاءً الْعَاكِفُ فِيهِ وَالْبَادِ وَمَنْ يُرِدْ فِيهِ بِإِلْحَادٍ بِظُلْمٍ نُذِقْهُ مِنْ عَذَابٍ أَلِيم﴾ [الحج: 25]، لذلك لا ينبغي قطعُ العبادة فيه أو توقيفُها ومنعُ القاصدين للتحنُّث فيه ليلاً أو نهارًا لقوله تعالى: ﴿فِي بُيُوتٍ أَذِنَ اللهُ أَنْ تُرْفَعَ وَيُذْكَرَ فِيهَا اسْمُهُ يُسَبِّحُ لَهُ فِيهَا بِالْغُدُوِّ وَالآصَالِ﴾ [النور: 36]، إذ إغلاق المسجد أشبهُ بالنهي عن الصلاة لقوله تعالى: ﴿أَرَأَيْتَ الَّذِي يَنْهَى. عَبْدًا إِذَا صَلَّى﴾ [العلق: 9-10].
ويدخل في معنى الظلم والتخريب -أيضًا- إلغاءُ العمارة الإيمانية للمسجد بتصييره متحفًا تاريخيًّا أو معلمًا أثريًّا ومحلَّ ورود الزوَّار وتردُّدهم عليه.
ويُستثنى من ذلك ما لو كان المسجد قديمًا مهدَّدًا بالسقوط على المصلِّين، فلا مانع من إغلاقه مؤقَّتًا -بحسب حال المسجد- لمكان وجوب حفظ النفس إلى أن ييسِّر الله إصلاحَه وترميمه وتمتينَ بنائه وتقويةَ جدرانه.
هذا، وأمَّا إغلاق المسجد في غير وقت الصلاة لأمرٍ طارئٍ أو غرضٍ صحيحٍ أو لحاجةٍ مؤقَّتةٍ لا تمنع من المقصود مِن بنائه وعمارته: كصيانة محالِّ المسجد من الامتهان بمنع دخول غير المتأهِّلين كالمشرك والكافر والكلاب، والحفاظ على أجهزته من الضياع بالنهب والسرقة ونحوهما، فإنَّ هذه المقاصد -مهما كانت محقِّقةً لمصلحة المسجد- إن أمكن دفعُ الضرر والمفسدة عنه بإقامة من يحرس بيوتَ الله تعالى -ولو بالأجهزة الحديثة- ويصونها من الآفات ويحفظ حرمتها وآلاتِها، فلا يُقبل تسويغُ غلقِها بعد تيسير إحقاق حفظها وصيانتها بالحراسة والمراقبة، وتبقى على الأصل الذي كان عليه الأمرُ الأوَّل على وفق السنَّة مفتوحةً.
أمَّا إذا تعذَّر ذلك -كما هو الشأن في ترميم بيوت الله- فقد يُغْلَق لفتراتٍ مؤقَّتةٍ في غير وقت الصلاة لغرض الإصلاح والترميم، فلا حرج في ذلك، وهذا الحكم مبنيٌّ على علَّةٍ قابلةٍ للتغيير وهي المصلحة، وقد اتَّفقت كلمة الفقهاء والأصوليين على أنَّ الأحكام القابلةَ للتبديل بتبدُّل الزمان والأعرافِ إنما هي الأحكام الاجتهادية المبنيَّة على العرف والمصلحة، وضمن هذا المنظور الاجتهاديِّ نقل النوويُّ -رحمه الله- عن بعض الشافعية -في مسألة غلق المساجد- قولَه: «لا بأس بإغلاق المسجد في غير وقت الصلاة لصيانته أو لحفظِ آلاته، هكذا قالوه، وهذا إذا خِيف امتهانُها وضياعُ ما فيها ولم تَدْعُ إلى فتحها حاجةٌ، فأمَّا إذا لم يُخَفْ مِن فتحها مفسدةٌ ولا انتهاكُ حرمتها، وكان في فتحها رفقٌ بالناس فالسنَّة فتحُها كما لم يُغْلَقْ مسجدُ رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم في زمنه ولا بعده»(1).
وأمَّا الاستدلال بقاعدة: «لاَ يُنْكَرُ تَغَيُّرُ الأَحْكَامِ بِتَغَيُّرِ الزَّمَانِ» فجوابه من جهتين:
الأولى: أنَّ القاعدة الفقهية لا تصلح أن تكون حجَّةً إلا إذا كانت دليلاً مستقلاًّ وثابتًا، أو عبَّرتْ عن دليلٍ أصوليٍّ، أو كانت مشتركةً مع القاعدة الأصولية، والقاعدة الفقهية المجرَّدة عن ذلك تصلح أن تكون شاهدًا مرافقًا للأدلَّة يُستأنس به في تخريج الأحكام للوقائع والقضايا الجديدة إلحاقًا قياسيًّا على المسائل الفقهية المدوَّنة.
الثانية: والقاعدة المذكورة -وإن كانت لها علاقةٌ بالعلَّة القابلة للتغيُّر كالعرف والمصلحة- إلاَّ أنَّ صيغها مجملةٌ لشمولها للأحكام المنصوص عليها والمعلَّلة، ومثل هذا العموم غيرُ مقصودٍ في وضع صياغتها، لذلك احتاجت القاعدة إلى بيانٍ وتفصيلٍ، يظهر وجهه فيما يلي:
- الأحكام إمَّا أن تكون تعبُّديةً غير معقولة المعنى: فإنها لا تقبل التغييرَ أبدًا لكونها مبنيَّةً على النصوص الشرعية الثابتة التي لا تقبل التبدُّلَ ولا التغيُّر.
- وإمَّا أن تكون معلَّلةً وهي الأحكام معقولة المعنى وهي على ضربين:
- إمَّا أن تكون علَّتها ثابتةً لا تتغيَّر: فهذه حكمُها حكمُ النصِّ الثابت، لا يدخلها تغيُّرٌ ولا تقبل التبدُّل: كتحريم الخمر لعلَّة الإسكار، ووجوبِ القطع لعلَّة السرقة، ووجوبِ اعتزال النساء لعلَّة الحيض، وتحريمِ القمار لعلَّة الغرر ونحو ذلك، فيطَّرد في شأنها الحكمُ وينعكس، أي: يدور الحكمُ مع علَّته وجودًا وعدمًا.
- وإمَّا أن تكون علَّتها غيرَ ثابتةٍ وهي الأحكام الاجتهادية المبنيَّة على علَّةٍ قابلةٍ للتغيُّر كالعرف والمصلحة: فهذه تتبدَّل بتبدُّل الزمان والأعراف اتِّفاقًا -كما تقدَّم- لذلك كان لزامًا تقييد القاعدة المذكورة بإضافة كلمةٍ توضيحيةٍ تفاديًا للإجمال، وتكونُ الصيغة المعدَّلة على الوجه التالي: «لاَ يُنْكَرُ تَغَيُّرُ الأَحْكَامِ الاِجْتِهَادِيَّةِ المَبْنِيَّةِ عَلَى العُرْفِ وَالمَصْلَحَةِ بِتَغَيُّرِ الزَّمَانِ».
- وإمَّا أن تكون معلَّلةً وهي الأحكام معقولة المعنى وهي على ضربين:
- إمَّا أن تكون علَّتها ثابتةً لا تتغيَّر: فهذه حكمُها حكمُ النصِّ الثابت، لا يدخلها تغيُّرٌ ولا تقبل التبدُّل: كتحريم الخمر لعلَّة الإسكار، ووجوبِ القطع لعلَّة السرقة، ووجوبِ اعتزال النساء لعلَّة الحيض، وتحريمِ القمار لعلَّة الغرر ونحو ذلك، فيطَّرد في شأنها الحكمُ وينعكس، أي: يدور الحكمُ مع علَّته وجودًا وعدمًا.
- وإمَّا أن تكون علَّتها غيرَ ثابتةٍ وهي الأحكام الاجتهادية المبنيَّة على علَّةٍ قابلةٍ للتغيُّر كالعرف والمصلحة: فهذه تتبدَّل بتبدُّل الزمان والأعراف اتِّفاقًا -كما تقدَّم- لذلك كان لزامًا تقييد القاعدة المذكورة بإضافة كلمةٍ توضيحيةٍ تفاديًا للإجمال، وتكونُ الصيغة المعدَّلة على الوجه التالي: «لاَ يُنْكَرُ تَغَيُّرُ الأَحْكَامِ الاِجْتِهَادِيَّةِ المَبْنِيَّةِ عَلَى العُرْفِ وَالمَصْلَحَةِ بِتَغَيُّرِ الزَّمَانِ».
ولا يخفى أنَّ في مسألتنا هذه ما يندرج في القسم الذي لا يقبل التبدُّلَ ولا التغيُّر، وقسمٌ آخَرُ مبنيٌّ على المصلحة والتي من ضوابطها عودُها على مقاصد التشريع بالحفظ والصيانة، وعدمُ اصطدامها بنصوص التشريع والإجماع، وعدمُ استلزام العمل بها مفسدةً أرجح منها أو مساويةً لها، وعدمُ تعارُضها مع مصلحةٍ أرجحَ منها أو مساويةٍ لها، فإنَّ الأحكام المبنيَّة عليها مشمولةٌ بالقاعدة السالفة البيان دون غيرها.
والعلم عند الله تعالى، وآخر دعوانا أن الحمد لله ربِّ العالمين وصلَّى الله على محمَّدٍ وعلى آله وصحبه وإخوانه إلى يوم الدين وسلَّم تسليمًا.
الجزائـر: 25 جمادى الثانية 1434ه
الموافق ل: 05 مــاي 2013م
الموافق ل: 05 مــاي 2013م
(1) «المجموع» للنووي (2/ 17.