((( الإسلام على مفترق طرق )))
للفضيلة الشيخ الدكتور محمد عمر بازمول حفظه الله
>المقال الأول<
للفضيلة الشيخ الدكتور محمد عمر بازمول حفظه الله
>المقال الأول<
يرى المسلم في هذا العصر اختلافاً كثيراً حيثما وجّه وجهه، سواء في باب مسائل الفقه من عبادات ومعاملات، أم في مناهج الدعوة، أم في غير ذلك!
ويقف بعض المسلمين أمام هذا الاختلاف الكثير حائرين مترددين، إذ أن على كل مفرق دعاة يزينونه ويستدلون له، ويلبسون ما لديهم من الباطل بشيء من الحق، فلا يكاد يبين!
وقد بين الرسول صلوات ربي وسلامه عليه السبيل وأوضح المحجة، فما تركنا إلا على مثل البيضاء ليلها كنهارها لا يزيغ عنها إلا هالك! فأوضح الصراط المستقيم؛ {وَأَنَّ هَـذَا صِرَاطِي مُسْتَقِيماً فَاتَّبِعُوهُ وَلاَ تَتَّبِعُواْ السُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَن سَبِيلِهِ ذَلِكُمْ وَصَّاكُم بِهِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ} [الأنعام:153].
وقال صلى الله عليه وسلم: "من يعش منكم فسيرى اختلافاً كثيراً، فعليكم بسنتي وسنة الخلفاء الراشدين المهديين من بعدي عضوا عليها بالنواجذ" حديث صحيح لغيره، أخرجه أحمد والدارمي والترمذي وابن ماجه.
وقال عبد الله بن مسعود: "خط رسول الله صلى الله عليه وسلم خطاً، وخط خطوطاً عن يمينه وشماله، ثم قال: "هذا سبيل الله، وهذه سبل، على كل سبيل منها شيطان يدعو إليه"، ثم قرأ: {وَأَنَّ هَـذَا صِرَاطِي مُسْتَقِيماً فَاتَّبِعُوهُ وَلاَ تَتَّبِعُواْ السُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَن سَبِيلِهِ}" حديث صحيح لغيره، أخرج أحمد والدارمي وصححه ابن حبان والحاكم.
قال ابن تيمية رحمه الله في نقض المنطق (ص 49): "وإذا تأمل العاقل الذي يرجو لقاء الله هذا المثال، وتأمل سائر الطوائف من الخوارج، ثم المعتزلة، ثم الجهمية والرافضة، ومن أقرب منهم إلى السنة، من أهل الكلام، مثل الكرامية والكلابية والأشعرية وغيرهم، وأن كلا منهم له سبيل يخرج به عما عليه الصحابة وأهل الحديث، ويدعي أن سبيله هو الصواب؛ وجدت أنهم المراد بهذا المثال الذي ضربه المعصوم، الذي لا يتكلم عن الهوى، إن هو إلا وحي يوحى.
والعجب أن من هؤلاء من يصرح بأن عقله إذا عارضه الحديث ـ لاسيما في أخبار الصفات ـ حمل الحديث على عقله، وصرح بتقديمه على الحديث، وجعل عقله ميزاناً للحديث، فليت شعري: هل عقله هذا كان مصرَّحاً بتقديمه في الشريعة المحمدية، فيكون السبيل المأمور باتباعه؟ أم هو عقل مبتدع جاهل ضال حائر خارج عن السبيل؟ فلا حول ولا قوة إلا بالله" اهـ
أخرج ابن ماجه: عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "إِنَّ بَنِي إِسْرَائِيلَ افْتَرَقَتْ عَلَى إِحْدَى وَسَبْعِينَ فِرْقَةً وَإِنَّ أُمَّتِي سَتَفْتَرِقُ عَلَى ثِنْتَيْنِ وَسَبْعِينَ فِرْقَةً كُلُّهَا فِي النَّارِ إِلَّا وَاحِدَةً وَهِيَ الْجَمَاعَةُ".
وأخرج الترمذي: عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرٍو قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "لَيَأْتِيَنَّ عَلَى أُمَّتِي مَا أَتَى عَلَى بَنِي إِسْرَائِيلَ حَذْوَ النَّعْلِ بِالنَّعْلِ ... وَإِنَّ بَنِي إِسْرَائِيلَ تَفَرَّقَتْ عَلَى ثِنْتَيْنِ وَسَبْعِينَ مِلَّةً وَتَفْتَرِقُ أُمَّتِي عَلَى ثَلَاثٍ وَسَبْعِينَ مِلَّةً كُلُّهُمْ فِي النَّارِ إِلَّا مِلَّةً وَاحِدَةً" قَالُوا: وَمَنْ هِيَ يَا رَسُولَ اللَّهِ؟ قَالَ: "مَا أَنَا عَلَيْهِ وَأَصْحَابِي".
وعَنْ مُعَاوِيَةَ بْنِ أَبِي سُفْيَانَ أَنَّهُ قَامَ فِينَا فَقَالَ أَلَا إِنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَامَ فِينَا فَقَالَ: "أَلَا إِنَّ مَنْ قَبْلَكُمْ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ افْتَرَقُوا عَلَى ثِنْتَيْنِ وَسَبْعِينَ مِلَّةً وَإِنَّ هَذِهِ الْمِلَّةَ سَتَفْتَرِقُ عَلَى ثَلَاثٍ وَسَبْعِينَ ثِنْتَانِ وَسَبْعُونَ فِي النَّارِ وَوَاحِدَةٌ فِي الْجَنَّةِ وَهِيَ الْجَمَاعَة" أخرجه أحمد والدارمي وأبوداود.
فالأصل الذي يميز الصراط المستقيم عن غيره من السبل أنه يقوم على الكتاب والسنة على ضوء فهم السلف الصالح، هذا سبيل المؤمنين الذي يلزم اتباعه، طاعة لأمر الله حيث قال الله تبارك وتعالى: {وَمَن يُشَاقِقِ الرَّسُولَ مِن بَعْدِ مَا تَبَيّنَ لَهُ الْهُدَى وَيَتّبِعْ غَيْرَ سَبِيلِ الْمُؤْمِنِينَ نُوَلّهِ مَا تَوَلّى وَنُصْلِهِ جَهَنّمَ وَسَآءَتْ مَصِيراً} [النساء:115].
وطاعة للرسول صلى الله عليه وسلم، حيث قال: "عليكم بسنتي وسنة الخلفاء الراشدين المهديين من بعدي عضوا عليها بالنواجذ".
وطلباً لسبيل النجاة والفكاك من التوعد بالنار حيث قال صلى الله عليه وسلم محذراً من مخالفته لما ذكر الفِرَق والافتراق : "كلها في النار إلا واحدة". قيل من هي؟ قال: "ما أنا عليه وأصحابي".
وهذا السبيل لا يستطيعه أهل البدع والأهواء، فإنهم يشتركون مع أهل السنة في انتحال الكتاب والسنة، ولكنهم ينقلبون على ظهورهم إذا جاء القيد الذي هو عصمة الفهم، وهو أن يتقيد الفهم للكتاب والسنة بفهم السلف الصالح!
وهذه المقالات موضوعها بيان السبيل الذي على المسلم أن يسلكه أمام هذه المفارق التي قد يقف أمامها حائراً متردداً!
وسأورد بعض الاتجاهات على سبيل التمثيل والتوضيح!
ويقف بعض المسلمين أمام هذا الاختلاف الكثير حائرين مترددين، إذ أن على كل مفرق دعاة يزينونه ويستدلون له، ويلبسون ما لديهم من الباطل بشيء من الحق، فلا يكاد يبين!
وقد بين الرسول صلوات ربي وسلامه عليه السبيل وأوضح المحجة، فما تركنا إلا على مثل البيضاء ليلها كنهارها لا يزيغ عنها إلا هالك! فأوضح الصراط المستقيم؛ {وَأَنَّ هَـذَا صِرَاطِي مُسْتَقِيماً فَاتَّبِعُوهُ وَلاَ تَتَّبِعُواْ السُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَن سَبِيلِهِ ذَلِكُمْ وَصَّاكُم بِهِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ} [الأنعام:153].
وقال صلى الله عليه وسلم: "من يعش منكم فسيرى اختلافاً كثيراً، فعليكم بسنتي وسنة الخلفاء الراشدين المهديين من بعدي عضوا عليها بالنواجذ" حديث صحيح لغيره، أخرجه أحمد والدارمي والترمذي وابن ماجه.
وقال عبد الله بن مسعود: "خط رسول الله صلى الله عليه وسلم خطاً، وخط خطوطاً عن يمينه وشماله، ثم قال: "هذا سبيل الله، وهذه سبل، على كل سبيل منها شيطان يدعو إليه"، ثم قرأ: {وَأَنَّ هَـذَا صِرَاطِي مُسْتَقِيماً فَاتَّبِعُوهُ وَلاَ تَتَّبِعُواْ السُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَن سَبِيلِهِ}" حديث صحيح لغيره، أخرج أحمد والدارمي وصححه ابن حبان والحاكم.
قال ابن تيمية رحمه الله في نقض المنطق (ص 49): "وإذا تأمل العاقل الذي يرجو لقاء الله هذا المثال، وتأمل سائر الطوائف من الخوارج، ثم المعتزلة، ثم الجهمية والرافضة، ومن أقرب منهم إلى السنة، من أهل الكلام، مثل الكرامية والكلابية والأشعرية وغيرهم، وأن كلا منهم له سبيل يخرج به عما عليه الصحابة وأهل الحديث، ويدعي أن سبيله هو الصواب؛ وجدت أنهم المراد بهذا المثال الذي ضربه المعصوم، الذي لا يتكلم عن الهوى، إن هو إلا وحي يوحى.
والعجب أن من هؤلاء من يصرح بأن عقله إذا عارضه الحديث ـ لاسيما في أخبار الصفات ـ حمل الحديث على عقله، وصرح بتقديمه على الحديث، وجعل عقله ميزاناً للحديث، فليت شعري: هل عقله هذا كان مصرَّحاً بتقديمه في الشريعة المحمدية، فيكون السبيل المأمور باتباعه؟ أم هو عقل مبتدع جاهل ضال حائر خارج عن السبيل؟ فلا حول ولا قوة إلا بالله" اهـ
أخرج ابن ماجه: عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "إِنَّ بَنِي إِسْرَائِيلَ افْتَرَقَتْ عَلَى إِحْدَى وَسَبْعِينَ فِرْقَةً وَإِنَّ أُمَّتِي سَتَفْتَرِقُ عَلَى ثِنْتَيْنِ وَسَبْعِينَ فِرْقَةً كُلُّهَا فِي النَّارِ إِلَّا وَاحِدَةً وَهِيَ الْجَمَاعَةُ".
وأخرج الترمذي: عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرٍو قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "لَيَأْتِيَنَّ عَلَى أُمَّتِي مَا أَتَى عَلَى بَنِي إِسْرَائِيلَ حَذْوَ النَّعْلِ بِالنَّعْلِ ... وَإِنَّ بَنِي إِسْرَائِيلَ تَفَرَّقَتْ عَلَى ثِنْتَيْنِ وَسَبْعِينَ مِلَّةً وَتَفْتَرِقُ أُمَّتِي عَلَى ثَلَاثٍ وَسَبْعِينَ مِلَّةً كُلُّهُمْ فِي النَّارِ إِلَّا مِلَّةً وَاحِدَةً" قَالُوا: وَمَنْ هِيَ يَا رَسُولَ اللَّهِ؟ قَالَ: "مَا أَنَا عَلَيْهِ وَأَصْحَابِي".
وعَنْ مُعَاوِيَةَ بْنِ أَبِي سُفْيَانَ أَنَّهُ قَامَ فِينَا فَقَالَ أَلَا إِنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَامَ فِينَا فَقَالَ: "أَلَا إِنَّ مَنْ قَبْلَكُمْ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ افْتَرَقُوا عَلَى ثِنْتَيْنِ وَسَبْعِينَ مِلَّةً وَإِنَّ هَذِهِ الْمِلَّةَ سَتَفْتَرِقُ عَلَى ثَلَاثٍ وَسَبْعِينَ ثِنْتَانِ وَسَبْعُونَ فِي النَّارِ وَوَاحِدَةٌ فِي الْجَنَّةِ وَهِيَ الْجَمَاعَة" أخرجه أحمد والدارمي وأبوداود.
فالأصل الذي يميز الصراط المستقيم عن غيره من السبل أنه يقوم على الكتاب والسنة على ضوء فهم السلف الصالح، هذا سبيل المؤمنين الذي يلزم اتباعه، طاعة لأمر الله حيث قال الله تبارك وتعالى: {وَمَن يُشَاقِقِ الرَّسُولَ مِن بَعْدِ مَا تَبَيّنَ لَهُ الْهُدَى وَيَتّبِعْ غَيْرَ سَبِيلِ الْمُؤْمِنِينَ نُوَلّهِ مَا تَوَلّى وَنُصْلِهِ جَهَنّمَ وَسَآءَتْ مَصِيراً} [النساء:115].
وطاعة للرسول صلى الله عليه وسلم، حيث قال: "عليكم بسنتي وسنة الخلفاء الراشدين المهديين من بعدي عضوا عليها بالنواجذ".
وطلباً لسبيل النجاة والفكاك من التوعد بالنار حيث قال صلى الله عليه وسلم محذراً من مخالفته لما ذكر الفِرَق والافتراق : "كلها في النار إلا واحدة". قيل من هي؟ قال: "ما أنا عليه وأصحابي".
وهذا السبيل لا يستطيعه أهل البدع والأهواء، فإنهم يشتركون مع أهل السنة في انتحال الكتاب والسنة، ولكنهم ينقلبون على ظهورهم إذا جاء القيد الذي هو عصمة الفهم، وهو أن يتقيد الفهم للكتاب والسنة بفهم السلف الصالح!
وهذه المقالات موضوعها بيان السبيل الذي على المسلم أن يسلكه أمام هذه المفارق التي قد يقف أمامها حائراً متردداً!
وسأورد بعض الاتجاهات على سبيل التمثيل والتوضيح!
* * *
> المقال الثاني <
تكلمت في المقال السابق عن الحيرة التي قد تعتري المسلم أمام السبل المختلفة في شتى نواحي الحياة، مصداقاً لقوله صلى الله عليه وسلم: "ومن يعش منكم فسيرى اختلافاً كثيراً فعليكم بسنتي وسنة الخلفاء الراشدين المهديين من بعدي عضوا عليها بالنواجذ، وإياكم ومحدثات الأمور".
وبينت أن سلوك الصراط المستقيم، الذي هو ما كان عليه الرسول صلى الله عليه وسلم وأصحابه هو سبيل النجاة والفكاك من النيران، والبعد عن سبل الشيطان.
وفي هذا المقال سأذكر جملة من السبل التي قد يقف المسلم أمامها حائراً يريد تمييز الصراط المستقيم فيها ليسلكه!
وقد تبين لي بعد التأمل والنظر أن لكل مجموعه من السبل والمفارق اتجاه عام يشملها، فهناك الاتجاه الدعوي، ويشمل جملة من السبل، وهناك الاتجاه الفقهي، ويشمل جملة من السبل، وهناك الاتجاه الأخلاقي ويشمل جملة من السبل، وقس على هذا...!
فمن مفارق الطرق التي يقف أمامها المسلم:
1- الاتجاه الفقهي، ويشتمل على عدة سبل؛
فإمّا أن يسلك المسلم سبيل المقلدة! فيقلد في دينه مطلقاً سواء كان عامياً أم لا، وسواء تبين له الدليل أم لا! بل قد يصل في هذا السبيل إلى منع النظر وغلق باب الاجتهاد، وأن التقليد هو الواجب!
وإمّا أن يسلك سبيل الاجتهاد، دون تفرقة بين العوام وطلاب العلم، فالكل عليه النظر والاجتهاد، ويعمل بعقله، وقد يصل الأمر إلى نوع من الفوضى الفقهية في الترجيح والنظر، فيصير كل شخص يجتهد وله رأي، ولديه في كل مسألة تعرض أمامه راجح ومرجوح!
وإمّا أن يسلك السبيل الذي قرره أهل العلم، الذين تبعوا سبيل المؤمنين، ولزموا ما كان عليه الرسول صلى الله عليه وسلم وأصحابه؛ فقالوا:
المسلم إمّا أن يكون عالماً بالحكم من الكتاب والسنة على ضوء فهم السلف الصالح، وإمّا أن يكون غير عالم، ووظيفة من لا يعلم سؤال من يعلم، دون أن يقيد سؤاله في طلب الحكم بعالم معين، فيسأل من يثق في دينه وعلمه وتقواه وورعه امتثالاً لأمر الله عزوجل: {وَمَآ أَرْسَلْنَا مِن قَبْلِكَ إِلاّ رِجَالاً نّوحِيَ إِلَيْهِمْ فَاسْأَلُواْ أَهْلَ الذّكْرِ إِن كُنْتُم لاَ تَعْلَمُونَ * بِالْبَيّنَاتِ وَالزّبُرِ وَأَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الذِّكْرَ لِتُبَيِّنَ لِلنِّاسِ مَا نُزّلَ إِلَيْهِمْ وَلَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ} [النحل:43].
وأمّا العالم بأحكام الكتاب والسنة فوظيفته النظر فيهما وطلب حكم الله منهما على ضوء فهم السلف الصالح رضوان الله عليهم! فإن لم يعلم الحكم في مسألة ما، نزّل نفسه منزلة العوام الذين لا يعلمون، فيقلد عندها من يثق فيه من أهل العلم!
وعلى العامي إذا ما أجابه المفتي ـ الذي يثق في علمه وتقواه وورعه ـ على سؤاله أن يتعبد الله به، و لا يتنقل من سؤال عالم إلى عالم آخر بحثاً عن ما يوافق هواه؛ فإن هذا من اتباع الهوى والتشهي!
ونبّه أهل العلم إلى أنه ليس للعامي أن ينزل فتوى العالم لغيره على نفسه، بل لابد أن يرجع إلى العالم ويسأله عن نازلته، فإن فتوى العالم تكون بحسب الاستفتاء فقد يكون في نازلة غيره ما ليس في نازلته، وهو لا يفهم ذلك!
و لا يقال: إن على كل أحد النظر والاجتهاد في كل مسألة؛ فهذا لا يطيقه أحد، وهو تكليف بما لا يطاق، فمن أين للعامي هذا الأمر وآلته؟! بل العالم قد يعتريه في بعض الأوقات أو بعض النوازل ما يقف أمامه ـ مع ما لديه من علم الآلة ـ لا يحير فيه جواباً إلا قول لا أدري!
2- الاتجاه الحضاري، وله سبل؛
فمنهم من يرى أن الحضارة والتقدم هي أن نأخذ ما عند الغرب كما هو، وأن التفسير الديني للنصوص في كل عصر بحسبه، فللقرآن تفسير في زماننا غير تفسيره أيام الصحابة وكذا أحاديث الرسول صلى الله عليه وسلم!
ومنهم من يرى أن الحضارة بدعة، فينبذ كل ما جاءت به، فلا يركب السيارات، ولا يستفيد من التكنولوجيا الحديثة بشيء، فهو إلى اليوم يركب الخيل والبغال وسيلة مواصلات، ولا يستعمل التلفون، ولا ... .
والصراط المستقيم أن يقبل من الحضارة الغربية ما وافق الدين أو لم يخالفه، أمّا ما يخالف الدين فلا اعتبار له، فلا نأخذ من حضارة الغرب ما يتنافى مع الإسلام، أو ما هو من خصائصهم في حياتهم، إذ الرسول صلى الله عليه وسلم حذرنا من التشبه بالكفار، عَنِ ابْنِ عُمَرَ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "بُعِثْتُ بِالسَّيْفِ حَتَّى يُعْبَدَ اللَّهُ لَا شَرِيكَ لَهُ وَجُعِلَ رِزْقِي تَحْتَ ظِلِّ رُمْحِي وَجُعِلَ الذِّلَّةُ وَالصَّغَارُ عَلَى مَنْ خَالَفَ أَمْرِي وَمَنْ تَشَبَّهَ بِقَوْمٍ فَهُوَ مِنْهُمْ" أخرجه أحمد وأبوداود، واللفظ لأحمد، وهو حديث حسن!
وقد جاء عَنْ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا أَنَّهَا قَالَتْ: "مَا خُيِّرَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بَيْنَ أَمْرَيْنِ إِلَّا أَخَذَ أَيْسَرَهُمَا مَا لَمْ يَكُنْ إِثْمًا فَإِنْ كَانَ إِثْمًا كَانَ أَبْعَدَ النَّاسِ مِنْهُ وَمَا انْتَقَمَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِنَفْسِهِ إِلَّا أَنْ تُنْتَهَكَ حُرْمَةُ اللَّهِ فَيَنْتَقِمَ لِلَّهِ بِهَا" أخرجه الشيخان واللفظ للبخاري.
وبينت أن سلوك الصراط المستقيم، الذي هو ما كان عليه الرسول صلى الله عليه وسلم وأصحابه هو سبيل النجاة والفكاك من النيران، والبعد عن سبل الشيطان.
وفي هذا المقال سأذكر جملة من السبل التي قد يقف المسلم أمامها حائراً يريد تمييز الصراط المستقيم فيها ليسلكه!
وقد تبين لي بعد التأمل والنظر أن لكل مجموعه من السبل والمفارق اتجاه عام يشملها، فهناك الاتجاه الدعوي، ويشمل جملة من السبل، وهناك الاتجاه الفقهي، ويشمل جملة من السبل، وهناك الاتجاه الأخلاقي ويشمل جملة من السبل، وقس على هذا...!
فمن مفارق الطرق التي يقف أمامها المسلم:
1- الاتجاه الفقهي، ويشتمل على عدة سبل؛
فإمّا أن يسلك المسلم سبيل المقلدة! فيقلد في دينه مطلقاً سواء كان عامياً أم لا، وسواء تبين له الدليل أم لا! بل قد يصل في هذا السبيل إلى منع النظر وغلق باب الاجتهاد، وأن التقليد هو الواجب!
وإمّا أن يسلك سبيل الاجتهاد، دون تفرقة بين العوام وطلاب العلم، فالكل عليه النظر والاجتهاد، ويعمل بعقله، وقد يصل الأمر إلى نوع من الفوضى الفقهية في الترجيح والنظر، فيصير كل شخص يجتهد وله رأي، ولديه في كل مسألة تعرض أمامه راجح ومرجوح!
وإمّا أن يسلك السبيل الذي قرره أهل العلم، الذين تبعوا سبيل المؤمنين، ولزموا ما كان عليه الرسول صلى الله عليه وسلم وأصحابه؛ فقالوا:
المسلم إمّا أن يكون عالماً بالحكم من الكتاب والسنة على ضوء فهم السلف الصالح، وإمّا أن يكون غير عالم، ووظيفة من لا يعلم سؤال من يعلم، دون أن يقيد سؤاله في طلب الحكم بعالم معين، فيسأل من يثق في دينه وعلمه وتقواه وورعه امتثالاً لأمر الله عزوجل: {وَمَآ أَرْسَلْنَا مِن قَبْلِكَ إِلاّ رِجَالاً نّوحِيَ إِلَيْهِمْ فَاسْأَلُواْ أَهْلَ الذّكْرِ إِن كُنْتُم لاَ تَعْلَمُونَ * بِالْبَيّنَاتِ وَالزّبُرِ وَأَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الذِّكْرَ لِتُبَيِّنَ لِلنِّاسِ مَا نُزّلَ إِلَيْهِمْ وَلَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ} [النحل:43].
وأمّا العالم بأحكام الكتاب والسنة فوظيفته النظر فيهما وطلب حكم الله منهما على ضوء فهم السلف الصالح رضوان الله عليهم! فإن لم يعلم الحكم في مسألة ما، نزّل نفسه منزلة العوام الذين لا يعلمون، فيقلد عندها من يثق فيه من أهل العلم!
وعلى العامي إذا ما أجابه المفتي ـ الذي يثق في علمه وتقواه وورعه ـ على سؤاله أن يتعبد الله به، و لا يتنقل من سؤال عالم إلى عالم آخر بحثاً عن ما يوافق هواه؛ فإن هذا من اتباع الهوى والتشهي!
ونبّه أهل العلم إلى أنه ليس للعامي أن ينزل فتوى العالم لغيره على نفسه، بل لابد أن يرجع إلى العالم ويسأله عن نازلته، فإن فتوى العالم تكون بحسب الاستفتاء فقد يكون في نازلة غيره ما ليس في نازلته، وهو لا يفهم ذلك!
و لا يقال: إن على كل أحد النظر والاجتهاد في كل مسألة؛ فهذا لا يطيقه أحد، وهو تكليف بما لا يطاق، فمن أين للعامي هذا الأمر وآلته؟! بل العالم قد يعتريه في بعض الأوقات أو بعض النوازل ما يقف أمامه ـ مع ما لديه من علم الآلة ـ لا يحير فيه جواباً إلا قول لا أدري!
2- الاتجاه الحضاري، وله سبل؛
فمنهم من يرى أن الحضارة والتقدم هي أن نأخذ ما عند الغرب كما هو، وأن التفسير الديني للنصوص في كل عصر بحسبه، فللقرآن تفسير في زماننا غير تفسيره أيام الصحابة وكذا أحاديث الرسول صلى الله عليه وسلم!
ومنهم من يرى أن الحضارة بدعة، فينبذ كل ما جاءت به، فلا يركب السيارات، ولا يستفيد من التكنولوجيا الحديثة بشيء، فهو إلى اليوم يركب الخيل والبغال وسيلة مواصلات، ولا يستعمل التلفون، ولا ... .
والصراط المستقيم أن يقبل من الحضارة الغربية ما وافق الدين أو لم يخالفه، أمّا ما يخالف الدين فلا اعتبار له، فلا نأخذ من حضارة الغرب ما يتنافى مع الإسلام، أو ما هو من خصائصهم في حياتهم، إذ الرسول صلى الله عليه وسلم حذرنا من التشبه بالكفار، عَنِ ابْنِ عُمَرَ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "بُعِثْتُ بِالسَّيْفِ حَتَّى يُعْبَدَ اللَّهُ لَا شَرِيكَ لَهُ وَجُعِلَ رِزْقِي تَحْتَ ظِلِّ رُمْحِي وَجُعِلَ الذِّلَّةُ وَالصَّغَارُ عَلَى مَنْ خَالَفَ أَمْرِي وَمَنْ تَشَبَّهَ بِقَوْمٍ فَهُوَ مِنْهُمْ" أخرجه أحمد وأبوداود، واللفظ لأحمد، وهو حديث حسن!
وقد جاء عَنْ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا أَنَّهَا قَالَتْ: "مَا خُيِّرَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بَيْنَ أَمْرَيْنِ إِلَّا أَخَذَ أَيْسَرَهُمَا مَا لَمْ يَكُنْ إِثْمًا فَإِنْ كَانَ إِثْمًا كَانَ أَبْعَدَ النَّاسِ مِنْهُ وَمَا انْتَقَمَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِنَفْسِهِ إِلَّا أَنْ تُنْتَهَكَ حُرْمَةُ اللَّهِ فَيَنْتَقِمَ لِلَّهِ بِهَا" أخرجه الشيخان واللفظ للبخاري.
* * *
>المقال الثالث<
تكلمت في المقال السابق عن بعض السبل التي قد يقف أمامها المسلم حائراً، وبينت ما هو الصراط المستقيم فيها الذي كان عليه الرسول صلى الله عليه وسلم وأصحابه، وفي هذا المقال أواصل ذكر اتجاهات أخرى، فأقول مستيعناً بالله:
3- الاتجاه الدعوي، ويشتمل على عدة سبل؛
فهناك من لا يري سبيلاً للدعوة إلا عن طريق الجماعات، فذهب يقول بالأحزاب، ويعقد عليها الولاء والبراء، وفي تصوره أن العمل الإسلامي لابد أن يكون عن طريق جماعة، وصار يبرر للجماعات ويستدل على مشروعيتها!
وهناك من لا يرى العمل الجماعي مطلقاً ويرى أن الدعوة فردية وفردية فقط؛ ويرد الأعمال الجماعية مطلقاً!
والصراط المستقيم أن الجماعة ليست شرطاً في العمل الدعوي، وأن العمل الإسلامي يقوم به الأفراد ويقوم به الجماعات طالما أنه سالم عن الانتماءات الحزبية التي يحصل عليها الولاء والبراء، وطالما أنه بعيد عن التفرق والتشرذم، بل تعاون على البر والتقوى، قال الله تبارك وتعالى: {وَتَعَاوَنُواْ عَلَى الْبرَّ وَالتَّقْوَى وَلاَ تَعَاوَنُواْ عَلَى الإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ وَاتَّقُواْ اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ} [المائدة:2].
أمّا أن يفرق الناس فيصير كل فرد منهم له حزب وجماعة، وهذه الجماعة تعادي هذه، وكل حزب بما لديهم فرحون فهذه صورة بعيدة عن صورة المجتمع المسلم، الذي وصفه الرسول صلى الله عليه وسلم، فيما جاء عَنْ أَبِي مُوسَى عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: "إِنَّ الْمُؤْمِنَ لِلْمُؤْمِنِ كَالْبُنْيَانِ يَشُدُّ بَعْضُهُ بَعْضًا وَشَبَّكَ أَصَابِعَهُ" أخرجه الشيخان، واللفظ للبخاري.
وعَنْ النُّعْمَانِ بْنِ بَشِيرٍ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "مَثَلُ الْمُؤْمِنِينَ فِي تَوَادِّهِمْ وَتَرَاحُمِهِمْ وَتَعَاطُفِهِمْ مَثَلُ الْجَسَدِ إِذَا اشْتَكَى مِنْهُ عُضْوٌ تَدَاعَى لَهُ سَائِرُ الْجَسَدِ بِالسَّهَرِ وَالْحُمَّى" أخرجه مسلم.
وفي الاتجاه الدعوة، سبل من جهة أخرى؛
فمنهم من يقول: وسائل الدعوة اجتهادية؛ فللداعية أن يستعين بالوسائل الممكنة من أجل الدعوة، من دخول في البرلمانات، وعمل التمثيليات، وإحداث العهد، وأخذ البيعات، وغيره من الأمور التي يؤدي اجتهادهم ونظهرهم إلى عملها في سبيل الدعوة بحسب ظنهم!
ومنهم من يقول: الوسائل توقيفية فلا مجال لأي وسيلة في الدعوة لم يرد بها النص، ويضيقون في ذلك واسعاً فيمتنعون عن استعمال المسجلات ونحوها في الدعوة، لأنها حادثة!
والصراط المستقيم في ذلك هو التفريق بين وسائل الدعوة، وبين طرق نقل الدعوة؛
فوسائل الدعوة وهي الأقوال والأفعال التي تجعل قالباً لعرض المعاني الشرعية وهيئة تبليغها.
وطرق نقل الدعوة هي الأوعية التي تحمل فيها هذه الأقوال، إمّا آنياً مثل مكبر الصوت، أو مبلغ الصوت، و ناقل الصوت، أو السماعات، وإمّا تسجيلاً صوتياً أو كتابياً بحيث يمكن استرجاعه في أي وقت مثل آلات التسجيل الصوتي، أو الصوت مع الصورة المسماة بالفيديو ونحو ذلك، فهذه آلات لنقل الدعوة، بحسب الوسيلة التي هي فيها!
فالوسائل بالمعنى الأول توقيفية ليس لأحد أن يأتي بأي أقوال وأفعال غير ما كان عليه الرسول صلى الله عليه وسلم وأصحابه.
والحذر كل الحذر من البرلمانات والتمثيليات ونحوها أن تتخذ وسائل للدعوة؛ فكلها أمور حادثة!
وإنما يستعمل في ذلك ما جاء به الشرع كالموعظة، أو الحوار، أو القصة، أو التطبيق العملي، فكل هذه وسائل شرعية لتبليغ العلم والدعوة إليه، لها أصل في الشرع.
مثلاً أسلوب الحوار من أجل التعليم والتبليغ أصله في حديث جبريل الطويل لما جاء وسأل الرسول عن الإسلام والإيمان والإحسان وأمارات الساعة، وفي آخره قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "هذا جبريل جاء يعلمكم أمور دينكم" متفق عليه من حديث أبي هريرة، وانفرد مسلم بإخراجه عن عمر بن الخطاب! فهذا الحديث أصل في استعمال أسلوب الحوار.
مثال آخر أسلوب التطبيق العملي، أصله ما جاء عن الرسول أنه صلى وقال: "صلوا كما رأيتموني أصلي" أخرجه البخاري، وحج عليه الصلاة والسلام، وقال أثناء الحج: "لِتَأْخُذُوا مَنَاسِكَكُمْ فَإِنِّي لَا أَدْرِي لَعَلِّي لَا أَحُجُّ بَعْدَ حَجَّتِي هَذِهِ" أخرجه مسلم.
وأسلوب القصة في التعليم وتبليغ المعاني الشرعية والدعوة إليها له أصله في القرآن والسنة أظهر وأشهر من أن أمثل له، فهذه جملة من أساليب الدعوة المشروعة!
ولم نعهد أن الرسول صلى الله عليه وسلم أو أحداً من الصحابة رضي الله عنهم علم الناس المعاني الشرعية بصورة التمثيليات، أو بصورة البرلمانات، أو عن طريق الخروج البدعي على ترتيب معين لأربعين يوماً أو لثلاثة أيام أو غير ذلك، أو عن طريق الأناشيد، أو الرقص، أو الجلسات أوالاجتماعات البدعية كالحضرة والمشهد والمولد؛ فكل هذه الوسائل حادثة، وقد قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "من عمل عملاً ليس عليه أمرنا فهو رد" أخرجه الشيخان واللفظ لمسلم، وفي لفظ عند أبي داود: "من صنع أمراً على غير أمرنا فهو رد"!
أمّا آلات النقل الآنية أو التسجيلية فهذه الأصل أنها مباحة وإنما الكلام على ما ينقل فيها، فيحكم فيه بحسبه! وللمسلم أن يجتهد في استعمال هذه الآلات في تبليغ الدعوة بما يراه مناسباً!
3- الاتجاه الدعوي، ويشتمل على عدة سبل؛
فهناك من لا يري سبيلاً للدعوة إلا عن طريق الجماعات، فذهب يقول بالأحزاب، ويعقد عليها الولاء والبراء، وفي تصوره أن العمل الإسلامي لابد أن يكون عن طريق جماعة، وصار يبرر للجماعات ويستدل على مشروعيتها!
وهناك من لا يرى العمل الجماعي مطلقاً ويرى أن الدعوة فردية وفردية فقط؛ ويرد الأعمال الجماعية مطلقاً!
والصراط المستقيم أن الجماعة ليست شرطاً في العمل الدعوي، وأن العمل الإسلامي يقوم به الأفراد ويقوم به الجماعات طالما أنه سالم عن الانتماءات الحزبية التي يحصل عليها الولاء والبراء، وطالما أنه بعيد عن التفرق والتشرذم، بل تعاون على البر والتقوى، قال الله تبارك وتعالى: {وَتَعَاوَنُواْ عَلَى الْبرَّ وَالتَّقْوَى وَلاَ تَعَاوَنُواْ عَلَى الإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ وَاتَّقُواْ اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ} [المائدة:2].
أمّا أن يفرق الناس فيصير كل فرد منهم له حزب وجماعة، وهذه الجماعة تعادي هذه، وكل حزب بما لديهم فرحون فهذه صورة بعيدة عن صورة المجتمع المسلم، الذي وصفه الرسول صلى الله عليه وسلم، فيما جاء عَنْ أَبِي مُوسَى عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: "إِنَّ الْمُؤْمِنَ لِلْمُؤْمِنِ كَالْبُنْيَانِ يَشُدُّ بَعْضُهُ بَعْضًا وَشَبَّكَ أَصَابِعَهُ" أخرجه الشيخان، واللفظ للبخاري.
وعَنْ النُّعْمَانِ بْنِ بَشِيرٍ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "مَثَلُ الْمُؤْمِنِينَ فِي تَوَادِّهِمْ وَتَرَاحُمِهِمْ وَتَعَاطُفِهِمْ مَثَلُ الْجَسَدِ إِذَا اشْتَكَى مِنْهُ عُضْوٌ تَدَاعَى لَهُ سَائِرُ الْجَسَدِ بِالسَّهَرِ وَالْحُمَّى" أخرجه مسلم.
وفي الاتجاه الدعوة، سبل من جهة أخرى؛
فمنهم من يقول: وسائل الدعوة اجتهادية؛ فللداعية أن يستعين بالوسائل الممكنة من أجل الدعوة، من دخول في البرلمانات، وعمل التمثيليات، وإحداث العهد، وأخذ البيعات، وغيره من الأمور التي يؤدي اجتهادهم ونظهرهم إلى عملها في سبيل الدعوة بحسب ظنهم!
ومنهم من يقول: الوسائل توقيفية فلا مجال لأي وسيلة في الدعوة لم يرد بها النص، ويضيقون في ذلك واسعاً فيمتنعون عن استعمال المسجلات ونحوها في الدعوة، لأنها حادثة!
والصراط المستقيم في ذلك هو التفريق بين وسائل الدعوة، وبين طرق نقل الدعوة؛
فوسائل الدعوة وهي الأقوال والأفعال التي تجعل قالباً لعرض المعاني الشرعية وهيئة تبليغها.
وطرق نقل الدعوة هي الأوعية التي تحمل فيها هذه الأقوال، إمّا آنياً مثل مكبر الصوت، أو مبلغ الصوت، و ناقل الصوت، أو السماعات، وإمّا تسجيلاً صوتياً أو كتابياً بحيث يمكن استرجاعه في أي وقت مثل آلات التسجيل الصوتي، أو الصوت مع الصورة المسماة بالفيديو ونحو ذلك، فهذه آلات لنقل الدعوة، بحسب الوسيلة التي هي فيها!
فالوسائل بالمعنى الأول توقيفية ليس لأحد أن يأتي بأي أقوال وأفعال غير ما كان عليه الرسول صلى الله عليه وسلم وأصحابه.
والحذر كل الحذر من البرلمانات والتمثيليات ونحوها أن تتخذ وسائل للدعوة؛ فكلها أمور حادثة!
وإنما يستعمل في ذلك ما جاء به الشرع كالموعظة، أو الحوار، أو القصة، أو التطبيق العملي، فكل هذه وسائل شرعية لتبليغ العلم والدعوة إليه، لها أصل في الشرع.
مثلاً أسلوب الحوار من أجل التعليم والتبليغ أصله في حديث جبريل الطويل لما جاء وسأل الرسول عن الإسلام والإيمان والإحسان وأمارات الساعة، وفي آخره قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "هذا جبريل جاء يعلمكم أمور دينكم" متفق عليه من حديث أبي هريرة، وانفرد مسلم بإخراجه عن عمر بن الخطاب! فهذا الحديث أصل في استعمال أسلوب الحوار.
مثال آخر أسلوب التطبيق العملي، أصله ما جاء عن الرسول أنه صلى وقال: "صلوا كما رأيتموني أصلي" أخرجه البخاري، وحج عليه الصلاة والسلام، وقال أثناء الحج: "لِتَأْخُذُوا مَنَاسِكَكُمْ فَإِنِّي لَا أَدْرِي لَعَلِّي لَا أَحُجُّ بَعْدَ حَجَّتِي هَذِهِ" أخرجه مسلم.
وأسلوب القصة في التعليم وتبليغ المعاني الشرعية والدعوة إليها له أصله في القرآن والسنة أظهر وأشهر من أن أمثل له، فهذه جملة من أساليب الدعوة المشروعة!
ولم نعهد أن الرسول صلى الله عليه وسلم أو أحداً من الصحابة رضي الله عنهم علم الناس المعاني الشرعية بصورة التمثيليات، أو بصورة البرلمانات، أو عن طريق الخروج البدعي على ترتيب معين لأربعين يوماً أو لثلاثة أيام أو غير ذلك، أو عن طريق الأناشيد، أو الرقص، أو الجلسات أوالاجتماعات البدعية كالحضرة والمشهد والمولد؛ فكل هذه الوسائل حادثة، وقد قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "من عمل عملاً ليس عليه أمرنا فهو رد" أخرجه الشيخان واللفظ لمسلم، وفي لفظ عند أبي داود: "من صنع أمراً على غير أمرنا فهو رد"!
أمّا آلات النقل الآنية أو التسجيلية فهذه الأصل أنها مباحة وإنما الكلام على ما ينقل فيها، فيحكم فيه بحسبه! وللمسلم أن يجتهد في استعمال هذه الآلات في تبليغ الدعوة بما يراه مناسباً!
* * *
>المقال الرابع<
>المقال الرابع<
تكلمت في المقال السابق عن بعض السبل التي قد يقف المسلم أمامها متردداً أيها هو الصراط المستقيم، وأواصل في هذا المقال التمثيل باتجاهات سبل أخرى سائلاً الله التوفيق والهدى والرشاد والسداد، فأقول مستعيناً بالله:
4- الاتجاه الأخلاقي، وله سبل؛
فمن الناس من ذهب يخوض في أخلاقه على طريقة فلاسفة اليونان، وأرباب الرياضات من ديانات الهند القديمة، ونحو ذلك!
ومن الناس من ذهب يخوض في السلوك والتربية على طريقة الصوفية المخالفة ما كان عليه الرسول صلى الله عليه وسلم وأصحابه، فيستدعي بالرياضات الكشف، والمشاهدات، و التجليات والإشراقات، وركبوا في ذلك مركب البدعة وجاوزوا طريق السنة!
والأخلاق الصحيحة هي أخلاق الرسول عليه الصلاة والسلام، وقد كان خلقه القرآن، عَنْ سَعْدِ بْنِ هِشَامِ بْنِ عَامِرٍ قَالَ: أَتَيْتُ عَائِشَةَ فَقُلْتُ: يَا أُمَّ الْمُؤْمِنِينَ أَخْبِرِينِي بِخُلُقِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ؟ قَالَتْ: كَانَ خُلُقُهُ الْقُرْآنَ أَمَا تَقْرَأُ الْقُرْآنَ قَوْلَ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ: {وَإِنَّكَ لَعَلَى خُلُقٍ عَظِيمٍ} [القلم:4] قُلْتُ: فَإِنِّي أُرِيدُ أَنْ أَتَبَتَّلَ قَالَتْ لَا تَفْعَلْ أَمَا تَقْرَأُ {لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ} [الأحزاب:21] فَقَدْ تَزَوَّجَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَقَدْ وُلِدَ لَهُ" أخرجه أحمد، وهو حديث حسن لغيره!
أخلاقه صلى الله عليه وسلم تنبع في كل تشريعات الدين الذي جاء به، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "إِنَّمَا بُعِثْتُ لِأُتَمِّمَ صَالِحَ الْأَخْلَاقِ" أخرجه أحمد وهو حديث حسن!
وحياته صلى الله عليه وسلم صورة أخلاقه، فقد كان يصوم ويفطر، وينام ويقوم، ويتزوج النساء، يصدق إذا حدث، و لا يخلف إذا وعد، وكان إذا أتى الآتي لا يميزه بين أصحابه صلوات ربي وسلامه عليه!
وما كان في حياته رياضات الصوفية، و لا فناء الوجودية، و لا الغياب والشهود!
5- الاتجاه التعليمي الإصلاحي، وله سبل؛
فمن الناس من يرى أن الإصلاح يبدأ من القمة، فيبدأ في دعوته بالحكام والرؤساء، وقد يدخل في جو من التصادم والخصام، و لا يهمه أن يوقع في المجتمع الشقاق أو الصدوع، كل همه الوصول إلى السلطة، متخذا كل ما يمكن أن يوصله إلى غايته سبيلاً!
ومن الناس من يبدأ في إصلاحه بالمجتمع حوله، وينطلق يدعو الناس إلى الخير والدين، يدعوهم إلى المساجد، ويخرج بهم في رحلات قد تطول أو تقصر ليربي فيهم ـ حسب ظنه ـ البعد عن الدنيا ومشاغلها؛ ويمضي في غايته دون أن يزود نفسه بالعلم الشرعي الصحيح، ودون أن يحدو الناس إلى طلبه!
ومن الناس من جعل السياسة هي دعواه، وهي هدفه، ويزعم أن سبيل الإصلاح العام والتعليم هو السياسة والخوض في أمر الواقع والحديث عن جوانبه، وما يتصل به من اقتصاد وغيره!
والصراط المستقيم أن يهتم المسلم بتعليم نفسه وتعليم أدناه فأدناه، ويبدأ بتعليم نفسه ومن يليه أمر دينه ليقوم بعبادة ربه، لأنه يعلم أنه لا يصلح الفرد إلا إذا صلح قلبه، ولا تصلح الأسرة إلا إذا صلح الفرد، ولا يصلح المجتمع إلا إذا صلحت الأسرة، وصلاح المجتمع صلاح الأمة!
يبدأ بالعلم قبل القول والعمل، لقوله تعالى: {فَاعْلَمْ أَنّهُ لاَ إِلَـَهَ إِلا اللّهُ وَاسْتَغْفِرْ لِذَنبِكَ وَلِلْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ وَاللّهُ يَعْلَمُ مُتَقَلّبَكُمْ} [محمد:19].
ويبدأ بنفسه فيطبق عليها ما يدعو إليه، ويستقيم عليه: {فَلِذَلِكَ فَادْعُ وَاسْتَقِمْ كَمَآ أُمِرْتَ وَلاَ تَتّبِعْ أَهْوَآءَهُمْ وَقُلْ آمَنتُ بِمَآ أَنزَلَ اللّهُ مِن كِتَابٍ} [الشورى:15].
ودعوة الأدنى فالأدنى من حسن الصحبة، وقد جاء عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ: "قَالَ رَجُلٌ: يَا رَسُولَ اللَّهِ مَنْ أَحَقُّ النَّاسِ بِحُسْنِ الصُّحْبَةِ؟ قَالَ: "أُمُّكَ، ثُمَّ أُمُّكَ، ثُمَّ أُمُّكَ، ثُمَّ أَبُوكَ، ثُمَّ أَدْنَاكَ أَدْنَاكَ" أخرجه مسلم.
يوقن أن الله لا يغير ما في قوم حتى يغيروا ما بأنفسهم، كما قال تعالى: {إِنَّ اللَّهَ لاَ يُغَيَّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتّى يُغَيِّرُواْ مَا بِأَنْفُسِهِمْ} [الرعد:12].
يعمل بطاعة الله تبارك وتعالى وطاعة رسوله صلى الله عليه وسلم، ويدعو إلى طاعتهما ويرجو وعد الله تعالى: {قُلْ أَطِيعُواْ اللّهَ وَأَطِيعُواْ الرّسُولَ فَإِن تَوَلّوْاْ فَإِنّمَا عَلَيْهِ مَا حُمّلَ وَعَلَيْكُمْ مّا حُمّلْتُمْ وَإِن تُطِيعُوهُ تَهْتَدُواْ وَمَا عَلَى الرّسُولِ إِلاّ الْبَلاَغُ الْمُبِينُ * وَعَدَ اللّهُ الّذِينَ آمَنُواْ مِنْكُمْ وَعَمِلُواْ الصّالِحَاتِ لَيَسْتَخْلِفَنّهُمْ فِي الأرْضِ كَمَا اسْتَخْلَفَ الّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ وَلَيُمَكّنَنّ لَهُمْ دِينَهُمُ الّذِي ارْتَضَى لَهُمْ وَلَيُبَدّلَنّهُمْ مّن بَعْدِ خَوْفِهِمْ أَمْناً يَعْبُدُونَنِي لاَ يُشْرِكُونَ بِي شَيْئاً وَمَن كَفَرَ بَعْدَ ذَلِكَ فَأُولَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ * وَأَقِيمُواْ الصّـلاَةَ وَآتُواْ الزّكَـاةَ وَأَطِيعُواْ الرّسُولَ لَعَلّكُمْ تُرْحَمُونَ * لاَ تَحْسَبَنّ الّذِينَ كَفَرُواْ مُعْجِزِينَ فِي الأرْضِ وَمَأْوَاهُمُ النّارُ وَلَبِئْسَ الْمَصِيرُ} [النور:54-57].
6- الاتجاه التربوي، وله سبل؛
فمن الناس من لا يعرف من التربية وأصولها وطرقها إلا ما قررته مدارس الغرب، ومن اشتغل بها منهم! ويريد أن يجعل في إطار كل ما حوله وفق هذه النظرة التربوية المجردة!
ومن الناس من يذم التربية وما فيها و لا يقبل منهاً شيئاً!
والصراط المستقيم أن التربية في الإسلام لها أصولها المعتبرة، وهي الدين كله، وإبراز الجانب التربوي في التشريعات الإسلامية هو ما يسميه علماء الشريعة والأصول بالحكم التشريعية!
قال ابن القيم في مفتاح دار السعادة (1/126)، بعد نقله عن المبرد: "الرباني الذي يرب العلم ويرب الناس به أي يعلمهم ويصلحهم"؛ قال: "وعلى قوله (أي: على قول المبرد)؛ فالرباني من رب يرب ربا أي يربيه فهو منسوب إلى التربية ويربى علمه ليكمل ويتم بقيامه عليه وتعاهده إياه كما يربى صاحب المال ماله يربي الناس به كما يربى الأطفال أولياؤهم. ولا يوصف العالم بكونه ربانيا حتى يكون عاملا بعمله معلما له" اهـ
فمعين التربية في الإسلام، ومنابع التربية الكتاب والسنة على ضوء فهم السلف الصالح، والعلماء الربانيون فيه هم التربيون على الحقيقة! ولم يأت الغرب فيه بشيء جديد، غير أنهم زادوا الطين بلة، كما يقال!
7- الاتجاه الاقتصادي، وله سبل؛
فمنها ما يعرف بالرأس مالي!
ومنها ما يعرف بالاشتراكي!
ومنها .. ومنها ...
والصراط المستقيم في كل هذا، اتباع ما جاء في الإسلام من إحلال البيع وتحريم الربا، وإثبات الملكية الفردية، ومنع الضرر والضرار، فلا غرر و لا تغرير، و لا احتكار، وأن يعلم العبد من أين اكتسب ماله وفيما أنفقه.
قال الله تبارك وتعالى: {الّذِينَ يَأْكُلُونَ الرّبَا لاَ يَقُومُونَ إِلاّ كَمَا يَقُومُ الّذِي يَتَخَبّطُهُ الشّيْطَانُ مِنَ الْمَسّ ذَلِكَ بِأَنّهُمْ قَالُوَاْ إِنّمَا الْبَيْعُ مِثْلُ الرّبَا وَأَحَلَّ اللَّهُ الْبَيْعَ وَحَرّمَ الرّبَا فَمَن جَآءَهُ مَوْعِظَةٌ مّنْ رّبّهِ فَانْتَهَى فَلَهُ مَا سَلَفَ وَأَمْرُهُ إِلَى اللّهِ وَمَنْ عَادَ فَأُولَئِكَ أَصْحَابُ النّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ * يَمْحَقُ اللّهُ الْرّبَا وَيُرْبِي الصّدَقَاتِ وَاللّهُ لاَ يُحِبّ كُلّ كَفّارٍ أَثِيمٍ * إِنّ الّذِينَ آمَنُواْ وَعَمِلُواْ الصّالِحَاتِ وَأَقَامُواْ الصّلاَةَ وَآتَوُاْ الزّكَاةَ لَهُمْ أَجْرُهُمْ عِندَ رَبّهِمْ وَلاَ خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلاَ هُمْ يَحْزَنُونَ} [البقرة:277-278].
4- الاتجاه الأخلاقي، وله سبل؛
فمن الناس من ذهب يخوض في أخلاقه على طريقة فلاسفة اليونان، وأرباب الرياضات من ديانات الهند القديمة، ونحو ذلك!
ومن الناس من ذهب يخوض في السلوك والتربية على طريقة الصوفية المخالفة ما كان عليه الرسول صلى الله عليه وسلم وأصحابه، فيستدعي بالرياضات الكشف، والمشاهدات، و التجليات والإشراقات، وركبوا في ذلك مركب البدعة وجاوزوا طريق السنة!
والأخلاق الصحيحة هي أخلاق الرسول عليه الصلاة والسلام، وقد كان خلقه القرآن، عَنْ سَعْدِ بْنِ هِشَامِ بْنِ عَامِرٍ قَالَ: أَتَيْتُ عَائِشَةَ فَقُلْتُ: يَا أُمَّ الْمُؤْمِنِينَ أَخْبِرِينِي بِخُلُقِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ؟ قَالَتْ: كَانَ خُلُقُهُ الْقُرْآنَ أَمَا تَقْرَأُ الْقُرْآنَ قَوْلَ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ: {وَإِنَّكَ لَعَلَى خُلُقٍ عَظِيمٍ} [القلم:4] قُلْتُ: فَإِنِّي أُرِيدُ أَنْ أَتَبَتَّلَ قَالَتْ لَا تَفْعَلْ أَمَا تَقْرَأُ {لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ} [الأحزاب:21] فَقَدْ تَزَوَّجَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَقَدْ وُلِدَ لَهُ" أخرجه أحمد، وهو حديث حسن لغيره!
أخلاقه صلى الله عليه وسلم تنبع في كل تشريعات الدين الذي جاء به، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "إِنَّمَا بُعِثْتُ لِأُتَمِّمَ صَالِحَ الْأَخْلَاقِ" أخرجه أحمد وهو حديث حسن!
وحياته صلى الله عليه وسلم صورة أخلاقه، فقد كان يصوم ويفطر، وينام ويقوم، ويتزوج النساء، يصدق إذا حدث، و لا يخلف إذا وعد، وكان إذا أتى الآتي لا يميزه بين أصحابه صلوات ربي وسلامه عليه!
وما كان في حياته رياضات الصوفية، و لا فناء الوجودية، و لا الغياب والشهود!
5- الاتجاه التعليمي الإصلاحي، وله سبل؛
فمن الناس من يرى أن الإصلاح يبدأ من القمة، فيبدأ في دعوته بالحكام والرؤساء، وقد يدخل في جو من التصادم والخصام، و لا يهمه أن يوقع في المجتمع الشقاق أو الصدوع، كل همه الوصول إلى السلطة، متخذا كل ما يمكن أن يوصله إلى غايته سبيلاً!
ومن الناس من يبدأ في إصلاحه بالمجتمع حوله، وينطلق يدعو الناس إلى الخير والدين، يدعوهم إلى المساجد، ويخرج بهم في رحلات قد تطول أو تقصر ليربي فيهم ـ حسب ظنه ـ البعد عن الدنيا ومشاغلها؛ ويمضي في غايته دون أن يزود نفسه بالعلم الشرعي الصحيح، ودون أن يحدو الناس إلى طلبه!
ومن الناس من جعل السياسة هي دعواه، وهي هدفه، ويزعم أن سبيل الإصلاح العام والتعليم هو السياسة والخوض في أمر الواقع والحديث عن جوانبه، وما يتصل به من اقتصاد وغيره!
والصراط المستقيم أن يهتم المسلم بتعليم نفسه وتعليم أدناه فأدناه، ويبدأ بتعليم نفسه ومن يليه أمر دينه ليقوم بعبادة ربه، لأنه يعلم أنه لا يصلح الفرد إلا إذا صلح قلبه، ولا تصلح الأسرة إلا إذا صلح الفرد، ولا يصلح المجتمع إلا إذا صلحت الأسرة، وصلاح المجتمع صلاح الأمة!
يبدأ بالعلم قبل القول والعمل، لقوله تعالى: {فَاعْلَمْ أَنّهُ لاَ إِلَـَهَ إِلا اللّهُ وَاسْتَغْفِرْ لِذَنبِكَ وَلِلْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ وَاللّهُ يَعْلَمُ مُتَقَلّبَكُمْ} [محمد:19].
ويبدأ بنفسه فيطبق عليها ما يدعو إليه، ويستقيم عليه: {فَلِذَلِكَ فَادْعُ وَاسْتَقِمْ كَمَآ أُمِرْتَ وَلاَ تَتّبِعْ أَهْوَآءَهُمْ وَقُلْ آمَنتُ بِمَآ أَنزَلَ اللّهُ مِن كِتَابٍ} [الشورى:15].
ودعوة الأدنى فالأدنى من حسن الصحبة، وقد جاء عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ: "قَالَ رَجُلٌ: يَا رَسُولَ اللَّهِ مَنْ أَحَقُّ النَّاسِ بِحُسْنِ الصُّحْبَةِ؟ قَالَ: "أُمُّكَ، ثُمَّ أُمُّكَ، ثُمَّ أُمُّكَ، ثُمَّ أَبُوكَ، ثُمَّ أَدْنَاكَ أَدْنَاكَ" أخرجه مسلم.
يوقن أن الله لا يغير ما في قوم حتى يغيروا ما بأنفسهم، كما قال تعالى: {إِنَّ اللَّهَ لاَ يُغَيَّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتّى يُغَيِّرُواْ مَا بِأَنْفُسِهِمْ} [الرعد:12].
يعمل بطاعة الله تبارك وتعالى وطاعة رسوله صلى الله عليه وسلم، ويدعو إلى طاعتهما ويرجو وعد الله تعالى: {قُلْ أَطِيعُواْ اللّهَ وَأَطِيعُواْ الرّسُولَ فَإِن تَوَلّوْاْ فَإِنّمَا عَلَيْهِ مَا حُمّلَ وَعَلَيْكُمْ مّا حُمّلْتُمْ وَإِن تُطِيعُوهُ تَهْتَدُواْ وَمَا عَلَى الرّسُولِ إِلاّ الْبَلاَغُ الْمُبِينُ * وَعَدَ اللّهُ الّذِينَ آمَنُواْ مِنْكُمْ وَعَمِلُواْ الصّالِحَاتِ لَيَسْتَخْلِفَنّهُمْ فِي الأرْضِ كَمَا اسْتَخْلَفَ الّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ وَلَيُمَكّنَنّ لَهُمْ دِينَهُمُ الّذِي ارْتَضَى لَهُمْ وَلَيُبَدّلَنّهُمْ مّن بَعْدِ خَوْفِهِمْ أَمْناً يَعْبُدُونَنِي لاَ يُشْرِكُونَ بِي شَيْئاً وَمَن كَفَرَ بَعْدَ ذَلِكَ فَأُولَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ * وَأَقِيمُواْ الصّـلاَةَ وَآتُواْ الزّكَـاةَ وَأَطِيعُواْ الرّسُولَ لَعَلّكُمْ تُرْحَمُونَ * لاَ تَحْسَبَنّ الّذِينَ كَفَرُواْ مُعْجِزِينَ فِي الأرْضِ وَمَأْوَاهُمُ النّارُ وَلَبِئْسَ الْمَصِيرُ} [النور:54-57].
6- الاتجاه التربوي، وله سبل؛
فمن الناس من لا يعرف من التربية وأصولها وطرقها إلا ما قررته مدارس الغرب، ومن اشتغل بها منهم! ويريد أن يجعل في إطار كل ما حوله وفق هذه النظرة التربوية المجردة!
ومن الناس من يذم التربية وما فيها و لا يقبل منهاً شيئاً!
والصراط المستقيم أن التربية في الإسلام لها أصولها المعتبرة، وهي الدين كله، وإبراز الجانب التربوي في التشريعات الإسلامية هو ما يسميه علماء الشريعة والأصول بالحكم التشريعية!
قال ابن القيم في مفتاح دار السعادة (1/126)، بعد نقله عن المبرد: "الرباني الذي يرب العلم ويرب الناس به أي يعلمهم ويصلحهم"؛ قال: "وعلى قوله (أي: على قول المبرد)؛ فالرباني من رب يرب ربا أي يربيه فهو منسوب إلى التربية ويربى علمه ليكمل ويتم بقيامه عليه وتعاهده إياه كما يربى صاحب المال ماله يربي الناس به كما يربى الأطفال أولياؤهم. ولا يوصف العالم بكونه ربانيا حتى يكون عاملا بعمله معلما له" اهـ
فمعين التربية في الإسلام، ومنابع التربية الكتاب والسنة على ضوء فهم السلف الصالح، والعلماء الربانيون فيه هم التربيون على الحقيقة! ولم يأت الغرب فيه بشيء جديد، غير أنهم زادوا الطين بلة، كما يقال!
7- الاتجاه الاقتصادي، وله سبل؛
فمنها ما يعرف بالرأس مالي!
ومنها ما يعرف بالاشتراكي!
ومنها .. ومنها ...
والصراط المستقيم في كل هذا، اتباع ما جاء في الإسلام من إحلال البيع وتحريم الربا، وإثبات الملكية الفردية، ومنع الضرر والضرار، فلا غرر و لا تغرير، و لا احتكار، وأن يعلم العبد من أين اكتسب ماله وفيما أنفقه.
قال الله تبارك وتعالى: {الّذِينَ يَأْكُلُونَ الرّبَا لاَ يَقُومُونَ إِلاّ كَمَا يَقُومُ الّذِي يَتَخَبّطُهُ الشّيْطَانُ مِنَ الْمَسّ ذَلِكَ بِأَنّهُمْ قَالُوَاْ إِنّمَا الْبَيْعُ مِثْلُ الرّبَا وَأَحَلَّ اللَّهُ الْبَيْعَ وَحَرّمَ الرّبَا فَمَن جَآءَهُ مَوْعِظَةٌ مّنْ رّبّهِ فَانْتَهَى فَلَهُ مَا سَلَفَ وَأَمْرُهُ إِلَى اللّهِ وَمَنْ عَادَ فَأُولَئِكَ أَصْحَابُ النّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ * يَمْحَقُ اللّهُ الْرّبَا وَيُرْبِي الصّدَقَاتِ وَاللّهُ لاَ يُحِبّ كُلّ كَفّارٍ أَثِيمٍ * إِنّ الّذِينَ آمَنُواْ وَعَمِلُواْ الصّالِحَاتِ وَأَقَامُواْ الصّلاَةَ وَآتَوُاْ الزّكَاةَ لَهُمْ أَجْرُهُمْ عِندَ رَبّهِمْ وَلاَ خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلاَ هُمْ يَحْزَنُونَ} [البقرة:277-278].
* * *
وليعلم القارئ الكريم أن هذه بعض السبل بحسب الاتجاهات المذكورة، والقضية يمكن تطبيقها على اتجاهات كثيرة، والمؤمن الحصيف لديه ميزان يفرق به بين الحق والباطل، فإذا ما وقف أمام شيء من هذه الاتجاهات أو غيرها ينظر أيها وفق ما كان عليه الرسول صلى الله عليه وسلم وأصحابه فيتبعه، فإن فيه الهدى والنور، ومن يتق الله يجعل من أمره رشدا ويجعل له فرقاناً يفرق به بين الحق والباطل؛ {يِا أَيّهَا الّذِينَ آمَنُوَاْ إَن تَتّقُواْ اللّهَ يَجْعَل لّكُمْ فُرْقَاناً وَيُكَفّرْ عَنكُمْ سَيّئَاتِكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ وَاللّهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ} [الأنفال:23].
{وَأَقِيمُواْ الشّهَادَةَ لِلّهِ ذَلِكُمْ يُوعَظُ بِهِ مَن كَانَ يُؤْمِنُ بِاللّهِ وَالْيَوْمِ الاَخِرِ وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَلْ لَهُ مَخْرَجاً * وَيَرْزُقْهُ مِنْ حَيْثُ لاَ يَحْتَسِبُ وَمَن يَتَوَكّلْ عَلَى اللّهِ فَهُوَ حَسْبُهُ إِنّ اللّهَ بَالِغُ أَمْرِهِ قَدْ جَعَلَ اللّهُ لِكُلّ شَيْءٍ قَدْراً} [الطلاق:2-3].
{وَأَقِيمُواْ الشّهَادَةَ لِلّهِ ذَلِكُمْ يُوعَظُ بِهِ مَن كَانَ يُؤْمِنُ بِاللّهِ وَالْيَوْمِ الاَخِرِ وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَلْ لَهُ مَخْرَجاً * وَيَرْزُقْهُ مِنْ حَيْثُ لاَ يَحْتَسِبُ وَمَن يَتَوَكّلْ عَلَى اللّهِ فَهُوَ حَسْبُهُ إِنّ اللّهَ بَالِغُ أَمْرِهِ قَدْ جَعَلَ اللّهُ لِكُلّ شَيْءٍ قَدْراً} [الطلاق:2-3].
كتبه
محمد بن عمر بن سالم بازمول
حرر في مكة المكرمة
25/10/1421هـ
محمد بن عمر بن سالم بازمول
حرر في مكة المكرمة
25/10/1421هـ
تعليق