أبو أمامة الباهلي ـ رضي الله عنه ـ ينكر المظاهرات والاعتصامات!!
الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على رسوله الأمين.
أما بعد:
فإنني أحببت أن أنفع إخواني الطلبة بكلام جميل للإمام المصلح أبي إسحاق إبراهيم بن موسى الشاطبي ـ رحمه الله ـ (ت: 790هـ)؛ له علاقة قوية بما يحدث الآن في بعض البلدان الإسلامية.
وأنبه إخواني الكرام: أنه ينبغي التأمل في هذه القصة التي سيذكرها الإمام؛ فإنها في غاية الأهمية.
فرحم الله علماء السنة.
أولا:
قال الشاطبي ـ رحمه الله ـ في «الاعتصام» (1/70) ـ في سياق ذم البدع ـ:
«جاء عن أبي غالب ـ واسمه حَزَوَّر ـ قال: «كنت بالشَّام، فبعث المُهلَّب سبعين رأسًا من الخوارِج، فنُصِبُوا على دَرَج دمشق، فكنت على ظهر بيتٍ لي فمرَّ أبو أمامة فنزلتُ فاتَّبعتُه، فلمَّا وقَف عليهِم دمَعتْ عينَاهُ، وقال: سبحانَ الله! ما يصنَعُ الشَّيطان ببنِي آدَم ـ قالها ثلاثًا ـ! كلابُ جهنَّم، كلابُ جهنَّم، شرُّ قتلى تحت ظِلِّ السَّماء ـ ثلاث مرَّات ـ، خيرُ قتلى مَن قتلُوه، طوبَى لمَن قتَلهُم أو قتَلُوه.
ثمَّ التَفتَ إليَّ، فقال: يا أبا غالِبٍ! إنَّك بأرضٍ هم بها كثِيرٌ، فأعاذَك اللهُ مِنهم.
قلتُ: رأيتُكَ بَكيتَ حين رأيتهم؟
قال: بكَيتُ رحمةً حينَ رأيتُهم؛ كانوا مِن أهل الإسلام، هل تقرأ سورة آل عمران؟ قلتُ: نعم. فقَرأ: «هُوَ الَّذِي أَنزَلَ عَلَيكَ الكِتَابَ مِنهُ آيَاتٌ مُحكَمَاتٌ هُنَّ أُمُّ الكِتَابِ» [آل عمران: 7] حتى بلغ: «وَمَا يَعلَمُ تَأوِيلَهُ إِلَّا اللهُ» [آل عمران: 7]، وإنَّ هؤلاء كان في قلوبهم زيغٌ، فزِيغَ بهم.
ثمَّ قرأ: «وَلَا تَكُونُوا كَالَّذِينَ تَفَرَّقُوا وَاختَلَفُوا مِن بَعدِ مَا جَاءَهُم البَيِّنَاتُ» [آل عمران: 105] إلى قوله: «فَفِي رَحمَةِ اللهِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ» [آل عمران: 107].
قلتُ: هم هؤلاء يا أبا أمامة؟
قال: نعم.
قلتُ: مِن قِبَلِك تقُول، أو شيءٌ سمعتَهُ من النَّبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ؟
قال: إنِّي إذًا لَجَرِيءٌ؛ بل سمعتُه من رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ، لا مَرَّةً، ولا مرَّتين، حتَّى عدَّ سبعًا.
ثمَّ قال: إنَّ بني إسرائيل تفرَّقوا على إحدى وسبعين فِرقة، وإنَّ هذه الأمَّة تزيد عليها فرقةً، كلُّها في النَّار؛ إِلَّا السَّواد الأعظَم.
قلتُ: يا أبا أمامة! ألا ترَى ما يفعَلُون؟
قال: «عَلَيهِ مَا حُمِّلَ وَعَلَيكُم مَا حُمِّلتُمْ» [النور: 54] الآية».
خرجه إسماعيل القاضي وغيره.
وفي رواية؛ قال: «قال: ألا ترَى ما فِيه السَّواد الأعظم، وذلِك في أوَّل خلافة عبدِالملك، والقَتلُ يومئذٍ ظاهِرٌ؟ قال: «عَلَيهِ مَا حُمِّلَ وَعَلَيكُم مَا حُمِّلتُم» [النور: 54].
وخرجه الترمذي مختصرًا، وقال فيه: «حديث حسن».
وخرجه الطحاوي أيضًا باختلاف في بعض الألفاظ، وفيه:
«فقيل له: يا أبا أمامة! تقول لهم هذا القول ثمَّ تبكي ـ يعني قولَه: شرُّ قتلى إلى آخره ـ؟! قال: رحمةً لهم؛ إنَّهم كانوا مِن أهل الإسلام، فخرَجوا منه، ثم تلا: «هُوَ الَّذِي أَنزَلَ عَلَيكَ الكِتَابَ» [آل عمران: 7] حتَّى ختمَها، ثمَّ قال: هم هؤلاء، ثمَّ تلا هذه الآية: «يَومَ تَبيَضُّ وُجُوهٌ وَتَسوَدُّ وُجُوهٌ» [آل عمران: 106] حتى ختمها. ثم قال: هم هؤلاء».
قال أبو عبد الله ـ عفا الله عنه ـ:
قد نتساءل: ما دخل هذا الأثر وهو في الخوارج في قوم ليسوا منهم؟!
وكأني بالشاطبي ـ رحمه الله ـ قد سئل هذا السؤال! فأجاب بقوله:
«فقد ظهر بهذا التفسير أنهم أهل البدع؛ لأنَّ أبا أمامة ـ رضي الله عنه ـ جعل الخوارج داخِلين في عموم الآية، وأنَّها تتنزَّل عليهم، وهم مِن أهل البدع عند العلماء: إمَّا على أنَّهم خرجوا ببِدعتهم عن أهل الإسلام، وإمَّا على أنَّهم من أهل الإسلام لم يخرُجوا عنهم؛ على اختلافِ العلماء فيهم.
وجعل هذه الطَّائفة ممَّن في قلوبهم زَيغٌ فزِيغَ بهم، وهذا الوصف موجودٌ في أهل البِدع كلِّهم.
مع أنَّ لفظ الآية عامٌّ فيهم، وفي غيرهم ممَّن كان على صِفاتهم، ألا ترى أنَّ صدر هذه السُّورة إنَّما نزل في نصارى نجران ومناظَرتهم لرسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ في اعتقادِهم في عيسى ـ عليه السلام ـ، حيثُ تأوَّلوا عليه أنَّه الإله، أو أنَّه ابنُ الله، أو أنَّه ثالثُ ثلاثةٍ، بأوجه متشابِهةٍ، وتركوا ما هو الواضِح في عبودِيَّته حسبَما نقله أهل السِّيَر؟!
ثمَّ تأوَّله العلماء من السَّلف الصَّالح على قضايا دخَل أصحابُها تحت حكم اللَّفظ؛ كالخوارِج فهي ظاهرةٌ في العُموم.
ثمَّ تلا أبو أمامة الآية الأخرى، وهي قوله سبحانه: «وَلَا تَكُونُوا كَالَّذِينَ تَفَرَّقُوا وَاختَلَفُوا مِن بَعدِ مَا جَاءَهُمُ البَيِّنَاتُ» [آل عمران: 105] إلى قوله: «فَفِي رَحمَةِ اللهِ هُم فِيهَا خَالِدُونَ» [آل عمران: 107]، وفسَّرها بمعنى ما فسَّر به الآية الأخرى، فهي تقتضي الوعيد والتهديد لمن تلك صفته، ونهي المؤمنين أن يكونوا مثلهم».
قال أبو عبد الله ـ عفا الله عنه ـ:
نلاحظ أن حزَوَّر ـ رحمه الله ـ رأى السواد الأعظم (في ميدان التحرير!!) لكنه:
1 ـ لم يخرج معهم! وإنما بقي في بيته.
وهذا موقف المسلم؛ فلا ينبغي أن يكون إمعة.
2 ـ لم يتكلم بشيء؛ وإنما لاحظ أقوال العلماء فيهم، ومنهم أبو أمامة صدي بن عجلان الباهلي ـ رضي الله عنه ـ، فسأله، واستفسره عما أشكل عليه.
وها هم علماؤنا الكبار؛ فلنسألهم، ولنطرح عليهم ما استشكل من الأمر.
ونلاحظ أيضا أن أبا أمامة ـ رضي الله عنه ـ لم يزد أن:
1 ـ بكى عليهم رحمة بهم، وشفقة.
وكذلك علماؤنا نصحوهم، وأشفقوا عليهم، و«أهل السنة أرحم الناس بالخلق».
2 ـ استدل بما ثبت في القرآن الكريم، ونزَّل عليهم ما رأى أن العبرة فيه بعموم لفظه لا بخصوص سببه.
وكذلك علماؤنا استدلوا بالآيات والأحاديث التي في وجوب طاعة الحكام، وعدم الخروج عليهم.
ثانيا:
قال الإمام الشاطبي ـ رحمه الله ـ (1/84):
«وعن الحسن، قال: «خرج علينا عثمانُ بن عفَّان ـ رضي الله عنه ـ يومًا يخطُبنا، فقطعوا عليه كلامه، فترامَوا بالبَطحاء، حتَّى جعلتُ ما أُبصِر أدِيمَ السَّماء.
قال: وسمِعنا صوتًا مِن بعض حُجَر أزواجِ النَّبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ، فقيل: هذا صوتُ أمِّ المؤمِنين!
قال: فسمِعتُها وهي تقول: ألا إنَّ نبِيَّكُم قد برِئ ممَّن فرَّق دينَه واحتَزب، وتلَت: «إِنَّ الَّذِينَ فَرَّقُوا دِينَهُم وَكَانُوا شِيَعًا لَستَ مِنهُم فِي شَيءٍ» [الأنعام: 159]».
قال القاضي إسماعيل: «أحسِبه يعني بقوله: أم المؤمنين: أمَّ سلَمة، وأنَّ ذلك قد ذُكِر في بعض الحديث، وقد كانت عائشةُ في ذلك الوَقت حاجَّةً».
قال أبو عبد الله ـ عفا الله عنه ـ:
لنلاحظ:
1 ـ قوله: «فقطعوا عليه كلامه، فترامَوا بالبَطحاء، حتَّى جعلتُ ما أُبصِر أدِيمَ السَّماء»، يمكن تشبيه هؤلاء بالمعارضة، واجتماعهم بالبطحاء هو كاجتماعهم ـ اليوم ـ في الساحات العمومية!
أم أن الزمان قد تغير؟!
أو لعل (الميدان) غير (البطحاء).
2 ـ قوله: «وسمِعنا صوتًا مِن بعض حُجَر أزواجِ النَّبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ»: فأمهات المؤمنين كن عالمات؛ إذ هن ممن كان يروي حديث النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ ويذكر أيامه.
3 ـ قوله: «ألا إنَّ نبِيَّكُم قد برِئ ممَّن فرَّق دينَه واحتَزب»، فيه أن:
ـ الذين تجمعوا في البطحاء (الميدان) فرقوا دينهم، وتحزبوا.
ـ النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ بريء من الذين تجمعوا بالبطحاء (وربما من بالميدان!!)، و«كل ذنب قرن بالبراءة من فاعله؛ فهو من كبائر الذنوب، كما هو معروف عند أهل العلم» [«القول المفيد» للإمام ابن عثيمين ـ رحمه الله ـ (ص 122 ـ ط.الثانية، دار ابن الجوزي)]، وهل في «الكبائر» بركة؟!!
3 ـ في استدلال أم سلمة ـ رضي الله عنها ـ بالآية تثبيت لفهم السلف الصالح للقرآن، كما في الأثر الأول.
والله تعالى أعلم، وهو الهادي إلى سواء السبيل.
نقله أبو عبد الله حسن بن داود بوقليل ـ عفا الله عنه ـ صبيحة الثلاثاء (05 ربيع الأول 1432هـ).
تعليق