بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله الذي أرسل رسوله بالهدى ودين الحق ليظهره على الدين وكفى بالله شهيدا ، وأشهد أن لاإله إلا الله إقرارا به وتوحيدا وأشهد أن محمدا عبده ورسوله صلى الله عليه وسلم تسليما مزيدا .
فإن أصدق الحديث كتاب الله وخير الهدي هدي محمد صلى الله عليه وسلم ، وشر الأمور محدثاتها ، وكل محدثة بدعة ، وكل بدعة ضلالة وكل ضلالة في النار .
أما بعد : فإن الإسلام هو دين الله العظيم الذي ارتضاه للبشرية ليصلح به كل شأن من شؤون حياتها على مر الزمن ، وتقلب الدهر ، ولما كانت الأمة الإسلامية خير أمة أخرجت للناس اختصها الله بخير نبي أرسل ، وأعظم كتاب أنزل ، ولم يلتحق رسول الله بالملأ الأعلى إلا وقد أكمل الله به الدين وأتم علينا النعمة ورضي لنا الإسلام دينا .
ومن تمام كمال هذا الدين ويسره أن شرع لنا من العبادات مانزكي به نفوسنا ونطهر به قلوبنا ، ومن رحمة الله بعباده المؤمنين أن من عليهم بعيدين سنويين يعقبان عبادتين جليلتين ، عيد الفطر ، وفيه ما فيه من عوائد الإحسان من الفطر بعد المنع عن الطعام ، والنساء ، وصدقة الفطر وصلة الأرحام وغيرها ، وعيد الأضحى وما فيه من التوسعة على العيال بلحوم الأضاحي وغيرذلك من الفرح والسرور والنشاط والحبور وما يحصل لهم من بسط النفس وترويح البدن من كلف العبادة ، ومن الأمور التي أباحها الله لعباده في هذين اليومين التهنئة بالعيدين لما فيها من إظهار للدين وإرغام للشيطان والكفار والمنافقين ، الذين يغيظهم أن يروا المؤمنين أخوة متحابين متسامحين ، وإن من أعظم أسباب طاهرة قلوبهم وذهاب الضغينة والشحناء منها التحية التي قال الله فيها :) وإذا حييتم بتحية فحيوا بأحسن منها أو ردوها ( وقال e فيها : << أو لا أدلكم على شيء إذا فعلتموه تحاببتم ؟ أفشوا السلام بينكم >>. رواه مسلم .
وإن من التحية المشروعة يوم العيد والتي تكون سببا قويا من أسباب تأليف القلوب وتحابها التهنئة بالعيد التي كان الصحابة يقولها بعضهم لبعض ، وهذه التهنئة ليست خاصة بعيد دون آخر ، بل هي مشروعة في كلا العيدين على ما سيأتي بيانه - أن شاء الله - وما دفعني للكتابة في هاته المسألة هو أن بعضهم زعم أن التهنئة خاصة بعيد الفطر دون عيد الأضحى ، وهذا قول غريب ليس عليه آثار من آثار العلم والهدى ، ولا هو من هدي صحابة المصطفى الذين أمرنا بالإقتداء بهم والاهتداء بمنهجهم وهديهم ، فأحببت أن أبين الحق في المسألة من غير وكس ولا شطط مستنيرا بفعل السلف ، وأقوال العلماء أئمة الهدى ، والآن إليك بيان ذلك بألفاظ مقدودة على قدودها بلا طول ولا قصر ، وعلينا وعليك الإنصاف ، والإذعان للحق مهما كان في كل مكان وزمان مهما كان قائله ممن جاءنا به لأن ذلك من شيم الرجال الذين رباهم العلم على منهج السلف. وما أردت إلا النصح ما استطعت وما توفيقي إلا بالله سبحانه عليه توكلت وإليه أنيب ، فإن أصبت فمن الله ، وإن أخطأت فمن نفسي وأستغفر الله العظيم لذلك ،والله من وراء القصد وهو يهدي السبيل .
ذكر الآثار الواردة في التهنئة يوم العيد :
اعلم أخي رحمني الله وإياك أنه وردت طائفة طيبة من الآثار جاء فيها ذكر التهنئة بالعيد واستحبابها ، ذكر منها البيهقي طائفة لا بأس بها في سننه الكبرى ( ج3 / 319 ). فقال رحمه الله :
باب ما روي في قول الناس يوم العيد بعضهم لبعض تقبل الله منا ومنك :
عن خالد بن معدان قال لقيت واثلة بن الأسقع في يوم عيد فقلت تقبل الله منا ومنك . فقال : نعم ، تقبل الله منا ومنك . قال واثلة لقيت رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم عيد فقلت تقبل الله منا ومنك . قال : نعم ، تقبل الله منا ومنك .
أخبرنا أبو سعد الماليني وبنفس السند إلى واثلة بن الأسقع t قال لقيت رسول الله e يوم عيد فقلت تقبل الله منا ومنك.قال:نعم،تقبل الله منا ومنك .
أخبرنا أبو سعد الماليني قال : قال أبو أحمد بن عدي الحافظ هذا منكر لا أعلم يرويه عن بقية غير محمد بن إبراهيم هذا . قال الشيخ رحمه الله ( يعني البيهقي ) قد رأيته بإسناد آخر عن بقية موقوفا غير مرفوع ، ولا أراه محفوظا .
قلت : بقية مدلس ، وقد عنعنه ، ثم قد اختلف عليه فيه فمرة يرويه مرفوعا وأخرى موقوفا ، فالحديث ضعيف لهاتين العلتين والله أعلم .
أخبرنا أبو عبد الله الحافظ ثنا أبو العباس محمد بن يعقوب حدثنا العباس بن محمد حدثنا أحمد بن إسحاق حدثنا عبد السلام البزاز عن أدهم مولى عمر بن عبد العزيز قال :
كنا نقول لعمر بن عبد العزيز في العيدين تقبل الله منا، ومنك يا أمير المؤمنين فيرد علينا ولا ينكر ذلك علينا .
قال ابن التركماني رحمه الله في ذيله على السنن الكبرى المسمى<< الجوهر النقي على سنن البيهقي ( ج 3/ 320 )>>:
في هذا الباب حديث جيد أغفله البيهقي وهو حديث محمد بن زياد قال: كنت مع أبي أمامة الباهلي وغيره من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم فكانوا إذا رجعوا يقول بعضهم لبعض تقبل الله منا ومنك . قال أحمد بن حنبل إسناده إسناد جيد.
قال العلامة الشيخ الألباني رحمه الله تمام المنة ( 355 –356 ) : بعد أن ساق كلام ابن التركماني في الجوهر النقي لم يذكر من رواه – أي ابن التركماني- وقد عزاه السيوطي لزاهر أيضا بسند حسن عن محمد بن زياد الألهاني قال: رأيت أبا أمامة الباهلي يقول في العيد لأصحابه : تقبل الله منا ومنكم .
قلت : فقد صح الأثر والحمد لله الذي بنعمته تتم الصالحات بشهادة ثلاثة من فحول وفرسان علم الحديث.قال الحافظ ابن حجر في فتح الباري (ج2/ ص446) : ورينا في المحامليات بإسناد حسن عن جبير بن نفير قال: << كان أصحاب رسول الله إذا التقوا يوم العيد يقول بعضهم لبعض:تقبل الله مناومنك >>. وأنظر أيضا تمام المنة للشيخ الألباني رحمه الله( ص354 – 355).
وفيه من الفوائد :
1- قوله : كنت مع أبي أمامة الباهلي رضي الله عنه .. حرص التابعين على التعلم من الصحابة والاقتداء فيما يقومون به من أعمال .
2- وقوله وغيره من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم ،وقول جبير بن نفير : كان أصحاب رسول الله ، يعني ثبت عن مجموع الصحابة، وليس عن أبي أمامة فقط ..
3- أن قول ذلك كان عند رجوعهم وانصرافهم من صلاة العيد .
4- وأن ذلك يكون منهم في يوم العيد كما جاء في رواية جبير بن نفير قال: << كان أصحاب رسول الله إذا التقوا يوم العيد يقول بعضهم لبعض:تقبل الله مناومنك >>.
وقد سئل شيخ الإسلام ابن تيميه قدس الله روحه : هل التهنئة في العيد وما يجري على ألسنة الناس : << عيدك مبارك >> وما أشبهه ، هل له أصل في الشريعة ؟ أم لا؟ وإذا كان له أصل في الشريعة فما يقال ؟ أفتونا مأجورين .
الجواب: أما التهنئة يوم العيد يقول بعضهم لبعض إذا لقيه بعد صلاة العيد : تقبل الله منا ومنك. وأحاله الله عليك، ونحو ذلك، فهذا قد روي عن طائفة من الصحابة أنهم كانوا يفعلونه ، ورخص فيه الأئمة كأحمد وغيره . لكن قال أحمد أنا لا أبتدئ أحدا ، فإن ابتدأني أحد أجبته ، وذلك لأن جواب التحية واجب ، وأما الإبتداء بالتهنئة فليس سنة مأمورا بها ، ولا هو أيضا مما نهي عنه ، فمن فعله فله قدوة ، ومن تركه فله قدوة . والله أعلم. مجموع الفتاوى لابن تيميه (ج24 / ص233) ،والفتاوى الكبرى له ( ج2 /ص371).
قال ابن ضويان الحنبلي رحمه الله في منار السبيل (ج1 / ص100 ) ولا بأس بقوله لغيره تقبل الله منا ومنك ، نص عليه أي في مذهب أحمد ، قال لا بأس به ، يرويه أهل الشام عن أبي أمامة ، وواثلة بن الأسقع .
وقال الشيخ صالح البليهي رحمه الله في كتابه السلسبيل في معرفة الدليل : (ج1 /209 ) بعد الكلام على صلاة العيدين.
تكملة : لا بأس بتهنئة الناس بعضهم بعضا بما هو مستفيض بينهم من الكلام الذي لا محذور فيه ، ثم ذكر حديث واثلة ، وأبي أمامة ، وقول الإمام أحمد ، ثم قال : ويدل لما تقدم – أي التهنئة – ما ورد أن الملائكة قالت لآدم لما حج بر حجك . ولما تاب الله على كعب بن مالك قام إليه طلحة فهنئه .وقال عليه الصلاة والسلام :ليهنئك العلم أبا المنذر في قصة مشهورة .أه
ذكر الآثار الواردة في كراهية التهنئة يوم العيد :
لم يصح في ذلك شيء ولله الحمد والمنة .قال البيهقي رحمه الله في السنن الكبرى: (ج3 / 319 –320 ).
وقد روي حديث مرفوع في كراهية ذلك ولا يصح .
ثم ساق بسنده إلى الصحابي عبادة بن الصامت t قال : سألت رسول الله e عن قول الناس في العيدين تقبل الله منا ومنكم .قال ذلك فعل أهل الكتابين وكرهه.
قال البيهقي: عبد الخالق بن زيد- أحد الرجال الذين رووا هذا الحديث – منكر الحديث .
قاله البخاري . قلت : وفيه نعيم بن حماد ، وإن كان إماما في السنة وشديدا على أهل البدع والأهواء فقد ضعف من أجل روايته للمناكير وتفرده بها.وعلى هذا يكون هذا الحديث ضعيف لضعف كل من نعيم بن حماد وعبد الخالق بن زيد، ولمخالفته للآثار الأخرى وهي صحيحة في استحباب التهنئة ومشروعيتها في العيدين .
الراجــــــــــــح :
وعليه فهذا هو الراجح لثبوته عن السلف ،وخاصة الصحابة منهم في فعل التهنئة ، وما ذهب إليه هؤلاء الأئمة الأعلام الذين ذكرت لك أقوالهم آنفا ، فكن فقيه النفس ، متبع ، ولاتكن مقلدا أو مبتدعا.
مسألة : هل تختص التهنئة بعيد الفطر دون عيد الأضحى أم هي عامة :
اعلم وفقني الله وإياك للوقوف عند حدوده وطاعة رسوله والإتساء بهدي صحابته الكرام رضي الله عن الجميع ، والأخذ بأقوال علماء السلف اتباعا واهتداء " أولئك الذين هدى الله فبهداهم اقتد" أنه لم يثبت ولا حديث مرفوع إلى النبي eأو أثر عن الصحابة والتابعين فيما نعلم فيه ذكر اختصاص التهنئة بعيدالفطر دون غيره ، بل ثبت خلاف ذلك وإليك ذلك .وقبل أن أذكر ما ورد في ذلك أعرف العيد لغة وشرعا ،ثم أبين الراجح في المسألة فأقول وبالله تعالى التوفيق :
العيد : أسم لما يعود من الاجتماع العام على وجه معتاد عائد ، إما بعود السنة، أو بعود الأسبوع ، أو الشهر ، ونحو ذلك . لسـان العرب لابن منظور (ج 5 / 3159 ).
قال ابن القيم رحمه الله : العيد : ما يعتاد مجيئه وقصده ، من زمان ، ومكان . مأخوذ من العودة والاعتياد. الدين الخــالـص لصديق حسن خان (ج 3 / ص 595 ) .
فإذا كان اسما للمكان ، فهو المكان الذي يقصد فيه الاجتماع والإنتياب بالعبادة وبغيرها كما أن المسجد الحرام ، ومنى ، ومزدلفة ، وعرفة ، والمشاعر ، جعلها الله تعالى عيدا للحنفاء ، ومثابة للناس ، كما جعل أيام العيد منها عيدا.وكان للمشركين أعياد زمانية ومكانية ، فلما جاء الإســلام أبطلها ، وعوض الحنفاء منها عيد الفطــر ، وعيد النحــر ، كما عوضهم عن أعياد المشركين المكانية بدار الكعبة ، والمشاعـر. الدين الخــالـص لصديق حسن خان (ج 3 / ص 595 ) وهو كلام لشيخ الإســلام ابن تيميه في كتابه اقتضاء الصراط المستقيم في مخالفة أصحاب الجحيم ( ج 1 / 441 ) .
وقال شيخ الإسلام ابن تيميه رحمه الله: فالعيد: يجمع أمورا: منها يوم عائد كيوم الفطر ويوم الجمعة، ومنها: اجتماع فيه.ومنها أعمال تتبع ذلك: من العبادات والعادات، وقد يختص العيد بمكان بعينه، وقد يكون مطلقا، وكل من هذه الأمور قد يسمى عيدا. فالزمان: كقوله e ليوم الجمعة :<< إن هذا يوم جعله الله للمسلمين عيدا >> والاجتماع والأعمال : كقول ابن عباس : <<شهدت العيد مع رسول الله e >> والمكان : كقوله e:<< لا تتخــذوا قبري عيدا >>وقد يكون لفظ: العيد اسما لمجموع اليوم والعمل فيه،وهو الغالب كقول النبيe :<< دعهما يا أبا بكـر فإن لكل قوم عيدا وإن هـذا عيدنا>>2 – رواه البخاري.
ونستخلص من هــذا: أن كلمة أعياد تطلق على ما يعود ويتكـرر، ويغلب أن تكون على مستوى الجماعة أيا كانت هـذه الجماعة،أسرة أو أهل،قرية أو إقليم أو دولـة
والمناسبات التي تقام لها هذه الأعياد قد تكون ماضية تتجــدد، وقد تكون واقعة متجددة بنفسها يحتفل بها كلما وقعت،فالأولى كذكرى تأسيس دولة أو وقـوع معركة، والثانية كالمهرجانات التي توزع فيها الهدايا على النوابغ في ميدان العلم،أو الإنتاج المثمر المتميز في أي ميدان آخــر.
وهذه المناسبات التي يحتفل بها قد تكون دنيوية محضة،وقد تكون دينية أو عليها مسحـة دينية ، والإســلام بالنسبة لما هو دنيوي لا يمنع منه إلا ما كانت النية فيه غير طيبة، وما كانت مظاهره خارجـة عن حــدود الشــرع، أما ما هو ديني فقد يكون منصوصا على الاحتفال به ، وقد يكون غير منصوص عليه ، فما كان منصوصا فهو مشروع يشترط أن يؤدى على الوجــه الذي شـرع،ولا يخرج عن حـدود الدين العــامة والخاصة، أما ما لم يكن منصوصا عليه فللنّـاس قيه موقفان، فموقف جمهـور علماء السلـف قديما وحديثا المنـع لأنـه بدعــة ، وذهب بعض فقهاء الخـلف إلى الجـواز لعـدم النص على منعـه،وقد عرفت أن القول بعدم التنصيص على كل مسألــة يجعلنا ندخــل كثيرا من البدع في الدين،لأن الشارع لم ينص عليها بعينها،والله سبحانه وتعالى لم يفرط في شئ من أمــور الدين مما يحتاج إليه عباده، مما تعبدنا به قال سبحانه:)..مَّا فَرَّطْنَا فِي الكِتَابِ مِن شَيْءٍ ثُمَّ إِلَى رَبِّهِمْ يُحْشَرُونَ ( (3 سورة الأنعام } فكلمة [ شئ ] نكرة والنكرة في سياق النفي،أو النهي،أو الاستثناء تعم كل شئ، صغيرا كان أو كبيرا،وهنا نفي، وهذا يؤكده قوله تعالى:) وَنَزَّلْنَا عَلَيْكَ
الْكِتَابَ تِبْيَانًا لِّكُلِّ شَيْءٍ وَهُدًى وَرَحْمَةً وَبُشْرَى لِلْمُسْلِمِينَ( (89) سورة النحل }
قال الشيخ عبد الرحمن بن ناصر السعدي رحمه الله[ج1/255]: { مَا فَرَّطْنَا فِي الْكِتَابِ مِنْ شَيْءٍ } أي: ما أهملنا ولا أغفلنا، في اللوح المحفوظ شيئا من الأشياء، بل جميع الأشياء، صغيرها وكبيرها، مثبتة في اللوح المحفوظ، على ما هي عليه، فتقع جميع الحوادث طبق ما جرى به القلم.ويحتمل أن المراد بالكتاب، هذا القرآن، وأن المعنى كالمعنى في قوله تعالى : ) وَنزلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ تِبْيَانًا لِكُلِّ شَيْءٍ ( .
فكل عبادة نص عليها الشرع فهي توقيفية ، فلا يصح أن نفعلها على وجه لم يكن يفعله النبي ولا صحابته الكرام .وكل عمل لم يكن عليه هدي النبي e ولا جرى عليه عمل السلف فهو منصوص على تركه والنهي عنه .قال تعالى : ) وَمَن يُشَاقِقِ الرَّسُولَ مِن بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُ الْهُدَى وَيَتَّبِعْ غَيْرَ سَبِيلِ الْمُؤْمِنِينَ نُوَلِّهِ مَا تَوَلَّى وَنُصْلِهِ جَهَنَّمَ وَسَاءتْ مَصِيرًا ( (115) سورة النساء } .
قال الشيخ عبد الرحمن بن ناصر السعدي رحمه الله [ج 2/ 202] أي: ومن يخالف الرسول صلى الله عليه وسلم ويعانده فيما جاء به { مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُ الْهُدَى } بالدلائل القرآنية والبراهين النبوية.{ وَيَتَّبِعْ غَيْرَ سَبِيلِ الْمُؤْمِنِينَ } وسبيلهم هو طريقهم في عقائدهم وأعمالهم { نُوَلِّهِ مَا تَوَلَّى } أي: نتركه وما اختاره لنفسه، ونخذله فلا نوفقه للخير، لكونه رأى الحق وعلمه وتركه، فجزاؤه من الله عدلا أن يبقيه في ضلاله حائرا ويزداد ضلالا إلى ضلاله.
وقوله: { وَنُصْلِهِ جَهَنَّمَ } أي: نعذبه فيها عذابا عظيما. { وَسَاءَتْ مَصِيرًا } أي: مرجعا له ومآلا.
وهذا الوعيد المرتب (1) على الشقاق ومخالفة المؤمنين مراتب لا يحصيها إلا الله بحسب حالة الذنب صغرا وكبرا، فمنه ما يخلد في النار ويوجب جميع الخذلان. ومنه ما هو دون ذلك.
وقال خذيفة رضي الله عنه : أي عبادة لم يتعبدها أصحاب محمد فلا تعبدوها ، فما لم يكن يؤمئذ دينا فلا يكون اليوم دينا .أخرجه الدارمي في سننه .
أما الآثار الواردة في أن التهنئة لا تختص بعيد دون آخر فهي :
قال البيهقي في سننه الكبرى(ج3 /ص319 ): أخبرنا أبو عبد الله الحافظ حدثنا أبو العباس محمد بن يعقوب حدثنا العباس بن محمد حدثنا أحمد بن إسحاق حدثنا عند السلام البزاز عن أدهم مولى عمر بن العزيز قال كنا نقول لعمر بن عبد العزيز ( في الـعيدين ) تقبل الله منا ومنك يا أمير المؤمنين فيرد علينا ولا ينكر ذلك علينا.
فقول أدهم في العيدين ينصرف إلى ما عهد في الشرع وهو عيد الفطر والأضحى ، ولأنه لا يوجد عيدين سنويين في الإسلام إلا هذين اليومين كما نص على ذلك شيخ الإسلام ابن تيميه في اقتضاءه فليراجع . - اقتضاء الصراط المستقيم في مخالفة أصحاب الجحيم لشيخ الإسلام ابن تيميه( ج 1 / 441 ).
والدليل على ذلك ما جاء عن أنس بن مالك رضي الله عنه قال : قدم النبي ولأهل المدينة يومان يلعبون في الجاهلية – وهما النيروز ، والمهرجان – فقال :<< قدمت عليكم ولكم يومان تلعبون فيهما في الجاهلية ، وقد أبدلكم الله بهما خيرا منهما : يوم النحر ويوم
الفطر >>. صحيح،أخرجه أحمد في المسند( ج3/103،178،235 )وأبو داود (ح 1134) والنسائي (3/ 179 ) والبغوي (ح1098 ).
وأما ما ورد في الآثار من قولهم في العيد ، فالمقصود منه العيدين لأن لفظة العيد اسم جنس فيكون مستغرقا وشاملا لما شرع في الشرع وهما عيد الفطر والأضحى ، أضف إلى ذلك أن أداة التعريف << أل >> هنا للعهد الذهني فتكون على هذا منصرفة إلى المعهود في عرف الشرع الذي كان سائدا في عصر الصحابة.
وزيادة على ذلك ، فإن التعبير بالعيد هو اللائق لأن كل منهما يأتي على انفراد فلا يقال لقيته في العيدين ، وإنما يقال لقيته يوم العيد ، ولأن العيد سمي كذلك لأنه يعود ،عبرّ عنه بقوله : يقول بعضهم لبعض في العيد: < تقبل الله منا ومنك >، والعيد الأضحى يأتي عقب الفطر ، فلا حاجة لتكراره ، وأيضا فإن كل من ذكر التهنئة يذكرها في باب صلاة العيدين ، ولو كان المقصود عيد الفطر لقيدوه حتى لا يفهم من الإطلاق أنهم أرادوا العيدين المعروفين عند المسلمين، ثم نقول : ما وجه التفرقة بين عيد الفطر؛ وعيد الأضحى؛ وكل منهما جاء بعد عبادة فعلها المسلم تقربا إلى الله ؟ فلما يخص هذا بالتحية والدعاء دون هذا ؟ مع عدم ثبوت شيء عن النبي e في ذلك ، وأنه يتجوز في يوم العيد ما لا يتجوز في غيره كما قال النبيe لأبي بكر : << دعهما يا أبا بكر فإن لكل قوم عيد وهذا عيدنا >> وهو في الصحيحين.
فكيف يتجوز في مزمور الشيطان كما سماه أبو بكر رضي الله عنه ، وأقره النبيe ولم ينكر عليه ، ولا يتجوز في سبب من أكبر الأسباب التي تؤلف القلوب، وتجلب المودة والسرور، وهي التهنئة ، هذا مالا يقوله عاقل . ومن هنا تعلم أنه ما أوتي أحد خيرا مثل فقه في نصوص الكتاب والسنة على نهج السلف . والحمد رب العالمين.
يتبع إن شاء الله ...
الحمد لله الذي أرسل رسوله بالهدى ودين الحق ليظهره على الدين وكفى بالله شهيدا ، وأشهد أن لاإله إلا الله إقرارا به وتوحيدا وأشهد أن محمدا عبده ورسوله صلى الله عليه وسلم تسليما مزيدا .
فإن أصدق الحديث كتاب الله وخير الهدي هدي محمد صلى الله عليه وسلم ، وشر الأمور محدثاتها ، وكل محدثة بدعة ، وكل بدعة ضلالة وكل ضلالة في النار .
أما بعد : فإن الإسلام هو دين الله العظيم الذي ارتضاه للبشرية ليصلح به كل شأن من شؤون حياتها على مر الزمن ، وتقلب الدهر ، ولما كانت الأمة الإسلامية خير أمة أخرجت للناس اختصها الله بخير نبي أرسل ، وأعظم كتاب أنزل ، ولم يلتحق رسول الله بالملأ الأعلى إلا وقد أكمل الله به الدين وأتم علينا النعمة ورضي لنا الإسلام دينا .
ومن تمام كمال هذا الدين ويسره أن شرع لنا من العبادات مانزكي به نفوسنا ونطهر به قلوبنا ، ومن رحمة الله بعباده المؤمنين أن من عليهم بعيدين سنويين يعقبان عبادتين جليلتين ، عيد الفطر ، وفيه ما فيه من عوائد الإحسان من الفطر بعد المنع عن الطعام ، والنساء ، وصدقة الفطر وصلة الأرحام وغيرها ، وعيد الأضحى وما فيه من التوسعة على العيال بلحوم الأضاحي وغيرذلك من الفرح والسرور والنشاط والحبور وما يحصل لهم من بسط النفس وترويح البدن من كلف العبادة ، ومن الأمور التي أباحها الله لعباده في هذين اليومين التهنئة بالعيدين لما فيها من إظهار للدين وإرغام للشيطان والكفار والمنافقين ، الذين يغيظهم أن يروا المؤمنين أخوة متحابين متسامحين ، وإن من أعظم أسباب طاهرة قلوبهم وذهاب الضغينة والشحناء منها التحية التي قال الله فيها :) وإذا حييتم بتحية فحيوا بأحسن منها أو ردوها ( وقال e فيها : << أو لا أدلكم على شيء إذا فعلتموه تحاببتم ؟ أفشوا السلام بينكم >>. رواه مسلم .
وإن من التحية المشروعة يوم العيد والتي تكون سببا قويا من أسباب تأليف القلوب وتحابها التهنئة بالعيد التي كان الصحابة يقولها بعضهم لبعض ، وهذه التهنئة ليست خاصة بعيد دون آخر ، بل هي مشروعة في كلا العيدين على ما سيأتي بيانه - أن شاء الله - وما دفعني للكتابة في هاته المسألة هو أن بعضهم زعم أن التهنئة خاصة بعيد الفطر دون عيد الأضحى ، وهذا قول غريب ليس عليه آثار من آثار العلم والهدى ، ولا هو من هدي صحابة المصطفى الذين أمرنا بالإقتداء بهم والاهتداء بمنهجهم وهديهم ، فأحببت أن أبين الحق في المسألة من غير وكس ولا شطط مستنيرا بفعل السلف ، وأقوال العلماء أئمة الهدى ، والآن إليك بيان ذلك بألفاظ مقدودة على قدودها بلا طول ولا قصر ، وعلينا وعليك الإنصاف ، والإذعان للحق مهما كان في كل مكان وزمان مهما كان قائله ممن جاءنا به لأن ذلك من شيم الرجال الذين رباهم العلم على منهج السلف. وما أردت إلا النصح ما استطعت وما توفيقي إلا بالله سبحانه عليه توكلت وإليه أنيب ، فإن أصبت فمن الله ، وإن أخطأت فمن نفسي وأستغفر الله العظيم لذلك ،والله من وراء القصد وهو يهدي السبيل .
ذكر الآثار الواردة في التهنئة يوم العيد :
اعلم أخي رحمني الله وإياك أنه وردت طائفة طيبة من الآثار جاء فيها ذكر التهنئة بالعيد واستحبابها ، ذكر منها البيهقي طائفة لا بأس بها في سننه الكبرى ( ج3 / 319 ). فقال رحمه الله :
باب ما روي في قول الناس يوم العيد بعضهم لبعض تقبل الله منا ومنك :
عن خالد بن معدان قال لقيت واثلة بن الأسقع في يوم عيد فقلت تقبل الله منا ومنك . فقال : نعم ، تقبل الله منا ومنك . قال واثلة لقيت رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم عيد فقلت تقبل الله منا ومنك . قال : نعم ، تقبل الله منا ومنك .
أخبرنا أبو سعد الماليني وبنفس السند إلى واثلة بن الأسقع t قال لقيت رسول الله e يوم عيد فقلت تقبل الله منا ومنك.قال:نعم،تقبل الله منا ومنك .
أخبرنا أبو سعد الماليني قال : قال أبو أحمد بن عدي الحافظ هذا منكر لا أعلم يرويه عن بقية غير محمد بن إبراهيم هذا . قال الشيخ رحمه الله ( يعني البيهقي ) قد رأيته بإسناد آخر عن بقية موقوفا غير مرفوع ، ولا أراه محفوظا .
قلت : بقية مدلس ، وقد عنعنه ، ثم قد اختلف عليه فيه فمرة يرويه مرفوعا وأخرى موقوفا ، فالحديث ضعيف لهاتين العلتين والله أعلم .
أخبرنا أبو عبد الله الحافظ ثنا أبو العباس محمد بن يعقوب حدثنا العباس بن محمد حدثنا أحمد بن إسحاق حدثنا عبد السلام البزاز عن أدهم مولى عمر بن عبد العزيز قال :
كنا نقول لعمر بن عبد العزيز في العيدين تقبل الله منا، ومنك يا أمير المؤمنين فيرد علينا ولا ينكر ذلك علينا .
قال ابن التركماني رحمه الله في ذيله على السنن الكبرى المسمى<< الجوهر النقي على سنن البيهقي ( ج 3/ 320 )>>:
في هذا الباب حديث جيد أغفله البيهقي وهو حديث محمد بن زياد قال: كنت مع أبي أمامة الباهلي وغيره من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم فكانوا إذا رجعوا يقول بعضهم لبعض تقبل الله منا ومنك . قال أحمد بن حنبل إسناده إسناد جيد.
قال العلامة الشيخ الألباني رحمه الله تمام المنة ( 355 –356 ) : بعد أن ساق كلام ابن التركماني في الجوهر النقي لم يذكر من رواه – أي ابن التركماني- وقد عزاه السيوطي لزاهر أيضا بسند حسن عن محمد بن زياد الألهاني قال: رأيت أبا أمامة الباهلي يقول في العيد لأصحابه : تقبل الله منا ومنكم .
قلت : فقد صح الأثر والحمد لله الذي بنعمته تتم الصالحات بشهادة ثلاثة من فحول وفرسان علم الحديث.قال الحافظ ابن حجر في فتح الباري (ج2/ ص446) : ورينا في المحامليات بإسناد حسن عن جبير بن نفير قال: << كان أصحاب رسول الله إذا التقوا يوم العيد يقول بعضهم لبعض:تقبل الله مناومنك >>. وأنظر أيضا تمام المنة للشيخ الألباني رحمه الله( ص354 – 355).
وفيه من الفوائد :
1- قوله : كنت مع أبي أمامة الباهلي رضي الله عنه .. حرص التابعين على التعلم من الصحابة والاقتداء فيما يقومون به من أعمال .
2- وقوله وغيره من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم ،وقول جبير بن نفير : كان أصحاب رسول الله ، يعني ثبت عن مجموع الصحابة، وليس عن أبي أمامة فقط ..
3- أن قول ذلك كان عند رجوعهم وانصرافهم من صلاة العيد .
4- وأن ذلك يكون منهم في يوم العيد كما جاء في رواية جبير بن نفير قال: << كان أصحاب رسول الله إذا التقوا يوم العيد يقول بعضهم لبعض:تقبل الله مناومنك >>.
وقد سئل شيخ الإسلام ابن تيميه قدس الله روحه : هل التهنئة في العيد وما يجري على ألسنة الناس : << عيدك مبارك >> وما أشبهه ، هل له أصل في الشريعة ؟ أم لا؟ وإذا كان له أصل في الشريعة فما يقال ؟ أفتونا مأجورين .
الجواب: أما التهنئة يوم العيد يقول بعضهم لبعض إذا لقيه بعد صلاة العيد : تقبل الله منا ومنك. وأحاله الله عليك، ونحو ذلك، فهذا قد روي عن طائفة من الصحابة أنهم كانوا يفعلونه ، ورخص فيه الأئمة كأحمد وغيره . لكن قال أحمد أنا لا أبتدئ أحدا ، فإن ابتدأني أحد أجبته ، وذلك لأن جواب التحية واجب ، وأما الإبتداء بالتهنئة فليس سنة مأمورا بها ، ولا هو أيضا مما نهي عنه ، فمن فعله فله قدوة ، ومن تركه فله قدوة . والله أعلم. مجموع الفتاوى لابن تيميه (ج24 / ص233) ،والفتاوى الكبرى له ( ج2 /ص371).
قال ابن ضويان الحنبلي رحمه الله في منار السبيل (ج1 / ص100 ) ولا بأس بقوله لغيره تقبل الله منا ومنك ، نص عليه أي في مذهب أحمد ، قال لا بأس به ، يرويه أهل الشام عن أبي أمامة ، وواثلة بن الأسقع .
وقال الشيخ صالح البليهي رحمه الله في كتابه السلسبيل في معرفة الدليل : (ج1 /209 ) بعد الكلام على صلاة العيدين.
تكملة : لا بأس بتهنئة الناس بعضهم بعضا بما هو مستفيض بينهم من الكلام الذي لا محذور فيه ، ثم ذكر حديث واثلة ، وأبي أمامة ، وقول الإمام أحمد ، ثم قال : ويدل لما تقدم – أي التهنئة – ما ورد أن الملائكة قالت لآدم لما حج بر حجك . ولما تاب الله على كعب بن مالك قام إليه طلحة فهنئه .وقال عليه الصلاة والسلام :ليهنئك العلم أبا المنذر في قصة مشهورة .أه
ذكر الآثار الواردة في كراهية التهنئة يوم العيد :
لم يصح في ذلك شيء ولله الحمد والمنة .قال البيهقي رحمه الله في السنن الكبرى: (ج3 / 319 –320 ).
وقد روي حديث مرفوع في كراهية ذلك ولا يصح .
ثم ساق بسنده إلى الصحابي عبادة بن الصامت t قال : سألت رسول الله e عن قول الناس في العيدين تقبل الله منا ومنكم .قال ذلك فعل أهل الكتابين وكرهه.
قال البيهقي: عبد الخالق بن زيد- أحد الرجال الذين رووا هذا الحديث – منكر الحديث .
قاله البخاري . قلت : وفيه نعيم بن حماد ، وإن كان إماما في السنة وشديدا على أهل البدع والأهواء فقد ضعف من أجل روايته للمناكير وتفرده بها.وعلى هذا يكون هذا الحديث ضعيف لضعف كل من نعيم بن حماد وعبد الخالق بن زيد، ولمخالفته للآثار الأخرى وهي صحيحة في استحباب التهنئة ومشروعيتها في العيدين .
الراجــــــــــــح :
وعليه فهذا هو الراجح لثبوته عن السلف ،وخاصة الصحابة منهم في فعل التهنئة ، وما ذهب إليه هؤلاء الأئمة الأعلام الذين ذكرت لك أقوالهم آنفا ، فكن فقيه النفس ، متبع ، ولاتكن مقلدا أو مبتدعا.
مسألة : هل تختص التهنئة بعيد الفطر دون عيد الأضحى أم هي عامة :
اعلم وفقني الله وإياك للوقوف عند حدوده وطاعة رسوله والإتساء بهدي صحابته الكرام رضي الله عن الجميع ، والأخذ بأقوال علماء السلف اتباعا واهتداء " أولئك الذين هدى الله فبهداهم اقتد" أنه لم يثبت ولا حديث مرفوع إلى النبي eأو أثر عن الصحابة والتابعين فيما نعلم فيه ذكر اختصاص التهنئة بعيدالفطر دون غيره ، بل ثبت خلاف ذلك وإليك ذلك .وقبل أن أذكر ما ورد في ذلك أعرف العيد لغة وشرعا ،ثم أبين الراجح في المسألة فأقول وبالله تعالى التوفيق :
العيد : أسم لما يعود من الاجتماع العام على وجه معتاد عائد ، إما بعود السنة، أو بعود الأسبوع ، أو الشهر ، ونحو ذلك . لسـان العرب لابن منظور (ج 5 / 3159 ).
قال ابن القيم رحمه الله : العيد : ما يعتاد مجيئه وقصده ، من زمان ، ومكان . مأخوذ من العودة والاعتياد. الدين الخــالـص لصديق حسن خان (ج 3 / ص 595 ) .
فإذا كان اسما للمكان ، فهو المكان الذي يقصد فيه الاجتماع والإنتياب بالعبادة وبغيرها كما أن المسجد الحرام ، ومنى ، ومزدلفة ، وعرفة ، والمشاعر ، جعلها الله تعالى عيدا للحنفاء ، ومثابة للناس ، كما جعل أيام العيد منها عيدا.وكان للمشركين أعياد زمانية ومكانية ، فلما جاء الإســلام أبطلها ، وعوض الحنفاء منها عيد الفطــر ، وعيد النحــر ، كما عوضهم عن أعياد المشركين المكانية بدار الكعبة ، والمشاعـر. الدين الخــالـص لصديق حسن خان (ج 3 / ص 595 ) وهو كلام لشيخ الإســلام ابن تيميه في كتابه اقتضاء الصراط المستقيم في مخالفة أصحاب الجحيم ( ج 1 / 441 ) .
وقال شيخ الإسلام ابن تيميه رحمه الله: فالعيد: يجمع أمورا: منها يوم عائد كيوم الفطر ويوم الجمعة، ومنها: اجتماع فيه.ومنها أعمال تتبع ذلك: من العبادات والعادات، وقد يختص العيد بمكان بعينه، وقد يكون مطلقا، وكل من هذه الأمور قد يسمى عيدا. فالزمان: كقوله e ليوم الجمعة :<< إن هذا يوم جعله الله للمسلمين عيدا >> والاجتماع والأعمال : كقول ابن عباس : <<شهدت العيد مع رسول الله e >> والمكان : كقوله e:<< لا تتخــذوا قبري عيدا >>وقد يكون لفظ: العيد اسما لمجموع اليوم والعمل فيه،وهو الغالب كقول النبيe :<< دعهما يا أبا بكـر فإن لكل قوم عيدا وإن هـذا عيدنا>>2 – رواه البخاري.
ونستخلص من هــذا: أن كلمة أعياد تطلق على ما يعود ويتكـرر، ويغلب أن تكون على مستوى الجماعة أيا كانت هـذه الجماعة،أسرة أو أهل،قرية أو إقليم أو دولـة
والمناسبات التي تقام لها هذه الأعياد قد تكون ماضية تتجــدد، وقد تكون واقعة متجددة بنفسها يحتفل بها كلما وقعت،فالأولى كذكرى تأسيس دولة أو وقـوع معركة، والثانية كالمهرجانات التي توزع فيها الهدايا على النوابغ في ميدان العلم،أو الإنتاج المثمر المتميز في أي ميدان آخــر.
وهذه المناسبات التي يحتفل بها قد تكون دنيوية محضة،وقد تكون دينية أو عليها مسحـة دينية ، والإســلام بالنسبة لما هو دنيوي لا يمنع منه إلا ما كانت النية فيه غير طيبة، وما كانت مظاهره خارجـة عن حــدود الشــرع، أما ما هو ديني فقد يكون منصوصا على الاحتفال به ، وقد يكون غير منصوص عليه ، فما كان منصوصا فهو مشروع يشترط أن يؤدى على الوجــه الذي شـرع،ولا يخرج عن حـدود الدين العــامة والخاصة، أما ما لم يكن منصوصا عليه فللنّـاس قيه موقفان، فموقف جمهـور علماء السلـف قديما وحديثا المنـع لأنـه بدعــة ، وذهب بعض فقهاء الخـلف إلى الجـواز لعـدم النص على منعـه،وقد عرفت أن القول بعدم التنصيص على كل مسألــة يجعلنا ندخــل كثيرا من البدع في الدين،لأن الشارع لم ينص عليها بعينها،والله سبحانه وتعالى لم يفرط في شئ من أمــور الدين مما يحتاج إليه عباده، مما تعبدنا به قال سبحانه:)..مَّا فَرَّطْنَا فِي الكِتَابِ مِن شَيْءٍ ثُمَّ إِلَى رَبِّهِمْ يُحْشَرُونَ ( (3 سورة الأنعام } فكلمة [ شئ ] نكرة والنكرة في سياق النفي،أو النهي،أو الاستثناء تعم كل شئ، صغيرا كان أو كبيرا،وهنا نفي، وهذا يؤكده قوله تعالى:) وَنَزَّلْنَا عَلَيْكَ
الْكِتَابَ تِبْيَانًا لِّكُلِّ شَيْءٍ وَهُدًى وَرَحْمَةً وَبُشْرَى لِلْمُسْلِمِينَ( (89) سورة النحل }
قال الشيخ عبد الرحمن بن ناصر السعدي رحمه الله[ج1/255]: { مَا فَرَّطْنَا فِي الْكِتَابِ مِنْ شَيْءٍ } أي: ما أهملنا ولا أغفلنا، في اللوح المحفوظ شيئا من الأشياء، بل جميع الأشياء، صغيرها وكبيرها، مثبتة في اللوح المحفوظ، على ما هي عليه، فتقع جميع الحوادث طبق ما جرى به القلم.ويحتمل أن المراد بالكتاب، هذا القرآن، وأن المعنى كالمعنى في قوله تعالى : ) وَنزلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ تِبْيَانًا لِكُلِّ شَيْءٍ ( .
فكل عبادة نص عليها الشرع فهي توقيفية ، فلا يصح أن نفعلها على وجه لم يكن يفعله النبي ولا صحابته الكرام .وكل عمل لم يكن عليه هدي النبي e ولا جرى عليه عمل السلف فهو منصوص على تركه والنهي عنه .قال تعالى : ) وَمَن يُشَاقِقِ الرَّسُولَ مِن بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُ الْهُدَى وَيَتَّبِعْ غَيْرَ سَبِيلِ الْمُؤْمِنِينَ نُوَلِّهِ مَا تَوَلَّى وَنُصْلِهِ جَهَنَّمَ وَسَاءتْ مَصِيرًا ( (115) سورة النساء } .
قال الشيخ عبد الرحمن بن ناصر السعدي رحمه الله [ج 2/ 202] أي: ومن يخالف الرسول صلى الله عليه وسلم ويعانده فيما جاء به { مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُ الْهُدَى } بالدلائل القرآنية والبراهين النبوية.{ وَيَتَّبِعْ غَيْرَ سَبِيلِ الْمُؤْمِنِينَ } وسبيلهم هو طريقهم في عقائدهم وأعمالهم { نُوَلِّهِ مَا تَوَلَّى } أي: نتركه وما اختاره لنفسه، ونخذله فلا نوفقه للخير، لكونه رأى الحق وعلمه وتركه، فجزاؤه من الله عدلا أن يبقيه في ضلاله حائرا ويزداد ضلالا إلى ضلاله.
وقوله: { وَنُصْلِهِ جَهَنَّمَ } أي: نعذبه فيها عذابا عظيما. { وَسَاءَتْ مَصِيرًا } أي: مرجعا له ومآلا.
وهذا الوعيد المرتب (1) على الشقاق ومخالفة المؤمنين مراتب لا يحصيها إلا الله بحسب حالة الذنب صغرا وكبرا، فمنه ما يخلد في النار ويوجب جميع الخذلان. ومنه ما هو دون ذلك.
وقال خذيفة رضي الله عنه : أي عبادة لم يتعبدها أصحاب محمد فلا تعبدوها ، فما لم يكن يؤمئذ دينا فلا يكون اليوم دينا .أخرجه الدارمي في سننه .
أما الآثار الواردة في أن التهنئة لا تختص بعيد دون آخر فهي :
قال البيهقي في سننه الكبرى(ج3 /ص319 ): أخبرنا أبو عبد الله الحافظ حدثنا أبو العباس محمد بن يعقوب حدثنا العباس بن محمد حدثنا أحمد بن إسحاق حدثنا عند السلام البزاز عن أدهم مولى عمر بن العزيز قال كنا نقول لعمر بن عبد العزيز ( في الـعيدين ) تقبل الله منا ومنك يا أمير المؤمنين فيرد علينا ولا ينكر ذلك علينا.
فقول أدهم في العيدين ينصرف إلى ما عهد في الشرع وهو عيد الفطر والأضحى ، ولأنه لا يوجد عيدين سنويين في الإسلام إلا هذين اليومين كما نص على ذلك شيخ الإسلام ابن تيميه في اقتضاءه فليراجع . - اقتضاء الصراط المستقيم في مخالفة أصحاب الجحيم لشيخ الإسلام ابن تيميه( ج 1 / 441 ).
والدليل على ذلك ما جاء عن أنس بن مالك رضي الله عنه قال : قدم النبي ولأهل المدينة يومان يلعبون في الجاهلية – وهما النيروز ، والمهرجان – فقال :<< قدمت عليكم ولكم يومان تلعبون فيهما في الجاهلية ، وقد أبدلكم الله بهما خيرا منهما : يوم النحر ويوم
الفطر >>. صحيح،أخرجه أحمد في المسند( ج3/103،178،235 )وأبو داود (ح 1134) والنسائي (3/ 179 ) والبغوي (ح1098 ).
وأما ما ورد في الآثار من قولهم في العيد ، فالمقصود منه العيدين لأن لفظة العيد اسم جنس فيكون مستغرقا وشاملا لما شرع في الشرع وهما عيد الفطر والأضحى ، أضف إلى ذلك أن أداة التعريف << أل >> هنا للعهد الذهني فتكون على هذا منصرفة إلى المعهود في عرف الشرع الذي كان سائدا في عصر الصحابة.
وزيادة على ذلك ، فإن التعبير بالعيد هو اللائق لأن كل منهما يأتي على انفراد فلا يقال لقيته في العيدين ، وإنما يقال لقيته يوم العيد ، ولأن العيد سمي كذلك لأنه يعود ،عبرّ عنه بقوله : يقول بعضهم لبعض في العيد: < تقبل الله منا ومنك >، والعيد الأضحى يأتي عقب الفطر ، فلا حاجة لتكراره ، وأيضا فإن كل من ذكر التهنئة يذكرها في باب صلاة العيدين ، ولو كان المقصود عيد الفطر لقيدوه حتى لا يفهم من الإطلاق أنهم أرادوا العيدين المعروفين عند المسلمين، ثم نقول : ما وجه التفرقة بين عيد الفطر؛ وعيد الأضحى؛ وكل منهما جاء بعد عبادة فعلها المسلم تقربا إلى الله ؟ فلما يخص هذا بالتحية والدعاء دون هذا ؟ مع عدم ثبوت شيء عن النبي e في ذلك ، وأنه يتجوز في يوم العيد ما لا يتجوز في غيره كما قال النبيe لأبي بكر : << دعهما يا أبا بكر فإن لكل قوم عيد وهذا عيدنا >> وهو في الصحيحين.
فكيف يتجوز في مزمور الشيطان كما سماه أبو بكر رضي الله عنه ، وأقره النبيe ولم ينكر عليه ، ولا يتجوز في سبب من أكبر الأسباب التي تؤلف القلوب، وتجلب المودة والسرور، وهي التهنئة ، هذا مالا يقوله عاقل . ومن هنا تعلم أنه ما أوتي أحد خيرا مثل فقه في نصوص الكتاب والسنة على نهج السلف . والحمد رب العالمين.
يتبع إن شاء الله ...
تعليق